الجمعة 21 يونيو 2024

طرائف ومواقف من حياة طه حسين

فن23-10-2020 | 15:21

فى أوائل عشرينيات القرن الحالى، كان المرحوم الأديب الأستاذ عبدالله حبيب موظفاً صغيراً بدار الكتب، كان متوثب الفكر، مفتوناً بشبابه، لا يقدر عواقب ما يخط بقلمه.

وفى أواخر عام 1922 نظم شاعر النيل المرحوم حافظ إبراهيم قصيدة يحيى بها الملك فؤاد بمناسبة افتتاح المدرسة الثانوية التى حملت اسمه فتناول الدكتور طه حسين هذه القصيدة بالنقد اللاذع فى مقال له بجريدة السياسة... وتألم حافظ من هذا النقد وعز على عبدالله حبيب أن يتألم حافظ، فكتب مقالاً قاسياً فى صحيفة الأفكار دافع فيه عن قصيدة حافظ وهاجم مقال طه حسين، هجوماً تعثر به قلمه فى مزالق المسئوليات الجنائية.

وامتدح حافظ جرأة عبدالله حبيب وأدبه وقبله قبلة شكر عميقة... واغتبط الأستاذ حبيب بهذا التقدير، ولكن اغتباطه لم يطل إذ قدم بعد قليل إلى محكمة الجنايات متهماً بالقذف فى حق الدكتور طه حسين.

واستمرت محكمة الجنايات تنظر الدعوى نحو عام، وفى اليوم الأخير تفرس رئيس الدائرة فى وجه الأستاذ حبيب قليلاً ثم أمر برفع الجلسة، وطلب حضور المدعى والمحامين والمتهم إلى قاعة المداولة، ولما استقر بهم المجلس توجه رئيس الدائرة إلى الدكتور طه حسين قائلاً:

- لعل الدكتور طه حسين يوافقنى على أن هذا الكاتب الشاب لم يدفعه إلى كتابة هذا المقال إلا نزق شبابه، أما التهمة فثابتة، وأما العقاب فمحقق.. لكن أليس أجمل أن تصون مستقبل هذا الشاب بتنازلك عن الدعوى؟

وتأثر الدكتور طه أعمق التأثر وأجاب دون تردد:

- قد تنازلت..

وأفاق عبدالله حبيب من كابوس فظيع ودهشة عارمة ووجد نفسه مكباً على رأس الدكتور طه يقبله ويعتذر إليه فى عمق وحرارة...

لن، ولن

اشتهر د. طه حسين بحبه للأدباء والشعراء والعمل على مساعدتهم، فلم يقصده أحد فى حاجة إلا قضاها له طالما كانت فى حدود المعقول، وكان أحد الشعراء المتصلين به قد نقل إلى مدرسة بالصعيد لترقيته إلى وظيفة مدرس أول.

وحاول هذا المدرس أن يعود إلى القاهرة فى نفس العام الذى نقل فيه، ولكن قواعد الترقية كانت تحتم أن يمضى المدرس المرقى عامين فى المدرسة التى نقل إليها.

وحاول المدرس أن يستدر عطف الدكتور طه لينقله إلى القاهرة دون جدوى، حتى يأس من ذلك، ثم راجت شائعة بأن طه حسين سيترك وزارة المعارف (وكان يومئذ مستشاراً لها) إلى منصب آخر بالخارج، فأرسل المدرس إليه برقية نصها: «انقلنى قبل أن تنقل» وأجاب طه حسين على تلك البرقية ببرقية أخرى نصها: "لن أنقل ولن تنقل"

ذاكرة عجيبة

كان طه حسين من أذكى المصريين وأقواهم حافظة، وعندما كان يعمل فى الصحافة، كان يكتب مقالاته السياسية الطوال، يمليها على سكرتيره الخاص الذى يحملها إلى المطبعة بعد الانتهاء من إملائها، وحدث كثيراً أن اتصلت مطابع تلك الصحف بالدكتور طه حسين لتطلب منه حذف مساحة نصف عمود أو ربع عمود على حسب المكان المحدد للمقال، فكان طه حسين يقول لسكرتيره:

- ارفع الفقرة التى تبدأ بكذا وتنتهى بكذا، ويرفعها السكرتير فإذا بها كما طلب عامل المطبعة بالضبط ويعرض السكرتير على الدكتور طه أن يقرأ له المقال ثانية ليتأكد أن سياق الموضوع لم يمس ولكن طه يرفض قائلاً:

- إننى أتصور المقال الآن ولا حاجة بى لأن تقرأه لى مرة أخرى.        

ابن عظيم

كلفت مجلة «الاثنين» التى كانت تصدرها دار الهلال، أحد محرريها بجمع مواد لموضوع «درس تعلمته من أبى» وهى تتلخص فى دروس وعاها أبناء العظماء عن آبائهم.

ولما طلب المحرر تليفونياً منزل الدكتور طه حسين ليسأل عن ابنه «مؤنس» رد الدكتور طه نفسه، ولما علم من المحرر بالموضوع قال:

 - لكن الموضوع عن أبناء العظماء... ومن قال لك أن «مؤنس» ابن عظيم؟!

