بقلم: لواء د. نصر سالم
كلما حلت ذكرى هذا اليوم من كل عام، تدافعت إلى رأسى العديد من الأسئلة والتساؤلات.. وفى هذا العام تحديدًا زاد العديد من التساؤلات عدداً آخر ربما أكثر حدة أو أكثرإلحاحًا.
- هل عودة سيناء فى ٢٥ أبريل عام ١٩٨٢ هى آخر عودة؟
- والسؤال بطريقة أخرى هل يمكن أن تغتصب سيناء مرة أخرى؟
- هل سيكون الاغتصاب مثلما حدث فى العام ١٩٥٦ أم عام ١٩٦٧؟ أم أن هناك اغتصابًا آخر يختلف عن عام ١٩٥٦ و١٩٦٧ تطمس فيه الهوية ويضيع من أهلها الانتماء؟
- هل ما يحدث الآن فى سيناء من إرهاب هو اغتصاب (قطعة قطعة) أى سرقة (حتة حتة)؟
- حتة ولاء ثم حتة انتماء ثم حتة جغرافيا بعد تطهيرها من السكان!
وربما كانت حيرتى لها ما يبررها وأنا أقرأ من مذكرات المشير/ محمد عبدالغنى الجمسى وهو يحضر الاحتفال برفع العلم المصرى فوق العريش يوم استعادتها، هذه السطور: «لقد كنت أشعر بأن مصر بدأت تجنى ثمار النصر فى حرب أكتوبر، واستبعدت من تفكيرى محتويات ومشتملات اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل بما فيها من سلبيات، ووجدت نفسى بين المدعوين فى العريش.. حضرت الاحتفال وكان لى شرف تقبيل العلم المصرى - ضمن مراسيم الاحتفال - الذى ارتفع عاليًا فى سماء سيناء. وعدت بعد ذلك مباشرة للقاهرة لأستعيد ذكريات كثيرة عن سنوات طويلة مضت وكان السؤال الذى يلح علىّ هو (هل حرب أكتوبر هى آخر الحروب)؟.
وكانت الحقيقة المؤكدة أمامى (أن حرب أكتوبر ليست آخر الحروب). انتهى كلام الجمسى. ومعرفتى باللواء الجمسى كانت بعد تخرجى مباشرة وانضمامى إلى كتيبة الاستطلاع الاستراتيجى خلف خطوط العدو وكان الجمسى وقتها نائبا لمدير المخابرات الحربية والاستطلاع والمسئول عن كتيبتنا بصفة خاصة وباقى وحدات الاستطلاع بصفة عامة وكنا نراه دائمًا مصاحبًا لنا فى معظم الوقت وفى التدريبات الرئيسية، وكنا نحن صغار الضباط مشدودين إليه لذكائه الحاد وقدرته على الإقناع والشرح فى تواضع ظواهر لا يخفى قدرته على الحزم.. وكانت المرة التى سمعت اسمه فيها يتردد من المذياع الذى معنا - أثناء العمل خلف خطوط العدو - حين كان المذيع أو المعلق يصف «مباحثات الكيلومتر ١٠١» بقوله ويمثل مصر فى هذه المحادثات الضابط المصرى الذى يعزى إليه الفضل فى تدمير خط بارليف - «اللواء محمد عبدالغنى الجمسى».
وبهذا السرد الموجز ربما تكون قد اقتربنا من الإجابة على السؤال الأول.
أما السؤال عن كيفية الاغتصاب هل مثل ١٩٥٦ أم ١٩٦٧ أم اغتصاب آخر؟ - فماذا حدث فى ١٩٥٦؟
والمعلوم لدى العالم أجمع أن العدوان الثلاثى على مصر عام ١٩٥٦ كان اتفاقًا تآمريًا بين إنجلترا وفرنسا على الهجوم على مصر والاستيلاء على قناة السويس بعد أن قام الزعيم الخالد/ جمال عبدالناصر بتأميمها يوم ٢٦ يوليو ١٩٥٦ أما اشتراك إسرائيل، فقد كانت تتحين الفرصة لتدمير الجيش المصرى بعد حصوله على صفقة الأسلحة التشيكية عام ١٩٥٥ - وقتها أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلى «ديفد بن جورين» توجيهًا سياسيًا إلى وزير دفاعه «موشى ديان» بالاستعداد للدخول فى حرب مع مصر وتدمير جيشها قبل أن يستوعب التسليح الشرقى الجديد، بدأت الحرب فى يوم ٢٩ أكتوبر ١٩٥٦ بإسقاط كتيبة مظلات على المدخل الشرقى لمضيق متلا لمسافة سبعين كيلومترا شرق مدينة السويس.
