الجمعة 3 مايو 2024

برطع وأبو الرووس وأنا.. حلم أراجوز ما بعد "الأنيمشن"

فن25-10-2020 | 14:30

الآن إذن .. وبعد قرون من اكتشاف الأراجوز، منذ أيام الفراعنة عندما كان اسمه "أرجوس" وفى العصر العثمانى أصبح "أراجوز" ليزدهر ويترعرع فى عصر المماليك .. خصم الزمن أشياء، وأضاف أشياء، لكن الحساب الإجمالى استقر فى النهاية عند حقيقة مؤكدة: أن الأراجوز لم يكن دمية عادية، ولامجرد عروسة يتم تحريكها للتسلية والسخرية، لقد كان عالم بأسره، دنيا من البسطاء والمهمشين والحالمين والمكبوتين والمقهورين، مصرى ابن مصرى، أروع مايرسم ملامح الحلم والمستحيل، والحزن والفرح، ظهر وفى ذهنه حلم وهدف محدد يريد أن يحققه.. ألايمسكه أحد من لسانه أبدا.

مازلت أتذكر هذه اللحظة قبل أربع سنوات، حينما هاتفنى أحد المبدعين القلائل فى فن تصميم وصناعة العرائس، الدكتور أسامة محمد علي الأستاذ بكلية التربية النوعية قائلا: بأنه قد انتهى من تصميم ونحت وصناعة عروسة الأراجوز ولم يعد باقيا إلا أن اختار له اسما أناديه به فهو يرفض مناداته بالأراجوز هكذا على الشيوع ، يومها غمرتنى حالة فرح كبيرة، بل ماهو أكثر من الفرح.

لم أشعر بنفسى وأنا أقفز وأتنطط كما صبى صغير وبالكاد ألتقط أنفاسى وأقول له: فليكن اسمه برطع، فهو الوحيد القادر أن يضحكك ومن قلب الحزن يستطيع أن يجعلك تفرح وتبرطع، فلابد أن يحيا دوما ويملأ الدنيا صخبا وضجيجا ببرطعته وتنطيطه فى كل مكان يتواجد فيه، فى كل حدث يرويه وحكاية يذكرنا بها.

لم يخطر ببالى أبدا وأنا أحلم منذ طفولتى بأن يكون لى مسرح للعرائس يتجول به المهمشون والبسطاء يحكى حكاياتهم وهمومهم وأحلامهم بين نجوع وكفور وقرى الصعيد المحرومة من الفنون ومن كل شيء، يأتى يوم عليا وأنا فى عمر تجاوز الخمسة والخمسين عاما، يرزقنى الله بالأراجوز تلك الدمية المتحركة ذات العين السوداء لتكون هي أول عروسة تولد فى هذا المسرح وعلى يد أستاذ متخصص وقدير، وبالمناسبة "الأراجوز" لمن لا يعلم .. هى كلمة من أصل تركى تعود إلى كلمة من مقطعين "قره ..  قوز"، "قره" بمعنى سوداء، وقوز يعنى عين، مما يجعل المعنى العام للكلمتين" ذوالعين السوداء" دلالة على سوداوية نظرته للحياة.

وفكرة هذا المسرح لم تكن تخرج إلى النور فى عام 2009، دون أن يكون الأراجوز إمامها، فكنت أعلم جيدا أن جمهور هذا الفن من أبناء الصعيد والريف فى الدلتا لن يرضى بغير الأراجوز،وشخوصه المتعددة بديلا مثل (العمدة وزوجاته والحكواتى والشاويش وحرامى المواشى وشيخ الخفر والمهندس الزراعى وشخصيات أخرى مستوحاة من الواقع البيئى للمكان).

                                          من الهجرة إلى السيرة

إنه أكبر مسرح وأصغر مسرح، فلا أحد سواه يستطيع أن ينقل إحباط هموم وأحزان وإهمال الجنوب المصرى إلى السادة المسئولين،فهو صاحب اللسان السليط، الساخر القادر على أن يُخرج من بطن الجوع والفقر والقهر سخرية تصنع الضحكات والقهقهات العالية من أفواه هؤلاء الغلابة، أيضا يستطيع وبنفس القدر أن يجعلها ساخنة  تلهب ذاكرة الحكومة أية حكومة تحفزها وتلفت انتباهها لتلك المشكلات المزمنة المسكوت عنها قرونًا طويلة من الزمان، حتى كادت تصبح من الحفريات الأثرية من عراقة تاريخها وبقائها على حالها إلا قليلا حتى السنوات القليلة الماضية.

