بقلم – د. حسن أبو طالب
فى خبر أورده عملاق البحث على شبكة المعلومات الدولية «جوجل» بأن البحث عن كلمة «حرب نووية» وصل إلى عنان السماء فى كل البلدان تقريبا فى منتصف أبريل الجارى، وذلك على خلفية التصريحات والتهديدات التى تبادلها مسئولو الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، والتى تضمنت استعداد واشنطن توجيه ضربة وقائية لكوريا الشمالية لمنعها من امتلاك أسلحة محظور عليها امتلاكها كالقنابل النووية والصواريخ بعيدة المدى والصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
وفى المقابل جاءت تهديدات بيونج يانج متضمنة الاستعداد لسحق كل من كوريا الجنوبية واليابان والأراضى الأمريكية ذاتها إذا قامت إدارة ترامب بأى عمل عدائى، وجاءت كلمات نائب وزير خارجية كوريا الشمالية فى غاية الوضوح، فمقابل أى ضربة أمريكية ستكون ضربة كورية شمالية، وإذا كانت حرب شاملة فسيكون الرد بحرب شاملة، وإن كان عدوانا نوويا فسيكون الرد نوويا أيضا. وكأن المسئول الكورى الشمالى يقول العين بالعين والسن بالسن، وإزاء كل تحرك أمريكى سيكون هناك تحرك من بلاده بالقدر نفسه، وعلى العاقل أن يقدر الأمر بحكمة.
التهديدات النووية للردع وليس الاستخدام
هكذا جاءت تصريحات الرئيس ترامب وتغريداته وتصريحات وزيرى الدفاع والخارجية فى إدارته، جنبا إلى جنب تصريحات مسئولى كوريا الشمالية المضادة لتثير هلع شعوب العالم حول سيناريو مدمر اسمه «الحرب النووية»، قد تنزلق إليه واشنطن فى خطوة مجنونة تتصور فيها أنها قادرة على إهانة نظام كوريا الشمالية دون أن يتحرك أو يرد الضربة بمثلها
ففى أدبيات الحرب النووية التى نُشرت على مدى أربعة عقود إبان فترة الحرب الباردة من محللين عسكريين ذوى ثقل، وباحثين مخضرمين فى مراكز البحوث الاستراتيجية الأمريكية والأوروبية والروسية والهندية والباكستانية، اتفق على خلاصتين مهمتين، أولهما أن قرار شن هجوم نووى على طرف آخر يمتلك قدرات نووية وصاروخية بعيدة المدى، لا يعنى أبدا القدرة على حسم المعركة كما كان الوضع فى نهاية الحرب العالمية الثانية حين ألقت أمريكا قنابلها النووية على كل من هيروشيما ونجازاكى اليابانيتين، فى خطوة استعراض قوة مجنونة وغير إنسانية، رغبة فى إذلال الطرف اليابانى الذى كان قد استسلم بالفعل ولم يكن لديه القدرة على الرد ولم يكن يمتلك هذا النوع من القنابل المتوحشة، وأيضا لتجربة هذا النوع من القنابل شديدة التدمير التى لم تستخدم من قبل والتعرف عن كثب على نتائجها وآثارها على الإنسان والطبيعة معا.
أما الخلاصة الثانية فهى أن الحرب النووية بين طرفين نوويين تعنى أن الطرف البادئ عليه أيضا أن يتحمل ما يُعرف بالضربة الثانية المضادة، فعنصر المفاجأة هنا لا يعنى خمول الطرف المعتدى عليه، بل يعنى تحفيزه للقيام برد الضربة ربما بأشد من تلك التى وجهت إليه. ومن ثم يحدث الدمار المتبادل. ولذا ففى كل المعاهدات التى توصلت إليها واشنطن وموسكو إبان الحرب الباردة وما بعدها حين سقط الاتحاد السوفيتى وورثت روسيا الالتزامات الواردة فى المعاهدات المتعلقة بستارت ١ وستارت ٢ وما بعدهما، كان التركيز هو على التعهد المتبادل بأن أحدهما لن يبادر بالضربة النووية تجاه الآخر، بل والاتجاه نحو خفض الترسانات النووية لدى كل منهما بصورة متبادلة ويمكن التحقق منها، وهو ما معناه الالتزام المتبادل بعدم شن حرب نووية، ومن ثم أصبح امتلاك الأسلحة النووية حتى ولو كانت محدودة العدد هو على سبيل الردع وليس على سبيل الاستخدام.
