1
احتوت ملحمة الكوميديا الإلهية لدانتي على
فصول ثلاثة، عن الجحيم و المطهر و الفردوس. وهو تصور للدار الآخرة و ما فيها من
أحداث، استمد جذوره من مزيج التأمت فيه بعض تصورات الديانة المسيحية ببعض من فلسفة
القرون الوسطى. كانت
العبقرية في الملحمة في الفكرة في رأيي، التي جعلت القالب مغرياً، يسهل على المبدع
أن يسحر قراءه متى صب فيه شيق خياله و هزله و جده.
لكن ماذا يحدث إن استحالت تلك الملحمة إلى
مسرحية هزلية ساخرة، تجلب الضحك قبل الخاطر؟
لا
أعلم إذا ما كانت المسرحيات الستين للأب الروحي للمسرحى الأوروبي الساخر برنارد شو
قد احتوت على هذه الفكرة أم أن الخيال قد توقف قبلها. هل كان سيرضى برنارد شو بهوس أقل من أن
يتخيل أن بعض الرعايا قد يطمحون أن يسكنوا محل الآلهة، فيصيرون، هم أنفسهم، حكاما
فيما كانوا هم فيه يختلفون؟؟ إن هذه الثيمة الجريئة ربما كانت قد جرت نجاحا غير
مسبوق إن وقعت فعلاً، و لكن ربما أيضاً كانت قد جرت لبرنارد شو بعض المتاعب. إذ
ربما كان قد وضع بجريرته تلك في خانة الساخرين من الدين، أو من قضية الآخرة، و
الجحيم و الفردوس. تبا للحذر، كم أضاع من أفكار و مواهب و أعمار.
2
إن وضع العامة في محل المتحكمين في أمر أنفسهم،
قد يكون تصور ينتمي إلى اليوتوبيا المستحيلة أو السخرية اللاذعة،إن تصور الأطراف، خصوم
القضية، وهم يعتلون منصة القضاء للحكم في قضاياهم هو تصور هزلي أكيد، روعته تستحق
أن تنسب لبرنارد شو أو مارك توين. إذ كيف للخصوم أن يتفقوا، و كيف لشخص أن ينظر في
أمر نفسه و أمر خصمه، و كيف لذلك العداء التليد أن ينتج عنه أي وفاق أو توافق أو
اتفاق. لابد أن هذا أمر هزلي وليس له بالحقيقة وصلاً و لا اتصالا.
3
من السنن الكونية التي يلمسها قارئ التاريخ،
أن الأفكار الكبرى التي بنيت عليها عقائد أو فلسفات أو أفكار غيرت حقا في مجرى
التاريخ، أقول أن كل هذه الأفكار "التأسيسية" قد قوبلت في مهدها
بالتجاهل، يتبعه استهجان، ثم يعقبه عادة مكافحة أو اضطهاد، حتى تتجاوز ذلك فتصل،
حتما، إلى مكانها المستحق في حياة البشر. مثل كل هذه الأفكار، كانت الوسائل
البديلة لفض المنازعات، لا أتحدث هنا عن الصورة القبلية الساذجة الأولى، أو الصورة
الشعبية الدارجة، لأي من صورتي الوسائل البديلة الرئيسيتين، التحكيم و الوساطة.
إنما قصدت من ذلك الصورة الحديثة المهنية المتراكمة ملامحها عبر التجارب المتكررة
الوئيدة، و التي لجأت إليها الأنظمة القضائية المؤسسية الحديثة، حفاظا على العملية
القضائية نفسها من التكلس و الخمول والفشل، الذي نتج حتماً عن كاهل المحاكم المثقلة
بنزاعات و قضايا، تنوء عن حملها الجبال، وحملها القضاء، مجتهدا ألا يكون ظلوماً
ولا جهولاً.
