بعض
المتعصبين وقصار النظر يتهمون طه حسين في دينه ويرمونه بأفظع تهم التكفير والتفسيق
استناداً إلى قضية الشعر الجاهلي التي تراجع فيما بعد عن أكثر ما أحاط بها من
شبهات ، ولا يعلم هؤلاء المتعصبون وقصار النظر أن طه حسين الذي عرف بأنه متزوج من
مسيحية لم يقبل أن يهان الإسلام في بلد الأزهر الشريف وحمل حملات عنيفة ضد أولئك
المبشرين الذين أرادوا بالإسلام وبمصر كل سوء.
واتفقت
آراء طه حسين في هذه القضية مع آراء الشيخ محمد مصطفى المراغي الذي ولي مشيخة
الأزهر بعض الوقت ثم أقصي عنها ثم وليها مرة ثانية ، وكان الشيخ المراغي حين نشبت
فكرة التنصير خارج السلطة ولكنه كان علماً
بارزاً من أعلام الأزهر ، فأسس جماعة سماها " جماعة الدفاع عن الإسلام "
تبنت قضية التنصير وأبلت فيها بلاءً حسنا .
وتقدم
الشيخ المراغي إلى نائب رئيس الوزراء بمذكرة باسم تلك الجماعة يطالب الحكومة فيها
أن ترد عن المصريين عدوان تلك الهيئات الأجنبية التي تنهض بأعمال التبشير ، وكتب
طه حسين يناصر هذا الموقف في مقال بعنوان واجبات(1) :
“
فالأستاذ (يقصد المراغي) ومن ورائه جماعة الدفاع عن الإسلام لا يذود عن الإسلام
وحده ، ولكن يذود عن المسيحية أيضاً ، بل هو يذود عن الحرية المصرية كلها . وما
كان لعلماء الإسلام غير هذا الطريق أو يتحدثوا بغير هذه اللهجة ، فدينهم يلزمهم
الذود عن حرية الرأي ، ودينهم يلزمهم أن يتوخوا الحق في كل ما يقولون وما يعملون .
والحق أن الإسلام دين الدولة ، ودين كثرة المصريين ، فيجب أن يحميه المصريون
جميعاً ، وأن تكون الحكومة أول من يحميه ، والحق أن المسيحية دين جماعة من
المصريين وأن الكنيسة القبطية مظهر من مظاهر المجد المصري المؤثر ، فيجب أن يحميها
المصريون جميعاً ، وأن تكون الحكومة أول من ينهض بحمايتها . والحق أن لا إكراه في
الدين فيجب على المصريين جميعاً أن يحموا كل دين قائم في مصر من الإكراه مهما يكن
. يجب أن تحمى الديانات من أن يخرج الناس منها مكرهين . ويجب أن يستبين للناس
جميعاً أن الإكراه في نفسه إثم يمقته الدين ويمقته القانون” .
يقول
طه حسين في مقالته نفسها : “ ولو أن عدوان هؤلاء المبشرين وقع من المسلمين على
الأقباط أو من الأقباط على المسلمين لما ترددت الحكومة في تنفيذ القانون ، وترفع
أمر الآثمين إلى القضاء ، لأن هؤلاء الآثمين سيكونون يومئذ من المصريين الذين لا
تحميهم الامتيازات ولا تتحرج الحكومة من أخذهم بالشدة حتى يقضي العدل بذلك.
وليس من شك في أن
وزارات الخارجية والمفوضيات السياسية لم تنشأ لتكون زينة وإنما لتحقق الصلات
الصادقة المتينة بين الأمم والشعوب ، فإذا جنى الأجانب في مصر جناية أو اقترفوا
إثماً وأخلوا بواجبات الضيافة ، فمن الحق على وزارة الخارجية المصرية أن تستخدم
نفوذها السياسي لتقوم هذا العوج وتصلح هذا الفساد ” .