لقد قدر لهذا المسرح الذى حمل فى بداياته اسم مسرح جماعة الهجرة للجنوب، أن ينجح نجاحا رائعا فى قلب القاهرة على خشبة مسرح ساقية الصاوى بحى الزمالك بالقاهرة، وكان ذلك مقصودا أن تسمع الحكومة صوت وضحكات وسخرية الأراجوز "برطع" منها ومن الأوضاع المأساوية التى يعيشها صعيد مصر عن قرب، والمفاجأة أن ذلك لاقى ترحيبا كبيرا من وسائل الإعلام المختلفة التى تحدثت عن هذه التجربة الفنية الوليدة، لاسيما وأن الأراجوز ولأول مرة لايكتفى بأن يردد كلماته الساخرة اللاذعةالتى تصنع البهجة والفرح بين الناس، إنما راح يجدد من أدواته الفنية ويروى تلك الهموم والمشكلات ع الربابة على طريقة السير الشعبية وكأنه يروى سيرة هلالية جديدة.

وتجلت عبقرية الأراجوز فى سرده وغنائه الساخر لتقديم عدد من السير الشعبية القديمة، وقد لاقى تقديم السيرة الهلالية -أول تجاربه- ترحيبا وموافقة ورعاية كاملة من الخال عبد الرحمن الأبنودى الذى صمم وصنع له المسرح عروسة متحركة تشبهه تماما، تظهر على المسرح قبل كل عرض لتحكى بصوت الأبنودى ترحيبه وتشجيعه لميلاد هذه التجربة ونجاحها، والذى بفضل دقة وبراعة وعبقرية أراجوز مسرح جماعة الهجرة إلى الجنوب للعرائس احتسب له أنه هو الأراجوز الوحيد بين أراجوزات المحروسة الذى تفرّد بتقديم هذه الأعمال.

أما لماذا لم يستمر مسرح جماعة الهجرة للجنوب على ذات الاسم وتم تغييره إلى مسرح السيرة؟، فإن ذلك يرجع إلى خشية الخلط والتفسير الخاطئ بين مسمى جماعة الهجرة وجماعات دينية أخرى محظورة .. ولقد أصاب الابن يوسف خريج كلية الهندسة مؤخرا، عندما اقترح أن يتم تغيير اسم المسرح من جماعة الهجرة إلى الجنوب إلى مسرح السيرة للعرائس .. ليكون بحق اسم على مسمى، مسرح متخصص فى سرد سير وحكايات المصريين قديما وحديثا بالأراجوز وعلى الربابة.

إذن نعود إلى الدكتور أسامة محمد علي، الذى حينما أدرك فرحتى الطاغية بخبر انتهائه من صناعة عروسة الأراجوز، قال لى على الفور: إنك ترى الأراجوز فقط هو الذى يقدر على حمل ذلك الحلم .. بقدر ما أراه أنا تحديا وفارقا بالنسبة إليك شخصيا ككاتب وربما ممثل.. ثم ألست أنت الحالم دوما ألاتفارق هذا الأراجوز أبدا منذ أن عرفته أيام الطفولة فى قريتك، ألست أنت الذى طالما حلمت بأن تكتب له كل رسالة صغيرة كانت أو كبيرة وترددها معه، إذن عليك أن تكون أنت الشخصية الثانية التى تحاوره وتلازمه دوما فى الظهور على خشبة المسرح.

ثلاثون يوما تقريبا هى المدة التى استغرقتها وأنا أبحث عن تلك الشخصية التى أصلح أن أتقمصها لملازمة صديق الطفولة بل العمر كله، وكانت من أصعب اللحظات وأنا أبحث عن المواصفات المناسبة لذلك .. وماذا أفعل وكيف أجارى هذا اللسان الساخر السليط صاحب أجمل ضحكة بتكركر فى عز الوجع، وأشهر صوت له شنة ورنة وحضور ، فهو إمام صلاة السعادة والفرح.