4
مثل
مخرجي السينما، الذين تبدأ أفلامهم من لحظة النهاية، ثم تسرد الأحداث، سأحدثكم عن
الوساطة. كان
توقيع اتفاقية سنغافورة هو لحظة الحقيقة في مسيرة الوساطة. فما هي الوساطة؟. و ما هي الاتفاقية و
قيمتها؟ سنحاول أن نجيب هنا عن هذين السؤالين، إجابة القاص الحكّاء، لا إجابة
الأكاديمي و لا القانوني. الوساطة،
هي طريق آخر بديل عن التقاضي التقليدي و عن التحكيم في فُض المنازعات. قد يبدو السؤال
أكاديميا بحثيا، و هو كذلك، لكن نحن نزوره الآن زيارة تعارف أولى، لا إطالة فيها
لنعرف جذوره .موجزاً أقول إن الوساطة هي وسيلة أو أداة قانونية لفض الخلافات و
إنهاء النزاعات على كل مستوياتها، محلية و دولية و متعددة الجنسيات، و على كل
أطياف التقاضي نوعا. فهي لم تنحسر في القضايا التجارية و منازعات الاستثمار، بل
شملت قضايا الأسرة و العمال و المنازعات المدنية، فضلا عن أنها طالت حتى المنازعات
الجنائية. فما
الذي يميز نلك "الأداة" عن التقاضي التقليدي و عن التحكيم.
5
دشن الرئيس الأمريكي ويلسون مصطلح حق تقرير
المصير، و هو المبدأ القانوني الدولي الأبرز، الذي يتيح لسكان الإقليم حرية اختيار
السلطة السياسية التي يتبعونها و شكلها.ما المشترك بين الوساطة و حق تقرير المصير؟
إن الوساطة هي الأداة القانونية الوحيدة التي ردت للمتقاضين حق تقرير مصيرهم. فعاد
الأمر إلى سلطان إرادتهم، فهم الذين يحسمون نزاعهم ويرسمون بأيديهم مشهد نهايته و
يكتبون بمنطقهم و مداد نفوسهم وثيقة تسويته.و لكن كيف يكون ذلك؟ و كيف يستقيم
عقلا؟ إن القضاء سلطة من مظاهر سيادة الدولة، لا ينقص من سلطانه على ولايته شىء،
هذا دأب الدساتير وسيرة الدول الحديثة. على ضفاف قاعات المحاكم، صار أمر المتقاضين
إلى القضاء وحده، و لا سلطان لهم في إدارة دفة الدعاوى إلا بما قد يبدونه من حجج
قانونية و منطقية، أو صلح في الدعوى أو تركها والتخلي عنها، و حتى ذلك النذر
اليسير من الإرادة، ليس بكائن في كل النزاعات و القضايا.أما التحكيم، فهو لم ينزل
كثيرا عن صولجان القضاء، ولم يترك مساحة كبيرة لإرادة الأطراف، فهو قضاء اتفاقي،
اختار الخصمان محكمين في هيئة واحدة، لكن الإرادة التي كانت المحرك في خلق الأول،
قد سلبت، وغدى للمحكمين المختارين والمحكم المرجح معهم ما كان للمحاكم سابقا، و
انحسرت سلطة الخصوم بالأخير.أما
الوساطة، فهي بشكليها المعروفين، الوساطة الحارسة والوساطة المتدخلة، هي بشكليها
عملية تظل فيها إرادة الطرفين حرة و غالبة، و حقهم في تقرير مصيرهم مكفول.إذ يقوم
الوسيط المؤهل المعتمد، بعملية إجراء تفاوض بين الطرفين. يطرح على بساطه كل أحجيات
الخلاف ووجوهه التي استتر فيها، يسبر أغوار تراكماته القديمة، ويلمس برفق مظاهره
الحديثة الأخيرة، يستعرض أسبابه النفسية والاجتماعية والقانونية كتف بكتف، حتى يصل
إلى حقيقة الخُلف ويعالجه، ويضع عينه على المصلحة المبتغاة للطرفين، في عملية كان
حقا عليه فيها مراعاة الحياد والنزاهة فضلا ثم السرية التامة،فيصل بهم إلى المشهد الأخير
إذ يرسمان بمشورة الوسيط الخبير الذي يملك أدواته، يرسمان وبإرادتهما الحرة اتفاق
تسوية نزاعهما، مدركين كلاهما أن تلك التسوية هي الحل الأمثل لنزاعهما و الجواب
الأمثل لسؤالهما.فيتفق
الخصمان أخيرا و بعد طول شقاق على التسوية التي خلقتها الوساطة، بل قد يدافعا عنها
بذات القدر إن تعطل مسار تنفيذها، فتصبح التسوية إذن مخلوقة بإرادتهما و محمية
برغبتهما.