الردع على طريقة كوريا الشمالية
وهكذا أصبح امتلاك الأسلحة النووية ليس فقط دليلا على مكانة القوة بل أسلوب للدفاع عن الذات، خاصة لدى الدول التى ترى نفسها معرضة لخطر الفناء أو أنها تعيش فى ظل بيئة عدائية تضمر لها الشر. وتُعد كوريا الشمالية واحدة من هذه الدول التى تخشى من عدوان أمريكى تسنده وتشارك فيه كل من اليابان وكوريا الجنوبية. وتلعب عزلة النظام والعقوبات الدولية المفروضة عليها بسبب امتلاكها برنامجا نوويا وآخر للصواريخ بعيدة المدى، إضافة إلى محدودية الموارد الاقتصادية، دورا مهما فى امتلاك قوة عسكرية كبيرة تقليدية وفوق تقليدية للدفاع عن النظام ونمط الحياة الذى فرض على المواطنين منذ الخمسينيات فى القرن الماضى وحتى اليوم.
فإذا كانت الولايات المتحدة ترى فى نفسها الدولة الأقوى فى العالم التى تضع المعايير الخاصة بامتلاك الأسلحة فوق التقليدية ومنظومات الصواريخ، وتعاقب وتهدد كل من يمتلك تلك الأنواع من الأسلحة خاصة إذا كانت دولة غير حليفة لها وليست من معسكرها، فإن العقيدة التى تقوم عليها كوريا الشمالية هى الاستعداد الدائم لعمل عدوانى يأتى من واشنطن وفى القلب امتلاك القدرة على جعل ثمن هذا العدوان غاليا ومؤثرا. وليس سرا أن التهديدات التى تطلقها بيونج يانج هى فى اتجاه أهم دولتين حليفتين للولايات المتحدة وهما كوريا الجنوبية واليابان، الأولى توجد بها قواعد عسكرية أمريكية فيها ٢٨.٥ ألف جندى أمريكى بأسلحتهم وعتادهم المتفوق. أما الثانية ففيها واحدة من أهم القواعد العسكرية فى المحيط الهادئ وهى قاعدة أوكيناوا، التى ينتشر فيها ٣٠ ألف جندى يمثلون ٧٥٪ من إجمالى عدد الجنود الأمريكيين الموجودين على الأراضى اليابانية، والمهمة الرئيسية لهذه القواعد حماية هذين البلدين من أى تهديدات خارجية فضلا عن حماية التوازن العسكرى العام فى شرق آسيا وبما يردع كلا من الصين وروسيا من أى محاولة لتهديد هذا التوازن العسكرى والاستراتيجى فائق الحساسية.
وطوال العقود الستة الماضية فقد شكلت تهديدات كوريا الشمالية تجاه جارتها الجنوبية واليابان عنصرا رادعا حقيقيا حال دون تهور الولايات المتحدة للقيام بعدوان شامل سواء تقليديا أو نوويا، وهى التهديدات التى شكلت مصدر خطر كبيرا على هاتين الدولتين، وفى الوقت نفسه شكلت دافعا رئيسيا لهما للدعوة دائما لحل سلمى لأزمة العلاقة مع كوريا الشمالية عبر التفاوض المصحوب بتهديدات لإنجاح التفاوض، وفى الأزمة الأخيرة التى صاحبها العرض العسكرى الكبير لجيش كوريا الشمالية ١٥ أبريل الجارى بمناسبة الذكرى ١٠٥ لمولد مؤسسها كيم أيل سونج، وكذلك محاولة إطلاق صاروخ جديد بعيد المدى أو ربما باليستى عابر للقارات فى اليوم التالى، وهى المحاولة التى فشلت أثناء عملية الإطلاق، كانت رسالة العرض العسكرى واضحة لكل ذى عينين، فبيونج يانج لديها أسلحة متطورة وجيش مستعد للتحدى، وقائد تصفه الصحافة الغربية ودوائر الحكم فى عدد كبير من دول العالم بأنه متهور وسريع الغضب ويمكنه الانزلاق إلى حرب ضروس إن شعر أن التهديدات حوله تستهدف نظامه، يشاركه فى ذلك أركان حكمه من العسكريين الكبار الذين لا يمكن لأحدهم أن يعصى له أمرا.