 

الحرص على اللغة

وعندما كان الدكتور طه حسين وزيراً للمعارف، أصدر قراراً بتعيين أحد المدرسين، ومضت فترة دون أن يتسلم هذا المدرس عمله، فقدم للوزير شكوى يقول فيها: «إننى لم أتسلم عملى بسبب نقص «مصوغات» التعيين وعندما تلى هذا الخطاب عليه واستمع إلى كلمة «مصوغات» أمر بصرف النظر عن تعيين هذا المدرس.

وكتبت إليه مراقبة اللغة العربية بالوزارة تقول: «نرجو انتداب المدرسان فلان وفلان إلى مدارس كذا وكذا، فأمر د. طه حسين بأن يؤشر على الخطاب بما يأتى: "يعاد إلى مراقبة اللغة العربية أو مراقبة محو الأمية".

مع التقاليد الجامعية

كان الدكتور طه حسين هو الأستاذ المشرف على الرسالة التى تقدمت بها السيدة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) لنيل درجة الدكتوراه فى الأدب العربى فى موضوع رسالة الغفران...

وأجيزت الرسلة للمناقشة منذ عام 1948، غير أنه حيل بين الدكتور طه وبين حضور مناقشتها لاعتبارات سياسية عارضت يومئذ دخوله كلية الآداب وكان مجلس تلك الكلية قد رفض تعيينه أستاذاً غير متفرغ بقسم اللغة العربية.

ولكن الطالبة «بنت الشاطئ» تمسكت بضرورة حضور الأستاذ المشرف... فظل الأمر معلقاً حتى تولى الدكتور طه حسين وزارة المعارف فى يناير 1950، وعندئذ قررت كلية الآداب مناقشة الرسالة واشترك الدكتور طه فى مناقشتها بصفته المشرف عليها.

وكانت لوائح الجامعة تقضى بأن يكون عميد الكلية هو رئيس لجنة المناقشة، وبذلك فإن الدكتور طه يكون مرءوساً لعميد الكلية، وكان هو المرحوم الدكتور زكى حسن.

وسئل الدكتور طه عما إذا كان هذا لا يتعارض مع منصبه كوزير للمعارف ورئيس أعلى للجامعة؟.. فأجاب بأنه إذا تعارضت التقاليد الوزارية مع التقاليد الجامعية فإنه يعتبر نفسه فى هذه الحالة جامعياً لا وزيراً، وأنه متنازل عن منصبه الوزارى طيلة فترة مناقشة الرسالة..

يلغى تقريراً كتبه

وحدث عندما عرض عليه تقرير لجنة الكتب الإضافية للمدارس الثانوية، وما فى مستواها، أن لاحظ - وكان وزيراً للمعارف - أن من بين هذه الكتب كتابين من تأليفه، وبالرغم من أنهما كانا مقررين من قبل توليه الوزارة، إلا أنه رفض أن يعتمد هذا التقرير إلا بعد حذف الكتابين وتقرير كتابين آخرين غيرهما.

وحاول بعض المختصين إقناعه بالعدول عن هذا الرأى حتى لا يحرم الطلبة من أدب طه حسين، ولكنه أصر على قراره حتى لا يقال أن وزير المعارف يعتمد تقريراً كتب لنفسه.

محا الشكر بالشكر

كان الأستاذ على الجندى - عميد كلية دار العلوم سابقاً - قد تعرض لضائقة نفسية حملته كراهة فى الحياة فحمله الدكتور طه حسين على أن يتفتح للحياة حباً فى الحياة..

وقد شكره الأستاذ الجندى برقياً بأبيات شعرية، لأنه كما قال، استحى أن يقابله... وفيما يلى نص تلك الأبيات:

من لى بمثل بيان طه

مبدع السحر الحلال

حتى أقوم بشكر ما

أوليت يا فخر الرجال

كنز المروءة أنت بين

العالمين بلا جدال

حققت آمالاً ظننت

بلوغهن من المحال

فلك الثناء ولا برحت

لجيلنا أبهى مثال

وأبى كرم الدكتور طه إلا أن يرد عليه بهذين البيتين:

من لى بقلب مثل قلبك

أو بفن مثل فنك

حتى أقوم بشكر ما

أوليتنى من حسن ظنك

ثم دعاه بعد ذلك ليتناول معه القهوة فى منزله.. وعقب أن تلاقيا وتصافحا جرى بينهما حديث بدأه الدكتور طه حسين بقوله:

- والله لا أقبل شكراً...

فكان جواب على الجندى:

- ما جئت لأشكرك ولكن جئت لأحتج، أولاً: لأنك محوت شكرى بشكرك ولعلك فى هذا تريد أن تقتدى بيحيى بن خالد البرمكى، فقد قيل له: «إن قوماً جاءوا يشكرونك، فقال: «من لنا بشكر شكرهم» وثانياً: أن شعرك، على وجازته، خير من شعرى وأجمل باعتراف الشعراء، فكأنه لم يكفك أنك حُلت بينى وبين مقابلة الجميل بمثله حتى زدت على ذلك.. إنك أزريت بشاعريتى وخلفتنى متخلفاً وأنا شاعر محترف فضحك الدكتور طه حسين.