وحينما أعود الآن بالذاكرة إلى أول لحظة وقفت فيها داخل الاستديو لتسجيل شخصية أبوالرووس التى استقر الرأى عليها بعد اختبارات ومشاورات ومناوشات فكرية وثقافية، ليعلن مخرج العمل ابن مسرح القاهرة للعرائس رضا حسانين، ولادة ثنائى فنى جديد فى عالم الأراجوز "الأراجوز" برطع والحكواتى أبو الرووس "فإننى أدرك فعلا .. إلى أى حد كان الأراجوز بالنسبة لي مكتشفا ومعلما عظيما".

                                      ليلة بنى حميل

كم الساعة الآن؟

سؤال يقفز إلى ذهنى، كلما فكرت تذكرت اللحظات التى كنت أسابق فيها الزمن فى فترة السبعينيات وأنا صبى فى العاشرة من عمرى لكى ألحق "بالحلزونة" أتوبيس قديم مهكع كان يمر من على جسر قريتنا للوصول إلى قرية بنى حميل المجاورة واللحاق بالفرجة على الأراجوز فى مولد الليلة الكبيرة، شهور كاملة كنت أدخر فيها قروش من مصروفى حتى لا تفوتنى هذه الليلة الكبيرة، وقرية بنى حميل هى واحدة من قرى مركز البلينا بمحافظة سوهاج، كانت معروفة دائما بأنها قرية الأضرحة والأولياء، وفى أبريل من كل عام كان يتم تنظيم احتفالا كبيرا بذكرى مولد هؤلاء الأولياء من ابتهالات دينية وحضرة تتسع للمئات لمن يرغب فى الذكر، ومسابقات ألعاب شعبية كالتحطيب ومدفع المولد، ومرماح للخيول والجمال، وكان الأراجوز هو الأكثر شعبية وإقبالا بين كل هذه المظاهر، اكتشفت أن الوقت الذى كنت أقضيه وسعادتى فى الفرجة عليه تستغرق النهار بأكمله وحتى يحل المساء وينام الأراجوز وننام معه على صوت السواقى، اكتشفت أن الوقت معه يجرى ودم البهجة يجرى فى عروقى طالما أنا معه، وأن سؤال كم الساعة الآن لايفارقنى منذ أن كنت أنتظر الأتوبيس إلى أن أنتهى من فرجة الأراجوز والعودة إلى قريتى فى ساعة متأخرة من الليل.

دعونى أعترف لكم أنه لولا عشقى لفن الأراجوز وعدم قدرتى على العيش بدونه، ما كنت أستطيع أن أقتحم  الكتابة إلى مسرح العرائس، صحيح أننى بدأت مبكرا فى الكتابة لمسرح الجامعة وحصلت لجامعة أسيوط كأس التميز فى مسابقة المسرح الجامعى عام 1981، عن مسرحية "دعوة للحقيقة" .. إلا أن إيمانى بأهمية فن مسرح العرايس والأراجوز، أنه الأفضل والأنسب لتوعية الأجيال الجديدة فى القرى والنجوع والحوارى والأحياء الشعبية فى المدن بالحفاظ وحماية تراثنا الشعبة من الاندثار، جعلنى أتجرأ وعبر تسع سنوات كاملة هى عمر تجربة الكتابة لمسرح العرائس، أن يصبح لى أكثر من 12 عملا، غالبيتها تم عرضها باستخدام الأراجوز وشخوصه المصاحبة له من عرائس الماريونيت، فكانت البداية بتقديم معالجة فى صياغة جديدة للسيرة الهلالية، وعندما اندلعت ثورة يناير تم تقديم سيرتها فى معرض الكتاب، وكانت سيرة أصل بناء القاهرة وحكاية اسم مصر واحدة من العروض القليلة التى شهدت زحاما هائلا من العائلات المصرية وصغارها على المسرح الذى أقامته وزارة الشباب فى جناحها المخصص لها بمعرض الكتاب فى عام 2016، ثم كان سر هنية الذى كشفه الأراجوز وهويصرخ عايز أشرب لبن، مما اضطرنى أن أحكى له وللحاضرين حكاية مندوحة، وكيف أن مجموعة من السماسرة كانوا يتربصون بأرضها ومزارعها ومواشيها لاسيما البقرة هنية والسعى للقضاء عليها، ولم ينس الأراجوز أنه على السحابة يغنى ويكافح التلوث الناجم عن حرق قش الأرز، وعن الغربة وعذابها جاء نص بعد الأشواق، تماما مثل عشق الحبيب كان هناك عرض عروسة وحصان، ومع غلاء أسعار الفول والخوف بأنه قد يحل يوما علينا ويستيقظ المصريون ولا يجدوا الفول فماذا سيفعلون، كان عرض فول عم حراتى ومخاوف اختفاء الفول المدمس، كذلك مقاومة الإسراف فى المياه ومكافحة خرطوم حفيدة الست سنية، ومساعدة أهالى دوائر محافظات الصعيدفى البحث عن نائب برلماني زين فكان عرض ميلاد الهلالى سلامة.