تطور
أمر هؤلاء المبشرين الذين يرتدون مسوح الدين المسيحي السمح وكشفوا من نفسيات غير
سوية فأشاعوا الفساد الخلقي في المؤسسات التربوية التي يعملون بها فأخذوا يغررون
بالفتيات الصغيرات فيغررونهن بالحب ثم يتزوجوهن بعد أن يرتددن عن الإسلام أو
يغتصبوهن ثم يتركوهن ، وقد كشف طه حسين هذه الأفاعيل الدنيئة في مقال ساخن عنوانه
" فتنة"(2) فقال :
“
وقصرت الحكومة أو عجزت عن النهوض بواجبها فلم تحم دين المصريين ولا كرامتهم ولا
عزتهم القومية حتى انتهى الشر إلى غايته وبلغ عدوان هؤلاء الناس أقصاه فإذا
بالصبيان ينصرون جهرة ، ويصرفون عن دينهم في وضح النهار ” .
وعندما
ييأس طه حسين من تحرك الحكومة يلجأ إلى استنفار البرلمان بمجلسيه : مجلس الشيوخ
ومجلس النواب ، فيستثير حفيظتهم ليذودوا عن دينهم المضطهد في عقر داره فيقول :
“
وأخبار هذا كله تنشر في الصحف مفصلة مطولة ، والناس يستكشفون في كل يوم شراً ،
ويفضحون في كل يوم سراً ، والرسائل تبلغ الصحف كثيرة متصلة ملحة مستنهضة للهمم ،
مستثيرة للعواطف مستغلة ما تبذله الصحف من جهد ، منكرة صمد الصحف الصامدة وفتور
الصحف الفاترة . ونحن نلقي هذا كله صابرين متحفظين مبالغين في الصبر والتحفظ ، لأن
ما نزال نعتقد أن هذا الأمر فتنة لم يكن ينبغي أن تثار ، وأن هذه الفتنة بعد أن
أثيرت يجب أن تخمد وأن يرد شرها عن الناس .
لذلك
لا نزال نلح على الحكومة في أن تبحث عن نصيب آخر من الشجاعة غير هذا النصيب الذي
ظفرت به في الأسبوع الماضي فقد ظهر أن شجاعة الأسبوع الماضي لا تكفي وأن حزم
الأسبوع الماضي أضعف من أن يفي بالحاجة ويبسط سلطان الحكومة ، لا أقول على
المبشرين ، بل أقول على هؤلاء الفتيات المصريات اللاتي يغتصبهن المبشرون اغتصاباً
.
يجب
أن تبحث الحكومة عن نصيب جديد من الشجاعة والحزم لعل الله أن يفتح به عليها فتشعر
هؤلاء المبشرين بأنهم يقيمون في بلد متحضر ، في دولة قائمة ، ولهذه الدولة نظم
لابد أن تحترم وحرمات يجب أن تراعي ، وقوة يجب أن تطاع . فمن تعدى حدود هذه النظم
وهذه المحرمات وهذه القوة فإن هذه الدولة قادرة على أن تأخذه بالحق في ذلك أخذاً
عنيفاً .
ومن الأشياء التي لا
تقبل شكاً ولا نزاعاً أن لمصر دستوراً ، فمن أنكر ذلك عاقبه القانون ، أن هذا
الدستور قد أنشأ في مصر برلماناً، ومن أنكر ذلك ساقته النيابة إلى القضاء ، أن
لهذا البرلمان شيوخاً ونواباً قد رزقهم الله قوة وبأساً وآتاهم بسطة في العلم
والجسم ، ومنحهم ألسنة تقول فتكثر القول ، ومنحهم أيادي لا تمتنع عن الحركة ولا
تتردد في الامتداد بالبطش أحياناً ، ومن المحقق الذي لا يقبل شكاً ولا نزاعاً أن
هذا البرلمان قد أظهر في غير مرة حرصاً على الدين وغضباً للإسلام”.
