السبت 1 يونيو 2024

«طبق سياسة بالإفيهات والتسريبات».. فصل جديد من كتاب «السيبراني»

فن24-10-2020 | 10:47

تنشر بوابة "الهلال اليوم" فصلاً جديداً من كتاب "السيبراني" للكاتب "أكرم القصاص"، والذي جاء تحت عنوان "طبق سياسة بالإفيهات والتسريبات".

طبيب أسنان واحد

أيام الغزو الأمريكي للعراق أثناء رئاسة جورج دبليو بوش 2003، شاعت نكتة عن أن جورج بوش عقد مؤتمرا صحفيا، أعلن فيه أن الحملة ضد الإرهاب سوف تتضمن «قتل خمسة ملايين عربي ومسلم متهمين، وطبيب أسنان واحد».. وبقية القصة النكتة أن الصحفيين والمراسلين في المؤتمر انشغلوا بالبحث عن اسم وعنوان طبيب الأسنان المقصود، ولم ينشغلوا بالملايين الخمسة المعرضين للإبادة.

النكتة كانت تعني أن الإعلام يركز عادة على ماهو مشوق وشاذ، وليس على القاعدة، وتشرح كثيرًا من قواعد عمل الإعلام ضمن ظاهرة بشرية ليست حكرًا علينا وإن كانت عندنا زيادة عن اللزوم.. جرت العادة في كل عملية سياسية أن يخوض المرشحون حروبًا يستخدمون فيها كل الأسلحة حتى لو كانت الشائعات والاتهامات، وأيضًا تكون هناك نماذج لمرشحين يواصلون الترشح والخسارة، ويصرون على الاستمرار.

في كل دول العالم هناك برامج توك شو سياسية جادة، وأخرى فنية، وبرامج للمنوعات والتسالي والنميمة والإثارة، ولا مانع من بعض التسلية واللت والعجن.. وفي عالم السينما هناك أفلام جادة وأخرى نص لبة، وثالثة للإثارة والأكشن.. وهذا كله في الأحوال الطبيعية، يحتاج الناس لبعض الهجص مع بعض الجدية، لكن عندنا الأمر مختلف، فغالبا ما تكون الوجبة الرئيسية في السياسة هي «التهجيص والمهجصين»، وتحتل الشتائم والشائعات الوجبة الرئيسية، أما الجدية فغالبًا تصنف على أنها نوع من ثقل الدم.

انظر حولك وتأمل تجد أن المرشح أو السياسي أو رئيس النادي أو المذيع الشتام والهجاص وصاحب أعلى إفيهات، هو الأكثر مشاهدة، وهي ظاهرة تغري أحيانا المرشح الجاد بأن ينشغل بالبحث عن عيوب خصمه، وليس عن مميزاته الخاصة هو شخصيًّا.

ربما لأن الأكثر ضجيجًا هو الأكثر ظهوراً، ونرى المرشح المنسحب أشهر من المرشح الجاد، والمرشح الكوميدي المتنطط أكثر شيوعاً من المرشح الطبيعي.. وينشغل الجمهور بكل ما هو كاراكتر في السياسيين، ومن هو أعلى صوتًا وأوسع ضجيجًا.

والنتيجة أن السياسة أصبحت تسير على شعارات كانت شائعة في عالم الفن، حيث الممثل «الكاراكتر» الذي يجيد دور الشر مرة، يصبح شريراً للأبد، ونفس الأمر بالنسبة للكوميدي أو الإفيهاتي، وشاعت جملة «عيش كاراكتر تشتغل أكتر».

وبعد انتقال المبدأ لعالم السياسة.. أصبحنا نرى المرشح الشرير ومرشح الإفيهات، وناشط الاتهامات، ورجل التسريبات.. وأصبح الكاراكتر هو القاعدة، بينما الاستثناء أن تجد مرشحاً أو سياسياً جاداً يخلو من نسبة التسريبات.. وهو طبق اليوم وكل يوم.

 

التنظير «بخلاصة الشائعات الطبيعية»

«سمعت آخر نكتة.. إيه آخر الأخبار..؟».. هذه الأسئلة تعني غالبًا ما هي آخر الشائعات والتسريبات والتقولات واللت والعجن.. أنت في مرحلة البث المباشر لكل ما هو نصف حقيقي، وحتى الأخبار العادية لم تعد تثير الشهية مهما كانت قيمتها أو قوتها.

والعمر الافتراضي لأي شائعة أو تسريبة لا يتجاوز أربعًا وعشرين ساعة، تشغل المواقع والشاشات، وقد تتحول إلى شتيمة ومعركة على مواقع التواصل أو شاشات الفضائيات، ثم تختفي لتحل مكانها شائعات جديدة.

وحتى من يريدون ترويج أخبار عن أنفسهم من النجوم عليهم اختراع شائعة، على طريقة الفنانة الكومبارس «اللي موتت نفسها وأمها ثم عادت إلى الحياة».. وهى قصة انتشرت على مواقع التواصل، حيث أشاعت الكومبارس أنها انتحرت وأغلقت تليفوناتها، وبعد ساعات طويلة ظهرت، متصورة أنها حصلت على الشهرة اللازمة.. الكومبارس لم تهتم بدور تقدمه، لكنها اهتمت بأضواء تسلط عليها وتحولها إلى نجمة وموضوع نميمة لساعات.

عاش المجتمع الافتراضي موسم التسريبات ومازلنا، من خلال تسجيلات منسوبة لنشطاء أو سياسيين أو مسؤولين، وأخرى تسريبات منسوبة لقيادات وأصحاب مناصب.

الجدل حول التسريبات، ليس جديدًا، بل هو مستمر منذ ما بعد 25 يناير 2011، ومع كل تسريب يطير البعض فرحًا، ويهيم فخرًا، ويرفرف بأجنحة المعرفة العميقة، بينما يستنكر البعض الآخر.. والفرق هو المنظور الذي ينظر منه الشخص للتسريب، فإذا كانت لصالحه يبررها ويفرح لها، وإن كانت ضده يستنكرها، والمثير أن بعض من يحتفون بالتسريبات لا يتوقفون عن احتمالات وجود شبه تزوير أو تكون منتزعة من سياقها، وهو أمر غالبًا ما يحدث في اللقاءات والفيديوهات التي يتم اقتطاع جزء منها لإثبات نظرية أو نفي نظرية، ولو راجعنا ردود الأفعال نجدها متوقعة، فلا أحد يغير وجهة نظره، ولا أحد يعترف بالجهل، أو يعترف بأنه يصنع رأيه من خلاصة الشائعات الطبيعية.