وساس "الأنيمشن" وأمنية قديمة

ما كنت أتوقع ابدأ أو أتنبأ بحجم الاستجابة الجماهيرية لتلك العروض فى كافة الأماكن التى ذهبنا إليها بصحبة عرائس مسرح السيرة داخل وخارج مصر، والارتباط الحميم بما قدمه الأراجوز برطع.

أخشى أن السطور السابقة تدفعك إلى الاعتقاد أن ما قرأته "سيرة ذاتية" وهى بالطبع ليست كذلك، فلا أنا من المؤمنين أو المصدقين أو المحبين لصراحة الفجة ولا مواراتها الخادعة الكاذبة، لذلك لجأت إلى اقتطاع المشاهد الدالة من أيامى الماضية، التى تعطى صورة عن تجربة عشقىوعلاقتىبالأراجوز، التى لا تخصنى وحدى، أكثر ما تحكى عنى شخصيا، فمن المعروف أنى واحد من أبناء الصعيد ومنذ أن ولدنا ونحن فى فمنا ماء يمنعنا  من الكلام عن هموم أهالينا وقرانا ونجوعنا فى هذا الجزء المهمل والمهمش من مصر، بل كنا ولانزال دائما نحلم باليوم الذى نرى فيه صعيدنا نقطة ضوء تسطع بعلامات التنمية والأمل لبلادنا ومصرنا المحروسة، لنظل نحن أبناء هذه الطفولة الفقيرة العبقرية مدينون لفقرها بعشقنا للأراجوز والثراء الكبير الذى تمتلئ به أرواحنا وذاكرتنا ودفاتر الماضى والحاضر كلما جاءت سيرته.

وشيئا فشيئا وأنت تكاد تنتهى من القراءة، إذا سألتنى .. ما هى أمنيتك الآن؟

.. سأجيبك على الفور .. ألا يستثمر فن الرسوم المتحركة "الأنيمشن" الفضائيات والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى، ويهزم فن الأراجوز والعرائس المتحركة ويقضى عليه يوما، خاصة وأن الفنان مصطفى عثمان والمعروف باسم "صابر المصرى" آخر الكنوز البشرية التى يحسب لها الحفاظ على هذا الفن من الاندثار وإدخاله قائمة اليونسكو، وتدريب الشباب خارج وداخل البلاد قد رحل عن عالمنا قبل شهور قليلة، لذلك وبمساعدة مجموعة من المتخصصين الذين مازالوا على قيد الحياة من رواد هذا الفن يتقدمهم الفنان ناصر سالم الذى أراه خليفة للفنان الراحل، سيقوم مسرح السيرة للعرائس بتنظيم ورش عمل فى عدد من قرى الصعيد والدلتا بمراكز الشباب والمدارس للمحافظة على بقاء هذا الفن، وحتى نحتفل بزفاف الأراجوز قريبا، فقد أخبرنى الآن أنه "عايز يتجوز" وذلك هو العرض القادم بمناسبة أننا نحتفل به فى هذا المقام بذلك المقال.

    Dr.Randa
    Dr.Radwa