واشنطن تكتشف .. كوريا الشمالية ليست أفغانستان
رسالة العرض العسكرى الكورى الشمالى على النحو السابق أدت فى الواقع إلى تحييد رسالة التهديد والوعيد التى وجهها الرئيس ترامب ١١ أبريل الجارى ممثلة فى إعلان إرسال مجموعة السفن القتالية لحاملة الطائرات “كارل فينسون” إلى شبه الجزيرة الكورية. ثم توالت الحقائق بعد أسبوع، حين اكتشف العالم أن حاملة الطائرات الأمريكية لم تذهب إلى الشمال من سنغافورة حيث كانت، بل ذهبت إلى مزيد من الجنوب صوب أستراليا للمشاركة مع البحرية الأسترالية فى مناورات محدودة، أى ابتعدت عدة آلاف من الكيلومترات عن شبه الجزيرة الكورية، فى الوقت الذى كانت إدارة ترامب قد أبلغت اليابان أنها ستوجه ضربة عسكرية وقائية على غرار ما قامت به فى كل من مطار الشعيرات فى سوريا، وعلى جبال افغانستان التى أسقطت فيها أكبر قنبلة تقليدية تعرف باسم « أم القنابل»، وتباهت بعدها بأن عدد القتلى فاق ١٢٥ قتيلا أفغانيا.
يبدو هنا أن حالة الانتشاء بالقوة المفرطة التى انتابت الرئيس ترامب وأركان إدارته بعد القصف الصاروخى لسوريا وأم القنابل فى أفغانستان، صورت له أن توجيه ضربة استعراضية لكوريا الشمالية يمكن أن تجسد أكثر صورة الرئيس الحاسم القادر على اتخاذ القرار الصعب وتنفيذه بسهولة، حتى بدون الرجوع إلى الكونجرس. ثم تبين أن الأمر ليس على هذا النحو الساذج، وأن مخاطر المواجهة العسكرية مع بيونج يانج أكبر بكثير من اللامخاطر فى حالتى سوريا وأفغانستان وهما دولتان ضعيفتان عسكريا وواقعتان تحت ضغوط هائلة لمواجهة الإرهاب بكافة أنواعه. وهنا أثارت مراكز بحوث أمريكية رصينة عددا من التساؤلات الجادة ومعها أيضا الإجابات المحتملة والصعبة، فمن يمكنه أن يتحمل حربا نووية قد تطيح بالاقتصاد العالمى كله فى لحظة واحدة، لاسيما إذا ردت بيونج يانج بضربة تقليدية أو نووية لاثنين من أهم الاقتصادات العالمية والحليفة لأمريكا؟، ومن يمكنه أن يتحمل موت آلاف الجنود الأمريكيين فى كوريا الجنوبية واليابان إذا وجٌهت للقواعد الأمريكية فيهما ضربات حاسمة من قبل كوريا الشمالية؟، ومن يمكنه أن يتحمل انتشار الغبار النووى بفعل الرياح وحركتها التى لا يمكن لأحد السيطرة عليها والتى ستذهب حتما الى أراضى الصين وروسيا وبلدان أخرى؟ ومن يمكنه تحمل جثث الآلاف من البشر إذا تهور أحدهما فى استخدام أسلحة نووية حتى ولو كانت من نوع تكتيكى يستخدم فى نطاق جغرافى محدود؟
الضغط من أجل التواصل