واشتدت
حملة طه حسين ضد التبشير حين دافعت جريدة التايمز البريطانية عن التنصير فكتب طه
حسين تحت عنوان : " تجن" يقول :
“
وإذا طغى الأجانب على المصريين في منافعهم ومرافقهم وازدروا حريتهم وكرامتهم وعرضوا
فريقاً منهم للجوع والحرمان، وأظهر المصريون شيئاً من استنكار ذلك أو السخط عليه ،
غضب الأجانب وأسرفوا في الغضب ، وشكا الأجانب وألحوا في الشكوى وقال الأجانب إن في
مصر بغضاً لهم ، وائتماراً عليهم واستعان الأجانب على المصريين بالإنجليز ، وشكا
الأجانب من المصريين إلى الوزارة المصرية وإذا اعتدى المبشرون من الأجانب على
صبيان المصريين من أبنائهم وبناتهم وفتنوهم في دينهم لا يفرقون في ذلك بين المسلم
والمسيحي واليهودي ، وسلكوا إلى ذلك طريق الإكراه والتعذيب حيناً ، وطريق الإغواء
والإغراء حيناً آخر ، وطرق العبث والخداع وإفساد الإرادة بالتنويم المغناطيسى مرة
ثالثة .
إذا
فعل المبشرون هذا لكه وقامت عليه الحجة الواضحة ونطقت به الحقائق الواقعة ، واعترف
به المبشرون أنفسهم ، واعترفت به الوزارة نفسها ، واعترف به البرلمان نفسه ، ثم
أنكره المصريون ، واحتجوا عليه وطلبوا أن يصرف عنهم هذا الشر ، ويرفع عنهم هذا
الضر ، غضب الأجانب وسخط الإنجليز وقالت التايمز إن، المعارضين يتخذون قضية
التبشير وسيلة إلى إحراج الحكومة والكيد لها ، ولم يتحرج أنصار الوزارة نفسها من
أن يقولوا كما تقول التايمز ويتهموا المعارضين بمثل ما تتهمهم به التايمز ،
ويزعموا أن المعارضين لا يقولون ولا يعملون إلا ليحرجوا الوزارة ويكيدوا لها
ويسلطوا عليها أنواع الإحراج والتعجيز .
ومعنى
هذا كله أن المصريين يجب أن ينكروا أنفسهم وينزلوا عن حقهم في الحياة الحرة ويرضوا
بما قسم الله لهم من الذلة والخضوع ، لا ينبغي لهم أن يلوموا الوزارة إن أخطأت أو
قصرت أو شطت لأن ذلك إحراج للوزارة وتجنٍ عليها ، ولا ينبغي لهم أن يشكوا أو
يتبرموا عن طغى الأجانب على مرافقهم ، واستأثروا من دونهم بالخير في بلادهم ، لأن
ذلك بغض للأجانب وكيد لهم ولا ينبغي أن يسخطوا ولا أن يستعيدوا الوزارة على
المبشرين إذا اعتدى هؤلاء المبشرون على الأطفال في الدين والأخلاق والأعراض ، لأن
ذلك إغراء بالفتنة ، وتحريض عليها ، ولأن ذلك إحراج للوزارة وخروج عن النظام” .
وهكذا كان قلم طه
حسين سيفاً مسلطاً على التنصير والمنصرين في الوقت الذي يتهمه فيه أعداؤه بأنه كان
ضد الإسلام.
وهذه صفحات مجهولة
من حياة هذا الرائد العظيم ما أجدر الباحثين المنصفين أن يلتفتوا إليها وأن يجمعوا
مقالاته التي هاجم فيها التبشير والتنصير ، وهي كثيرة ليعيدوا دراستها وتحليلها
والإفادة منها لأن التاريخ يعيد نفسه.