وفي مواسم التسريبات، البعض يطير فرحًا بتسريب ضد خصم له، ويغضب من تسريب لنجمه أو زعيمه، على طريقة كرة القدم، وطوال السنوات الماضية نستند إلى التسريبات، والشائعات، التي تتحول إلى أنصاف حقائق، يتعامل معها البعض على أنها حقائق.

ازدواجية تمثل قاعدة في الفرق والملل والنحل السياسية، بالرغم من أنها لا تمثل وجهة نظر ولا تنصر جهة على أخرى، ولا تتجاوز التسلية، التي تعطي البعض شعورًا زائفًا بأنه يعرف شيئًا سريًّا، أو يمارس التنظير «بخلاصة الشائعات الطبيعية».

لقد افتخر البعض يومًا باقتحام جهاز أمن الدولة، و«سربوا.. وسرب آخرون ضدهم»، وفي كلتا الحالتين كان هناك تصفيق أو تصفير، تنتقل الشائعات من مواقع التواصل إلى جلسات النميمة، لا تتجاوز الفرجة والدردشة، ومحاولة كل طرف إثبات أنه يعرف أكثر بينما لا يعرف، وحتى الأخبار العادية، يتم تشكيلها لتصبح تسريبة، من أجل بعض المتفرجين الذين يفضلون الأخبار بخلاصة «الشائعات الطبيعية».

 

زعماء وحمير وتسريبات

لفظ « تسريب» ارتبط بعالم السوشيال ميديا، والتسريبات صارت وجبات يومية، «شاهد آخر تسريب لفلان، تسريب جديد يكشف كذا».. بل إن بعض السياسيين وزعماء العالم يفضلون نشر الأخبار العادية في صورة تسريب، لأن الخبر العادي تتضاعف قوته وجاذبيته إذا تحول لتسريب.

وكثير مما يسمى» تسريب» هو آراء حقيقية للناشط أو السياسي أو المسؤول، قد تختلف مع ما يقوله علنًا، أو دردشات عادية مما يحدث كل يوم.. وطبعا الموقف السياسي من التسريبات متناقض، هناك دائمًا من يحب «التسريب» على الآخرين ويرفضها على نفسه وحلفائه، وهى ظاهرة ظهرت واتسعت بعد 25 يناير 2011، عندما بدأت المنافسات على الظهور أو السعي لمواقع ومناصب، فانتشرت تسريبات على مواقع التواصل بأنواعها مع «برينت سكرين» أو من دون، ومع الوقت تطورت التسريبات إلى مقاطع صوتية أو مكالمات مسجلة، ثم كانت الفيديوهات أحد تطورات أدوات الحرب السياسية أو الدعائية.

وفي مارس 2014 ظهرت تسريبات تتضمن آراء في مكالمات لبعض السياسيين السابقين ومنهم الدكتور محمد البرادعي والفريق أحمد شفيق، وكان كلام كل منهم عن آرائه في حلفاء أو سياسيين آخرين، كان كل منهم ينتقد آخرين، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الآراء تكشف عن طريقة تفكير كل سياسي.. العادة أن أغلب السياسيين عندنا يعدون أنفسهم عباقرة، والباقي حمير، وأنهم يحملون أسرار الفهم، ومفاتيح الحلول، وأن مشكلتهم أن أحدا لا يفهمهم أو يعطيهم الفرصة.

وتكشف هذه التفاصيل عن ازدواجية سياسية، فالزعيم له ثلاثة أنواع من الآراء، الأول يعلنه أمام الجميع بمن فيهم تابعوه ومعارضوه، والثاني يقوله في غياب الحلفاء ويتضمن انتقادا وسخرية واتهاما لهم، والثالث هو رأي يقوله مع فريق ويتناول فيه فريقًا ثالثًا.

هذا عن السياسي، أما الجمهور والإعلام ومواقع التواصل، فإنهم يفضلون تناول تسريبات على تناول خبر عادي، وبينما تكون آراء السياسيين معروفة فإنها عندما تتحول إلى تسريب تكتسب أهمية اكبر وتصبح كنزا للنميمة والدردشة، وإن كانت لا تفيد كثيرًا ولا تمثل خبرا جديدا؛ الأمر الذي يجعل السياسة مجرد نميمة وطبق إفيهات وشائعات.

 

مجارير الإنترنت.. حروب مزورة

صناعة الشائعات أصبحت سهلة وبسيطة، كل ما يحتاجه الشخص الذي يريد تشويه خصمه هو أن يخترع مقولة أو شائعة ينشرها على فيس بوك، فتأخذ دورتها في ماكينة شائعات وتنتشر وتتوغل، وهناك قطاع واسع من المستخدمين يصدقون بلا مناقشة، أو بسوء نية، وهو أمر يعرفه محترفو خوض المعارك بالموضوعات والأقوال المضروبة.

وعادة، فإن كائنات الشتم تقتات على البقايا، وتستند لكون مواقع التواصل الاجتماعي خارج الرقابة، خلال أسبوع فقط من شهر نوفمبر 2014 كانت هناك حالتان، الأولى مع الفنانة إلهام شاهين، التي اخترع خصومها مقولة تقول فيها: «ياريتني مدرعة يحارب بيها الجيش الإرهاب» وهى مقولة لا دليل عليها، لكن إلهام تشارك في حملات ضد الإرهاب، قد يختلف أو يتفق معها البعض، وتم تحويل المقولة إلى طريق للإساءة إلى الفنانة، مثلما فعل عبدالله بدر قبل ذلك بعامين، عندما سب إالهام شاهين وشتمها، ورفعت دعوى ضده وحصلت على حكم أدانه بالسب والقذف.