6
لحظة
الحقيقة: عود
على بدء إلى لحظة الحقيقة، والانتصار الأبرز الآن في عملية الوساطة. فمثلما أن اتفاقية
نيويورك كانت لحظة الحقيقة في فن التحكيم التجاري الدولي، و كانت اتفاقية روما هي
لحظة الحقيقة في القانون الجنائي الدولي، فإن سنغافورة هي لحظة الحقيقة التي وهبت
وثيقة الميلاد الرسمية لفن الوساطة والذي ولد قبل ذلك بعقود.إن اتفاق سنغافورة قد جعل
لفن الوساطة حقيقة ووجوداً، حيث أن التسوية التي خلقتها الوساطة، في النزاعات التي
نصت الاتفاقية على شروطها، أصبح لها حجية تنفيذية فعلية.فالاتفاقية استهدفت في
الأساس النزاعات التجارية و منازعات الاستثمار الدولية، و ألزمت موقعيها بأن يصدر
للتسوية صيغة تنفيذية وتقوم الدولة العضو على إنفاذها، متى كان للنزاع صفة
الدولية، و متى كانت التسوية تمت عن طريق الوساطة الاحترافية بشرائطها المهنية.ذلك
الاتفاق الذي اعتمد بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 73/198، في ٢٠ ديسمبر
٢٠١٨، بمقر الأمم المتحدة بنيويورك، ثم فتح باب التوقيع عليها في سنغافورة في
أغسطس ٢٠١٩، فوقعت عليها سبع و أربعون دولة تشكل صلب الاقتصاد العالمي و حاملي
بوصلة استشراف المستقبل عن القادم في النظم القانونية الدولية، ومنها الولايات
المتحدة الأمريكية، والصين والهند وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية، المملكة
العربية السعودية والأردن، ونيجيريا وإيران والكونغو.من لحظة المخاض تلك، أصبح
لأطراف الخصومة أن يلجأوا للوساطة، معتمدين على إطار قانوني واضح لإنفاذ الاتفاقات
والاحتجاج بالتسوية الناشئة عنها.إن كرة الثلج لم تتوقف يوما في وسط المنحدر، و
الوساطة كآلية قانونية بدأت و لم تنتهى، و لن تزداد سوى قوة و نفاذا و أثرا. وليس
ذلك رجماً بالغيب ولا تخمينات بغير علم، و إنما تأسيسا على قراءة للواقع عن تلك
الآلية التي ردت للخصوم جبهة جديدة استردوا بها بعض "حق تقرير المصير"،
و ردت للقضاء بعض الفسحة لالتقاط الأنفاس وسط زخم لا ينقطع من خصومات و قضايا لا
تكف عن المضاعفة مرات متتالية كل عام.
7
كان صديقي يرفع قِدْر القهوة من على الموقد
الصغير، حين نظر إليّ مبتسماً فقال: في بيت شعر قديم، قيل إنه منسوب للرائع جبران
خليل جبران، قال فيه: "أدار
العدل ما أنساك دَهري ** قضيت بساحتيك أعز عمري"قال لي الصديق، في الأغلب،
القائل كان قاضيا أو محامياً يعتز بعمله لسنوات في دور القضاء. أجبته: حقيقة لا
أعلم، و لكن ما أعلمه، أن بيت الشعر ذَا إن قرأه الْيَوْمَ أغلب العامة، فسيتصور
معظمهم أن المقصود به الشكوى و الأنين، و أن القائل قد يكون متقاضياً يشكو ما
يكابده من تعطل الفصل في القضايا و تأخره لسنين. بينما المحاكم و دور العدالة ترزح
بحمل تنوء به الجبال من أضابير القضايا المعتقة التي ينفق القضاة جل أعمارهم
باحثين عن موطن العدل فيها، بينما قد تملك جلسات الوساطة الإجابة عن كل ذلك في بضع
ساعات من حديث إنساني طليق من كل قيود الرسمية ولدد الخصومة والبحث المضني عن أدلة
الإثبات و براهين النفي.