دفاعه عن السنة :
ويكشف الدكتور محمد رجب البيومي أستاذ
تاريخ الأدب والعميد الأسبق لكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر صفحة أخرى مجهولة
من تاريخ طه حسين دافع فيها عن السنة النبوية المطهرة ولكن ظروفاً تاريخية حالت
دون شيوع هذا الدفاع ، وظلت صحيفة الرجل الدينية ملوثة عند خصومه المغرضين ، يقول
الدكتور البيومي (3):
“حين صدرت الطبعة
الأولى من كتاب " أضواء على السنة المحمدية " تقدم به المؤلف إلى
الدكتور طه حسين ليكتب كلمة عنه في جريدة الجمهورية ، وكان الدكتور يتولى صفحة
أدبية بها في الأسبوع إذ ذاك ، فكتب الدكتور طه حسين كلمة بدأها بتعداد ما لاحظه
هو ، وفي اتجاه تفكيره الخاص من محاسن الكتاب ، ثم انبرى يعدد ما لاحظه من مآخذ،
أفيدري القارئ ما صنع الشيخ بكلمة الدكتور طه حسين ؟ ! لقد أخذ نصفها الأول وجعله
مقدمة للطبعة الثانية ، وترك النصف الآخر وكأنه لم يكن ، وكانت الأمانة تقتضيه أن
يذكر المقال كاملاً ، فإذا كان له رأي في المآخذ ، عقب على المقال بإيضاح وجهة
نظره ، وترك الحكم للقراء ، هكذا يفعل الحريصون على الحقائق من المؤلفين وإذا لم
يشأ أن يذكر النقدات فكان عليه أن يمهل المقال جميعه فلا يجعله في صدر الكتاب ،
لذلك لم أستغرب مطلقاً ما حذفه من نصوص القدماء ليمضي في وجهته التي رسمها لنفسه من
انتقاص رواة الحديث وما رووه، ونقد الدكتور طه حسين للمؤلف يستغرق عدة أعمدة تجعل
من الصعب تلخيصها في عدة سطور فقد أنكر الدكتور طه حسين ما زعمه المؤلف من مؤامرة
كعب الأحبار على عمر بن الخطاب لأسباب شرحها ، كما واجه المؤلف بخطئه فيما نسبه
إلى أبي هريرة من أفعال لم يقترفها ، وكان فيما قال : زعم أن أبا هريرة لم يصاحب
النبي صلى الله عليه وسلم محبة له ولكن ليملأ بطنه ، وهذا خطأ لأن أبا هريرة لم
يأت من اليمن ليملأ بطنه بل ليؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، كما زعم المؤلف أن
أبا هريرة كان يأكل مع معاوية ويصلي مع علي ، ولا أريد أن أعرف كيف كان يجتمع لأبي
هريرة أن يصلي مع علي في العراق ويأكل مع معاوية في الشام إلا أن يكون ذلك في حرب
صفين ، ولو فعل ذلك لاتهمه أحد الفريقين بالنفاق فكشف أمره ، ولكن هذه تهمة باطلة
، كما أن المؤلف اندفع إلى تسفيه آراء مخالفيه ووصفهم بالجمود وبالخشونة ، ولو صبر
حتى يخرج كتابه ويقرأه الناس ويسمع رأيهم فيه لكان هذا الصبر خيراً له ”.
أليس في هذه المواقف
الخالدة لعميد الأدب العربي تبرئة مما اتهمه به أعداؤه من زندقة وتجديف مع أن
الرجل ، وإن كان قد زل في بداية حياته العلمية تحت ضغط حب الشهرة ، عاد إلى صوابه
ونشر مقالات متعددة كان فيها محامياً جسوراً عن دين الله الذي ارتضاه ، والذي
يستعرض كتبه غير المشهورة مثل : خصام ونقد ، نقد وإصلاح ، بين بين ، يجد أنه قد
دخل في معارك كثيرة في الخمسينيات من هذا القرن دفاعاً عن القرآن الكريم ، وعن
اللغة الفصحى لغة القرآن .
وعلى المستوى الشخصي يروي المقربون منه كيف
كان طه حسين يقضي معظم يومه في السنوات العشر الأخيرة من عمره مستمعاً لإذاعة
القرآن الكريم بعد إنشائها أوائل الستينيات ، كما حج البيت واعتمر أكثر من مرة ،
وكانت هناك عشرات الأرامل ممن يكفلن أسراً فقيرة يحضرن إليه في كل شهر فيدفع إليهن
مبالغ ثابتة ، وكانت تلك المواقف هي الأوقات الوحيدة التي يطلب فيها من سكرتيره
مغادرة مجلسه رعايةً لسرية الصدقة ، إن أدب الإسلام يحتم على كل مسلم - لاسيما من
يحترفون الدعوة - إحسان الظن بالناس والتثبت قبل إلقاء التهم جزافاً وبخاصةٍ إذا
كان من يتهمونه قد تبرأ مما يرمونه به .
مراجع المقال :
1-
جريدة
كوكب الشرق يوم 29/6/1933م.
2-
جريدة
كوكب الشرق يوم 18/6/1933م.
3-
مجلة
المنهل ( السعودية ) العدد 545 شعبان 1418 ، ديسمبر 1997م ، ص95.