في المرة الأخيرة تعمد خصوم إلهام جعل الكلام طريقا لإيحاءات أو نكات خارجة، تورط فيها مستخدمون ليست لهم خصومة، مثل الجماعة وملحقاتها، وغالبًا هم قطاع واحد يصنع شائعات ويروجها بتعمد، وبعد أيام تنبهت الفنانة إلى الأمر، ونفت أن تكون قد أدلت بأي تصريحات من هذا النوع، لكن طبعا هناك فريق «يهيصون مع الهيصة» ويشاركون في حفلات السب والقذف.

وفي نفس الوقت نشرت جريدة الشعب على موقعها أن المستشار محمد ناجي شحاتة، رئيس محكمة جنايات الجيزة، له صفحة على فيس بوك يسب فيها الإخوان والنشطاء، ويتابع صفحات جنسية، وكان شحاتة يحاكم الإخوان وأصدر ضدهم أحكاما مختلفة، ويعتبره الإخوان وبعض النشطاء صاحب أحكام شديدة، ولم يكتفوا بمهاجمته، لكنهم قرروا الانتقام منه بأحط الطرق.. وبالرغم من أن الطعن على الأحكام يكون في المحاكم ودرجات تقاضٍ أعلى بالاستئناف والنقض، فإن خصوم شحاتة اختلفوا معه وقرروا الانتقام منه بإلصاق صفحات جنسية أو آراء سياسية تتنافى مع عمل القاضي.

جريدة الشعب قالت: إن القاضى له صفحة على فيس بوك، يسب فيها الإخوان والنشطاء، ويتابع صفحات جنسية، وإنه أغلق الصفحة لكنهم حصلوا على صور منها، وتزامن ذلك مع حملة على تويتر وفيس بوك تشتم الرجل بسبب صفحة، كان واضحا أنها مصنوعة، وملفقة، لأنها تضع على لسانه شتائم تتنافى مع حياد القاضي، فضلا على متابعته لمواقع جنسية.. الرجل أصدر بيانا أكد فيه أنه ليس له صفحات على فيس بوك، ومع هذا خرج أحد المحللين في قناة الجزيرة يهاجم القاضي، وهو من رواد وصناع الموقع المنشور ويستخدم مادة يعرف أنها مضروبة، مثل كلامه وتحليلاته التي يستقيها من مفبركات الإنترنت.

القضية ليست في كون الإخوان أو تابعيهم لديهم خصومة مع شحاتة أو إلهام، لكن في اللجوء لطرق رخيصة وفاسدة اعتادوا فيها الكذب، ويفترض أن يسارع المضارون للإبلاغ عمن يصنعون الصفحات المزورة، حتى يمكن مواجهة «مجارير الفيسبوك»، وأن يعرف مستهلكو الصرف الإلكترونى أنهم معرضون للتسمم.

 

هيلاري وبوتين وعفيفي والفوتوشوب

هناك دائمًا من هو مستعد لتصديق الشائعات، أكثر من الحقيقة.. ولم يكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحده موضوعا للشائعات بالموت والانقلاب والزواج والطلاق خلال الأسبوع الثالث من مارس 2015، بل كان مثالا لوجود نوعية من صناع الشائعات والخرافات والقصص الخيالية، يجدون من يصدقها.. ولم يعد الأمر مقصورا على أجهزة استخبارات، ومع توسع أدوات التواصل مثل فيس بوك وتويتر، وباستخدام الفوتوشوب تُجرى صناعة صور «كأنها» حقيقية، أو تقليد الأصوات، كلها تجعل الشائعات متداخلة مع الحقائق، بصورة يصعب تمييزها أحيانا، فضلاً عن وجود زبائن يحبون تصديق ما يقال، وربما كانوا أكثر استعدادا لتصديق الخرافات والشائعات.

هناك يوميا شائعة أو أكثر تحتل المرتبة الأولى في سجل الاهتمام العالمي، ولم يعد الأمر مقصورا علينا، أو في العالم العربي والإسلامي، لكن العالم كله ينشغل معا ويتفاوض معا ويمارس حياته في عالم الشائعات بكل اهتمام، بل إن التحليلات والأبحاث تؤكد أن الشائعات تكون أكثر قابلية للتصديق من الحقائق، لأن الشائعة تكون قابلة للفرد والثني والتلاعب، ولا تحتاج إلى الكثير من الجهد أو مصادر لتثبتها أو تنفيها.. وأحيانا تكون الشائعة مصنوعة ومنسوبة إلى مصدر معروف، بينما يكون الأمر كله مجرد تلاعب، فتجد اسم «سى إن إن».. أو «بي بي سي»، مع رهان على أن مستهلكي الشائعات، لا وقت لديهم للتفكير والتأكد.

وأكثر الشائعات تأثيرًا هي التي تتكون من «ربع الحقائق وثلاثة أرباع الأكاذيب»، تستند على مقدمة صحيحة، مثل القول إن هذه الأخبار تسربت من جهات أمريكية كانت تراقب «الإيميلات» الخاصة بزعماء العالم، في إشارة إلى قضية «سنودن»، وبناء على خبر يتم وضع أي أكاذيب.

هناك قصة انتشرت على مواقع التواصل عن منافسة بين أوباما وبوتين على عدد الفلورز على تويتر، كان باراك أوباما لايزال رئيسا للولايات المتحدة، وشاع أنه حذف فلاديمير بوتين، ورد الرئيس الروسي بالمثل، وتزامن هذا مع معركة حقيقية بين وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون والخارجية، بسبب رغبة هيلاري في الاحتفاظ بالرسائل الإلكترونية الخاصة بها أثناء عملها، فيما كانت الإدارة الأمريكية ترى أن هذه الرسائل من حق الخارجية، وأن الوزيرة أصبحت سابقة.. ولم يخلُ هذا الخبر من امتدادات واختراعات عن مراسلات خاصة بين هيلاري وجهات في الخارج، وعلاقات وتحركات ومؤامرات.. يتم صياغة كل هذا بمقدمة صحيحة وتفاصيل مختلقة، تجد من يصدقها.

وفي مصر شاعت حكايات عمر عفيفي، الشرطي المقيم في أمريكا ويمتلك خيالا كوميديا، ومعه نشطاء أو قنوات تركية يخترعون تحليلات خرافية، ومنها أن من حضروا المؤتمر الاقتصادي جنود أمن مركزي في ملابس مستثمرين أجانب، أو أن الفتيات في صور الرئيس «شرطيات».. وهلم جرا، وكله من إنجازات خيال الفوتوشوب.