حين تُثار الأسئلة الجادة وتُطرح الاحتمالات الصعبة والمسئولية التاريخية الأصعب تبدأ مرحلة أخرى من مراجعة النفس، وقد بدأت بشائرها بالفعل حين أخذ المسئولون الأمريكيون يتجاوبون مع نداءات الصين واليابان بضرورة التهدئة والبحث عن حل تفاوضى سلمى، كما كان الوضع فى سنوات ١٩٩٤ و٢٠٠٧ و٢٠٠٨. ومن أبرز تلك البشائر تغريدات الرئيس ترامب حول ما تقوم به الصين لإقناع بونج يانج بالتهدئة والتفاعل الإيجابى مع المتطلبات الدولية، فيما عُرف بالمسار المزدوج، نظير أن تهدئ واشنطن من تصريحاتها الهجومية. وكانت بكين التى تعرف بانها الدولة الأكثر تعاملا تجاريا واقتصاديا مع كوريا الشمالية والأكثر نفوذا لديها، قد قررت كنوع من الضغط الهادئ تعليق خطوط الطيران مع كوريا الشمالية ووقف استيراد الفحم منها، والإعلان عن نشر ١٥٠ ألف جندى صينى على الحدود معها بعد إبلاغ اليابان بالأمر، وهى أمور كانت محل إشادة أمريكية.
أما تصريحات وزير الخارجية الأمريكى ريكس تيلرسون يوم ٢٠ أبريل الجارى فهى الموقف الأبرز، حيث أشار فيها أن بلاده تدرس خيارات للضغط على كوريا الشمالية بشأن برنامجها النووى وأنهم يراجعون ملف هذا البلد بالكامل كى يعود نظامها للتواصل مع الولايات المتحدة لكن على أساس مختلف عن المحادثات السابقة، والمعنى بها المباحثات السداسية التى استمرت عدة سنوات بين ٢٠٠٢ وحتى ٢٠٠٨، والتى انتهت إلى وقف برنامج كوريا الشمالية النووى مقابل ضمانات أمريكية بعدم الاعتداء ورفع كوريا الشمالية من لائحة الارهاب الأمريكية والحصول على تعويضات ومعونات نفطية وغذائية، ونظرا لتلكع الولايات المتحدة فى تنفيذ الشق الخاص بالتعويضات والضمانات وكذلك لقيام كوريا الشمالية بتجارب نووية ثلاث مرات ردا على التقاعس الأمريكى، فقد عادت كوريا الشمالية إلى تفعيل برنامجها النووى والصاروخى منذ ٢٠١٣ وإلى الآن.
المهم فى تصريحات تيلرسون تلك الإشارة إلى الضغط من أجل التواصل مع نظام بيونج يانج، وبالتالى فالموقف الأمريكى الجديد، ولعله الأكثر تعقلا هو اللجوء إلى المفاوضات وليس الحرب. وثانيا فإن هؤلاء الذين أصابتهم هوسة الحرب النووية والتلويح بها وكأنها مشهد عابر فى فيلم مثير صنعه الخيال الهوليودى، فعليهم أن يعودوا إلى رشدهم وأن يصروا على السلام بدلا من تدمير العالم. أما الأكثر أهمية فهو النظر إلى تلك المفاوضات باعتبارها وسيلة لصياغة علاقة جديدة مع بلد يصدر فيه القرار بطريقة خاصة جدا، ويجد نفسه مُحاطا بأعداء كُثر. أما إذا تصورت واشنطن أنها تريد مفاوضات تعلن فيها بيونج يانج الاستسلام الكامل للشروط الأمريكية بدون مقابل، فلن تحصل على شئ سوى ضياع الوقت، وضياع الفرصة لإنهاء توتر عبثى لا يمكن حسمه عسكريا.