 اللافت للنظر أن عمر عفيفي كان نجما كبيرا لدى عدد من نشطاء ما بعد يناير، وكتاب وأدباء كانوا يتخذونه مرجعية، ويقدمون تحليلات وآراء سياسية بناء على حكايات عمر عفيفي التي كانت خليطا من ضلالات نفسية واختراعات ساذجة عن صراعات وثورات مضادة، وتحركات وتحالفات مخابراتية واتصالات.. كان بعض نشطاء الثورة وقتها يعتبرون عفيفي مصدرا عميقا مطلعا، بالرغم من أنه كان مجرد مؤلف حكايات ومخترع تسريبات.

 

مصر هبة «التسريبات والإفيهات»

دعك من الأفكار السياسية العميقة، والبحث عن حلول وطرح برامج أو مخاطبة الجمهور، فكلها تحركات مرهقة تتطلب جهداً ووقتاً، بينما السياسيون مشغولون بالتصريحات والإفيهات والتوكشوهات، ومعهم طوابير النشطاء والمتفرجين، ممن يتلقفون أي تسريب أو إفيه ليقتلوه تعليقا وتفسيراً وتأييداً، أو رفضاً.. وبديل ذلك هو إعادة تسريب الإفيهات التي يقع فيها مقدمو البرامج أو ضيوفهم، لتتحول إلى مادة لبرامج أخرى، وتعليقات أخرى، وتدور الدوائر لتعود من حيث جاءت.

ولم يعد أحد ينتظر برامج سياسية أو أفكارا، فقط ينتظرون تسريبة المساء والسهرة التي يقضون حولها الليل في شغل شاغل، على فيس بوك وتويتر، بعد انشغالات التوك شو، وطبعاً كلام التوك شو والفيس وتويتر مدهون بزبدة افتراضية يطلع عليه النهار يسيح.

نحن نعيش زمن التسريبات، وخلال أقل من يوم سمعنا تسريبات مختلفة، إحداها للفريق أحمد شفيق، عن الانتخابات والجيش وأخطاء المشير، والثانية للدكتور البرادعي يصف بعض تابعيه من النشطاء والسياسيين بأنهم زبالة وحمير لا يفهمون شيئًا، وتسريبات لآخرين أقل أهمية لكنهم في النهاية نشطاء أو سياسيون، وقبلها سمعنا عن تسريبات لفلان أو علان.. وكما قلنا فهي مكالمات خاصة تكشف غالباً عن وجهات النظر الحقيقية، وبعضها كلام عادي أو آراء تكشف عن ضحالة وسطحية الكثير من زعماء ومرشحين، يتضح أنهم لا يؤمنون بما يرددونه، ولا يحترمون بعضهم وغيرهم، أغلبهم مصاب بالتهابات في الذات السياسية، وغرور غير مبرر.

لكنهم ليسوا وحدهم، بل إن الكثير من النشطاء ومفكري الزمن الجديد، يفضلون الإفيهات على الأفكار ولا يتورعون عن استهلاك الكثير من الشائعات، بل وإطلاقها.. والنتيجة أننا أصبحنا في مورستان سياسي، وحالة من التسريبات والتسريبات المضادة، للتسلية والتعليق، فضائياً وافتراضياً، بين جماعات من المرضى والحمقى والمغفلين، ومهاويس بالتنظيرات حول الإفيهات.

المهم أن الكل، سواء كان موافقاً أو رافضاً للتسريب، أصبح جاهزاً للدخول في التعليق وإطلاق الإفيهات على الموضوع، وهو خيار يومي وليلي، يجعلنا في حالة فرجة، حتى من هؤلاء الذين لا يكفون عن المطالبة ببرامج ليس لديهم سوى رد الفعل.. والنتيجة أن مصر أصبحت هبة التسريبات والإفيهات، والبرامج الأكثر نجاحًا هي التي تسرب أو تنكت، أو يقدمها «كاراكترات» يحرصون على الأداء المسرحي ولا يهم المضمون أو الفعل.

أما السياسة فهي مرهقة ومتعبة، وتحتاج للحركة والعمل، والسياسيون مشغولون بإطلاق التصريحات والتوكشوهات.

وما على المشاهد إلا أن يتابع يومًا بيوم حالات التسريب والإفيهات لينام ويصحو على المزيد من الإفيهات.

 

«بنما ويكيليكس» .. تسريبات مضادة للتسريبات

أكبر تجسيد لحروب المعلومات ما يجرى الآن في العالم من تسريبات ووثائق، وأوراق أصلية ومضادة، وهي حروب لا تتوقف فقط على ما كانت أجهزة الاستخبارات تتداوله، لكنها تمتد إلى صراعات الشركات وحروب المنافسة الصناعية، واختراق الأسواق.

ومع أن الحديث عن عصر المعلومات لم يكن مفاجئًا فقد تم الإعلان عنه من عقود، لكنه يبدو صادما، وكلما ظهر ما يبدو أنه النهاية ظهرت بدايات أخرى، وأحيانًا يصعب التفرقة بين ما هو حقيقي، وما يدخل في إطار التفاعلات والصراعات.

ومن أبرز الأمثلة الـتـسـريـبـات والـوثـائق التي خرجت في أبريل 2016 وسميت وثائق بنما، وقد راففتها ضجة إعلامية شاركت فيها صحف أمريكية ودولية بدت مجيشة وجاهزة لمنافسة «ويكيليكس»، لدرجة أن مؤسس ويكيليكس جوليان أسانج أشهر نشطاء التسريبات، اتهم من يقفون وراء وثائق بنما بأنهم يعملون بدفع من أجهزة أمريكية، بينما ويكيليكس نفسها لم تنجُ منذ ظهورها من اتهامات بالعمل لصالح أجهزة استخبارات، بالرغم من حصولها على جوائز وإثارتها الاهتمامات.

نفس الأمر فيما يخص تسريبات المكالمات الشهيرة التي قام بها الأمريكي الهارب، إدوارد سنودن الذي كشف عن تجسس أمريكا على مكالمات حلفائها وأعدائها ومنهم زعماء أوروبا.

وثائق بنما، لم تخل من اتهامات من قبل روسيا بأنها موجهة ضد الرئيس الروسي، حيث ورد اسم أحد أصدقائه الذي أثرى بشدة، وقالت روسيا إنه تم إخفاء أسماء أمريكيين.

لكن واضح أن القضية ليس لها حدود، حيث نشرت صحيفة دويتشى زايتونج الألمانية أن عناصر أجهزة استخبارات عدة بينها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سى آي إيه» استعانوا بخدمات مكتب المحاماة البنمي موساك فونسيكا محور فضيحة «الوثائق» بهدف إخفاء أنشطتهم.

وقالت الصحيفة الألمانية، إن عملاء مخابرات فتحوا شركات وهمية لإخفاء عملياتهم وبينهم وسطاء مقربون من «سي آي إيه»، ومن بين زبائن مكتب المحاماة البنمي عدد من أطراف فضيحة إيران ـ كونترا التي تتعلق بتسهيل مسؤولين أمريكيين لعمليات بيع سرية لأسلحة لإيران في ثمانينيات القرن الماضي بهدف الإفراج عن رهائن أمريكيين ومساعدة متمردي الكونترا في نيكاراجوا،  وقالت إن مسؤولين حاليين أو سابقين رفيعي المستوى في أجهزة مخابرات من بين زبائن المكتب البنمي.

القصة تقول إن حروب التسريبات والمعلومات ليس لها حدود، وهو ما يدخل ضمن ما توقعه ألفين توفلر قبل عقدين فيما سماه تحول السلطة، وهو ما يعني أن الأساليب القديمة في التعامل مع ما يجري لم تعد صالحة، بعد أن أصبحت هناك حرب للتسريبات، تواجهها حروب أخرى لن تتوقف.

 

كلام «فيس بوك» المدهون بفبركة

«يا ترى دي معلومة موثقة ولا كلام فيس بوك؟».. سؤال أصبح يتردد كثيرًا في الواقع الافتراضي والإنترنت، بعد شيوع ظاهرة الأخبار المفبركة والشائعات التي تنتشر كثيرا وبعضها منسوب بشكل مزور لمواقع أو جهات رسمية، وغالبا ما يكون جزء منها صحيحا وأغلبها مضروب.. هذه الظاهرة بدأت في السياسة وأصبحت جزءا من الدعايات السوداء لمنصات خارجية تفعل ذلك بأجر.

في السابق كانت جملة «كلام جرايد» هي التعبير عن الأخبار العادية التي تحمل وعودا حكومية لا تتحقق أو معلومات يتضح أنها ناقصة أو غير موثقة، لكنها اليوم أصبحت تتعلق أكثر بفيس بوك أو تويتر ومواقع التواصل، وهي ظاهرة لا تتعلق بنا وحدنا لكنها ظاهرة عالمية، ووصل الأمر إلى أن الإحـصـائـيات تشير لوجود 40 - 50% من أخبار فيس بوك شائعات، وهو ما دفع مارك زوكربيرج إلى إعلان سياسات جديدة تقلل من الأخبار المفبركة والشائعات، لكن يبدو أن أي سياسات تعالج هذا من شأنها أن تقلل حجم الدخول والاستخدام، وهو ما يؤدي لخسائر فيس بوك، وهو أمر يجعل من الصعب توقع أي تدخلات تخفف من الشائعات على مواقع التواصل.

وفي نفس السياق فإن تأثير هذا النوع من الأخبار المفبركة تراجع عن السابق، ولم يعد غالبية المستخدمين الطبيعيين يثقون في مثل هذه الفبركات والشائعات، لكنها تصنع ضجيجا ودوشة ولا تعبر عن واقع حقيقي، وسرعان ما تفقد تأثيرها، خاصة مع سرعة الرد والتعامل من قبل الجهات المعنية التي أصبحت هي الأخرى تهتم بامتلاك أدوات التفاعل، وهذا من ميزات أدوات التواصل، أنها تجبر الجهات الرسمية على عدم تجاهل أي نوع من الأحداث، وتسارع بالرد أو التوضيح، الأمر الذي يسهم في التقليل من تأثير الأخبار المفبركة.

ومن طبيعة عالم التواصل والإنترنت أنه مجال معقد يعكس تعقيدات الواقع، ومرات كثيرة أشرنا إلى أننا أمام أدوات ليست خيرة أو شريرة بطبيعتها، لكنها أدوات يمكن استعمالها في الخير أو الشر أو السرقة أو النصب أو الابتزاز والانتقام.

بعيدًا عن الأخبار المفبركة، فإن بعض كبار نجوم النشاط السياسي غالبًا ما يواجهون أزمة في تراجع التفاعل مع ما ينشرونه، من بوستات أو تعليقات، أو يجد الواحد منهم نفسه عاجزًا عن طرح وجهة نظر تجذب الشير والريتويت، فيلجأ إلى الاعتماد على أخبار وتقارير ليست مفبركة ولكنها من نوعية ما يسمى «الأخبار المغسولة»، وهي تقارير غالبا ما يتم تسريبها إلى مواقع أجنبية معروفة.

في فبراير 2018 ظهر تقرير «غامض» نشره موقع بي بي سي عن عمليات يقوم بها طيران إسرائيلي ضد التنظيمات الإرهابية في سيناء، وكان التقرير إعادة لنشر مقالات وتعليقات غير موثقة في صحف إسرائيلية.. وبالرغم من عدم منطقية التقرير فإن أحد النشطاء الحقوقيين على تويتر أعاد نشر التقرير المغسول الذي تظهر فيه أصابع الأجهزة، وبعيدا عن وجود شكوك في علاقة داعش والنصرة وتنظيمات الإرهاب بإسرائيل، وكونها لم تنفذ عملية واحدة ولا أصدرت حتى بيانات ضد إسرائيل ولو من باب إبعاد الشبهة، لكن الناشط الحقوقى وجد في التقرير فرصة للتشهير من باب العداء، ولم يفرق بين الاختلاف في الرأي وترديد تقارير مغسولة تفتقد للمصداقية، والأصل في الخلاف هو الضغط لترك التمويلات أو تعديل قانون الجمعيات، وهي مطالب يختلف ويتفق حولها السياسيون لكنها لا تعني استعمال «أسلحة قذرة وتقارير مزورة» وتحويل الخلاف إلى عداء.

ونفس المثال مع تقارير اعتادت منصات مثل نيويورك تايمز أو رويترز التي تسعى إلى الغوص في قضايا مثيرة تقربها من التريند باعتبار القضايا التي تتعلق بمصر تثير بعض الشهية.. هذه المنصات تنشر مواد أحيانا تخلو من أي مصادر أو تستند لمصادر مجهولة ترفض ذكر اسمها، وهي تقارير لا تتناسب مع تاريخ هذه المنصات، وتقلل من مصداقيتها، بتكرار نشر «الأخبار المغسولة» التي تنشر من أجل إطلاقها على مواقع التواصل وتدخل ضمن «كلام الفيس بوك» المدهون بفبركة.. وهذه النوعية من الأخبار لم تعد تجد صدى وأصبح من السهل كشف تزويرها، لكن هذا لا يمنع أن أدوات التواصل أصبحت من بين أدوات الابتزاز والتشهير.. وهذه قصة أخرى.

 

«الجارديان» والكذب.. الاعتذار ليس سيد الأدلة

في مايو 2016 نشرت صحيفة الجارديان البريطانية اعتذارًا عن موضوعات وتقارير لمراسلها السابق بالقاهرة، جوزيف مايتون، وقالت إنه نشر عددًا ضخمًا لسنوات من التقارير اتضح أنها مفبركة وكاذبة.. وأثار الاعتذار نفسه أسئلة، خاصة والصحيفة نشرت تقارير كثيرة عن مصر بعيدًا عن مراسلها، ثبت خطأ الكثير منها، ولم تكن نقدًا أو كشفا بقدر ما كانت موجهة.. الجارديان اعتذرت عن تقارير مايتون وحذفت تقارير ومقالات قالت إنها لم تتمكن من إثبات صحتها.. الاعتذار عن التقارير منطقي، لكن الاعتذار عن مقالات الرأي غير مفهوم، الرأي من حق صاحبه.

المفارقة أن أغلب أسهم صحيفة الجارديان مملوكة لقطر، وهو أمر يضع استفهاما على الاعتذار، تقارير الجارديان نسخ مهذبة من تقارير قناة الجزيرة، وهو ما يضعها ضمن حملات لم تكن تتعلق بمراسل سابق، وإنما بسياسة مستمرة، ولا تتعلق بالجارديان وحدها، وإنما بالعديد من الوكالات والمواقع التي تظهر فيها رائحة أموال الدوحة، ومنها مواقع تصدر من هنا أو الخارج، ومواقع تعيش على نشر وتشيير هذه التقارير من الجارديان وغيرها، بل تم اختراع نسخ عربية من مواقع عالمية لهذا الغرض، وهو ما يجعل الجارديان جزءا من منظومة متعددة المهام، تحترف «صناعة الكذب» وهو بالمناسبة اسم فيلم وثائقى أنتجته الجزيرة.

وخلال نفس الفترة قدمت مؤسسات كبرى تقارير تشبه التقارير التي اعتذرت عنها الجارديان، حملت قدرا من الفبركة عمدا أو تسرعا، ولم تسلم مواقع مثل بي بي سي، ووكالات كبرى من عدوى تقارير موجهة، بعضها يخلو من مصادر أو بمصادر مجهولة، ومشكوك فيها، خاصة أنها تتعلق بقضايا حساسة، مثل ريجينى أو حادث الطائرة، أو السياسات والعلاقات المصرية الخارجية، ورفضت هذه المؤسسات الاعتذار أو التصحيح.

ربما كانت الميزة في تتابع تقارير ومقالات موجهة، أنها كشفت عن علاقات غير مرئية، تربط وسائل إعلامية مختلفة الجنسية أو مكان الصدور، وتتفق فيما تنشره، وما تترجمه بواباتها بالقاهرة، ومن مميزات مواقع التواصل أنها ساهمت في كشف التلاعب، والعبث بالتقارير، تحول بعض المراسلين والمذيعين في مؤسسات كبرى إلى نشطاء يخلطون بين الرأي والخبر، أدوات التواصل نفسها كانت كاشفة لحجم التلاعب، ويبدو السؤال: إذا كان محرر واحد بالجارديان قدم مائة موضوع بين تقرير ومقال، فكم عدد التقارير التي قدمتها وسائل أخرى وصنعت بها ولاتزال صورة لمصر تختلف كثيرا عن الواقع وبعضها لا يخلو من مبالغة وظلم وكذب، وكانت هذه التقارير مصادر لتقارير منظمات وجهات وظفتها في نفس الاتجاه؟

اعتذار الجارديان بدا مثيرا للأسئلة، بالنسبة للتوقيت والشخص، وهل الهدف مهني أم أنه سياسي، مع الأخذ في الاعتبار أن الجارديان كانت طرفا في نشر ما سُمي تسريبات وثائق بنما، وهي جزء من حرب باردة وليست كشفًا استقصائيًّا كما حاول البعض تسويقها، وبالتالي فالاعتذار لم يكن سيد الأدلة و«صناعة الكذب» حرفة ومهنة وسياسة.

 

 أيتام «المهنية الأفرنجي»

لكن يبدو أن اعتذار صحيفة الجارديان عن تقارير مراسلها المزيفة، أثار قلق من اعتادوا التعامل مع هذه التقارير على أنها «منزّلة»، وبعضهم بنى عليها تحليلات ونظريات، ويصدمه أن يكتشف أنه تغذى على طبيخ فاسد، ولهذا غضبوا وبدأوا حملات دفاع عما لا يفهمون.. وليس لهذا علاقة بكون الشخص معارضا أم مؤيدا، والأمر يتجاوز الجارديان لغيرها.

بالطبع هناك غموض من صمت الصحيفة على مراسل يضرب موضوعات منذ 7 سنوات، الجارديان سبق ونشرت تقارير عن مصر اتضح خلوها من المعلومات، وبصرف النظر عن الموقف من مبارك وأسرته.. كانت الجارديان أول من نشر تقرير الـ70 مليارا، أن ثروة الرئيس الأسبق حسني مبارك وأولاده تبلغ 70 مليار دولار في بنوك سويسرا، واستند إليه كثيرون لكونه نشر في الجارديان، واتضح أن التقرير كله منقول من كلام على شبكة الإنترنت بلا توثيق.. مثل كثير من التقارير، لصحف لايزال بعض «الزعران» يبغبغون بها، ولا نعرف ما فائدة أن يتحدث البعض عن المهنية وهو يستعمل قمامة معلوماتية.

طبعًا هي صدمة لمن يعاني شعورا بالدونية، أو يتكسب من ترويج هذه التقارير.. هؤلاء هم أكثر من صدمتهم الاعتذارات، وأن يكتشفوا أنهم يتغذون على معلومات مزيفة أشبه ببالات الملابس المستعملة التي تأتي من الغرب. ولهذا حاولوا الدفاع عن مصداقية اعترف أصحابها بالفبركة، غير قادرين على التمييز بين الحقيقة والخيال، ولا بين الرأي وتشجيع فرقة كرة قدم.

الكيد يحكم بعض من يتعاملون بانحياز مسبق، أو يتباهون بتزيين مقالاتهم بمقتطفات أجنبية كدليل على الاطلاع، حتى لو كانوا يقتاتون على « فبركات»، ومازالوا، ربما لأنهم يخاطبون جهات بعينها في الخارج، أكثر مما يخاطبون مواطنيهم.

هؤلاء «أرامل المهنية المكشوفة»، حزانى أكثر من أصحاب المشكلة نفسها، لدرجة أن صحيفة الجارديان نفسها اعتذرت في بيان لها عن فبركة مراسلها بالقاهرة وعندنا من يصر على أن التقارير المفبركة ليست عن مصر، بينما البيانات والتقارير تقول إنه كان مراسلا للصحيفة في القاهرة وليس في المريخ، أو يرى الاعتذار سيد المهنية، بصرف النظر عن كونه لا يتعلق بتقرير أو اثنين لكن عشرات، هو أمر يثير الهرش المهني، طبعا الصدمة جعلت البعض «جارديانيين» أكثر من الجارديان.

القصة لا تتعلق بالجارديان وحدها، لكن بالكثير من التقارير المنحازة بصرف النظر عن الموقف المؤيد أو المعارض، القضية فيها بالفعل تفاصيل تقلل من مصداقية شبكات كاملة من المدعين بنوا نظرياتهم على معلومات وتقارير فاسدة، ومازالوا، بما يتجاوز البحث عن الحقيقة إلى التربص، ولهذا يتقمص مستهلكو «الأفرنجي» حالة الدفاع مرة عن الفبركة، ومرة عن المهنية، ومرات عن نظريات بنوها على أكوام من الفبركة.

 

نقول «جارديان».. يقولوا «احلبوه»

اللافت للنظر أن الجارديان بعد اعتذارها في مايو 2016، عن موضوعات نشرها مراسلها السابق بالقاهرة، جوزيف مايتون، عن مصر ثبت أنها مفبركة وبلا أدلة، وحذفت تقارير و مقالات رأي؛ عادت في مارس 2020 لتلعب نفس الدور وتتورط في نشر تقرير مفبرك حول أرقام إصابات فيروس كورونا في مصر، حيث نشرت الصحيفة نقلا عن تقرير لنيويورك تايمز أن دراسة اكتوارية لوغاريتمية في جامعة كندية قالت إن احتمالات المصابين في مصر تقترب من 19 ألفًا، في وقت كانت أرقام الإصابات لم تتجاوز العشرات، وكانت هذه الأرقام غير الموثقة تنفيها أرقام موثقة من منظمة الصحة العالمية وتقارير قنوات مثل سي إن إن وغيرها.

واللافت للنظر أن لجان قطر الإلكترونية احتفت بالتقرير اللوغاريتمى، لمراسل جارديان نقلا عن مراسل نيويورك تايمز عن دراسة كندية تقوم على افتراضات افتراضية تائهة، كل البيانات الموثقة من منظمة الصحة والتقارير الأجنبية تؤكد أن الفيروس لم ينتشر بهذه الأرقام وأن البيانات الرسمية أقرب للصحة، وأن أرقام الوفيات لا يمكن إخفاؤها، ثم إن فيروس كورونا اجتاح إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وأوروبا والعالم، والأرقام عندهم أضعاف ما هو معلن في مصر، لكن جارديان وقناة الجزيرة وأخواتهما يصرون على نشر الأكاذيب.

وبعد مرور الأزمة وانتهائها تأكد أن التقارير التي نشرتها جارديان أو الدراسة الكندية هي محض هراء وكذب، ومع هذا فقد التقطت الدراسة المزعومة والأرقام المفبركة الوكالات والمواقع التي تنفق عليها قطر، ومنها مواقع تصدر من هنا أو الخارج، وتعيش على نشر و«تشيير» هذه التقارير من جارديان وغيرها، وتم اختراع نسخ عربية من مواقع تحمل أسماء أجنبية وبعضها تديره منظمات حقوقية عاطلة، كجزء من منظومة متعددة المهام، تحترف «صناعة الكذب».

لكن من مميزات مواقع التواصل أنها بقدر ما تسهم في نشر أعمال الكتائب الإلكترونية فهي أيضا تسهم في كشف التلاعب، وكيف تحول بعض المراسلين في مؤسسات كبرى إلى نشطاء يخلطون بين الرأي والخبر.

 وإذا كان محرر واحد بالجارديان قدم مائة موضوع فإنه يمكن استنتاج عدد التقارير التي قدمتها وسائل أخرى وصنعت بها ولاتزال صورة لمصر تختلف كثيرا عن الواقع وبعضها لا يخلو من مبالغة وادعاء وكذب، وهذه التقارير تصبح مصادر لتقارير منظمات وجهات وظفتها في نفس الاتجاه، وآخرها تقرير عن كورونا، جاء بعد فشل محاولات وأكاذيب كثيرة صدرت من منصات مختلفة وتنشرها الجزيرة يوميا، متجاهلة حجم الإصابات في قطر والذي يتجاوز مئات المرات غيرها مقارنة بعدد السكان، لكن «تقول جارديان يقولوا احلبوه».

كان اعتذار صحيفة جارديان عن تقارير مراسلها المزيفة، يفترض أن يعلّم من اعتادوا التعامل مع أي كلام بلغة أجنبية على أنه منزّل ويبنون عليه تحليلات ونظريات، لكن ما جرى أنهم نسوا فضائح جارديان وعادوا ليصدروا شعورهم بالدونية أمام كل ما هو أجنبي، حتى لو اتضح أنه مجرد قمامة معلوماتية.

هناك طبعا من يتكسب من ترويج هذه التقارير، وهؤلاء واصلوا الدفاع عن مصداقية اعترف أصحابها بالفبركة، وهؤلاء وصفتهم بأنهم «جارديانيون» أكثر من «جارديان».

 

كذب «مترجم» ولا صدق «محلي»

الواقع أن دفاع بعض المنصات الإعلامية والحقوقية عن الجارديان بالرغم من أنها هي التي اعترافت بالفبركة والتزوير والكذب؛ يدخل ضمن ظاهرة تنمو منذ سنوات لتصبح حالة مرضية قد تحتاج لعلاج، خاصة أنها تصيب عددا وافرا ممن يصنفون أنفسهم متعلمين ومثقفين ونخبة مختارة من أجود أنواع النشطاء، ممن ليس لهم ثقل كبير على القراءة، ويجيدون «الرطانة والطنطنة والضجة» من ترجمات «جوجل» أو مستهلكي المواد المترجمة التي تقدمها مواقع التواصل أو مواقع دعائية متخصصة في نقل كل ما يشكل إهانة أو انتقاصا أو حتى شائعات.. وما دام عليه اسم خواجة فهو محل احترام حتى لو كان دعائيا.

طبعا لا مانع أبدا من القراءة للأجانب، فهى مفيدة للتفكير، خاصة لو كانت كتابات معروفة وليست مجرد إعادة إفراز لأخبار وتقارير تخلو من المعلومات وتميل للطنطنة الفارغة التي تحرك غدد الانتفاخ الذاتي، والشعور بأن الشخص بكلمتين أصبح مفكرا مربع الدوائر يفتي في أي حاجة بثقة وجهل مركب.

والمدهش لدى قطاع من هؤلاء أنهم غير مستعدين لتصديق أي واقع يرونه بأعينهم وقابلون لتصديق أي تقرير مترجم أو مكتوب عليه اسم خواجة، سواء كان مشهورا أو مغسولا، وأحيانا تكون هذه التقارير مضروبة أصلا ومصنوعة خصيصا للأغبياء ومنسوبة لمفكر أو كاتب معروف، وحدث هذا مرات ولايزال، حيث تجد اسم ناعوم تشومسكى على تقارير عبارة عن تجميع لإفرازات مجهولة تجد من يصدقها.

وهناك نمط من مدعي «الاستنشاط التكاسلي» ومحترفي التعابير المجعلصة عن العدالة، يمكنهم تقبل إهانات من أي خواجة ولو كان متنطعا أو شماما، وبالفعل احتفى عدد من الدونيين بمقالات يفخر فيها كتاب أجانب بأن الطبيعي أن يكون التعاطف مع فرنسا أكثر منه مع لبنان حتى لو كان كلاهما ضحية لنفس الإرهاب، لأنهم يرون أنفسهم حضارة.. طبعا هناك كتاب انتقدوا أوروبا وازدواجيتها ومسؤوليتها عن الإرهاب، ومع أنهم خواجات لن تجد لهم صدى لدى كبار مستهلكي المترجمات «المقرنصة».

ثم يأتي خواجة مجهول ليكتب مقالا عبارة عن سب في القاهرة وأنها بلا شرف، ويحتفي به بعض «زعران المترجمات» ويؤيدونه، من دون أن يفرقوا بين انتقادات لعيوب موجودة وبين تحقير متعمد من شخص تافه يسمى نفسه رحالة، ينتقد سلوكيات مرفوضة مثل الاستغلال والجشع، موجودة لدى قطاع من البشر، لكنه يعمم الأمر ويصدر حكما من تجربة عدة أيام في زيارة واحدة أو زيارات، ولا ملامة عليه لكن السادة «عبدة المترجمات» يحتفون ويؤيدون وهم بالطبع لم يقرأوا كتب الرحالة الحقيقيين من عشرات وربما مئات السنين ممن عاشوا واحتكوا وكتبوا صورا حقيقية بلا تجميل أو تهوين، على عكس الرحالة المزعوم، الذي ربما وقع في براثن النصابين فاعتبر البلد كله نصابين، وكتب مغالطات.. قليلون هم من ردوا على اتهاماته التي تحتوي على مبالغة وسفالة وتتجاوز الرحالة إلى التحقير.

 وربما لا يلوم أحد خواجة تعرض للنصب، لكن الأمرمختلف  لدى كارهي أنفسهم ومحتقري ذواتهم، يجدون طريقة للنشر بغرض التشهير ما دام من كتبه خواجة، وهي كتابة لا تمت إلى الرحلات بصلة وتبدو نوعًا من التشهير المريض، ولا نقصد أننا بلا عيوب، بالعكس هناك كتّاب ورحالة كتبوا وانتقدوا ورصدوا، لكنهم قدموا صورة كاملة لشعب متعدد الوجوه، وليس صورة واحدة للنصابين والمنافقين.. وهنا الفرق بين مثقفين أو سياسيين حقيقيين ينتقدون ويواجهون ويشاهدون من زوايا مختلفة، وبين مدعين يكرهون أنفسهم ويشعرون بالدونية تجاه ما هو أجنبي، عاجزين عن فهم ونقل التجارب الإنسانية، لأنهم مجرد آلات تسجيل تردد بلا وعي أو فهم، مع كم من تحقير الذات، وشعور بالدونية أمام الأجنبى، مقابل التعالي على مواطنيهم، والاحتفاء بأي إهانة مادامت باسم خواجة، حتى لو كان يقول لهم يا «دونكي».

هؤلاء هم ورثة من انبهروا بسيارات الرش وعجزوا عن نقل الحداثة، وليس من درسوا وتعلموا وخرجوا من الطنطنة للتفكير.