لحق بهذه الكتيبة «لواء مشاة ميكانيكى مدعم بكتيبة دبابات» بقيادة العقيد / إريل شارون تسلل من الحدود الفلسطينية المصرية فى منطقة النقب وانضم إليها فى قتال القوات المصرية. التى تدافع عن المدخل الشرقى لمضيق متلا والتى لم يكن تعدادها يتعدى المائة رجل بأسلحتهم الصغيرة.. وخلال عملية القتال فى محاولة مستميتة من القوات الإسرائيلية لاختراق المضيق لم تستطع الدخول أكثر من مائة متر فى المضيق الذى يبلغ طوله ٣٢ كم بين جبلى الطوال والحيطان.. وطبقا لرواية الجنرال/ شارون فيما بعد أنه خسر فى هذه المعركة ٣٨ جنديًا من جنوده.
فى يوم ٣٠ أكتوبر ١٩٥٦ وجهت إنجلترا وفرنسا إنذارهما الشهير إلى مصر وإسرائيل، بأن ينسحب الجيش المصرى من سيناء إلى الخط غرب قناة السويس. بمسافة ١٠ كم والجيش الإسرائيلى ينسحب (يقصد أنه يتقدم) إلى مسافة ١٠ كم شرق قناة السويس، كى تتمكن القوات الإنجليزية والفرنسية من احتلال ضفتى القناة وتأمين الملاحة الدولية.
- رفضت مصر الإنذار، فقامت القوات الجوية لإنجلترا وفرنسا بضرب جميع القواعد والمطارات المصرية وتدمير جميع الطائرات فيها صباح يوم ٣١ أكتوبر ١٩٥٦ وفى نفس التوقيت بدأ إسقاط قوات المظلات الفرنسية والإنجليزية فى بورسعيد وتقدمت سفن الأسطولين لكلا الدولتين صوبها.
وقتها أدركت القيادة المصرية حجم المؤامرة وأهدافها فقامت بإصدار أوامرها للجيش بالانسحاب من سيناء وتأمين ضفتى القناة والتصدى للعدوان الرئيسى عليها بعد يوم واحد من القتال وليلة واحدة.. فتقدم الجيش الإسرائيلى وانتشر فى سيناء دون مقاومة بعدها أو عناء.
بعدها صمدت مصر كلها جيشًا وشعبًا فى صد العدوان، فنالت احترام العالم أجمع وتأييده الذى نتج عنه انتهاء العدوان وانسحاب القوات المعتدية من بورسعيد فى ٢٣ ديسمبر من نفس العام، أما إسرائيل فتم انسحابها من سيناء فى فبراير من العام التالى ١٩٥٧ بقرار من مجلس الأمن الدولى.
وهكذا عادت سيناء.. فهل كان ذلك فى ذهن المشير عبدالحكيم عامر القائد العام للجيش المصرى عام ١٩٦٧ وهو يصدر أوامره للجيش المصرى بالانسحاب من سيناء يوم الخامس من يونيه عام ١٩٦٧، يوم الخامس، بعد أن فاجأته الضربة الجوية الإسرائيلية لقواعدنا ومطاراتنا وهو يستقل الطائرة ومعه كبار القادة، فى لحظة الاقتراب من مطار تمادا فى وسط سيناء، الذى ينتظره فيه قادة التشكيلات الموجودة على أرض سيناء، كى يجتمع بهم ويعطيهم أوامره بالاستعداد لصد الهجوم الإسرائيلى.
لقد سبق هذا اليوم أيام ثلاثة حين اجتمع جمال عبدالناصر بالقيادة العليا للقوات المسلحة وعلى رأسها المشير عبدالحكيم عامر يوم الثانى من يونيه ١٩٦٧ وحذرهم من الهجوم الإسرائيلى المنتظر يوم ٥ يونيه ووجههم بالعمل على صد الهجوم أولا ثم التحول للهجوم وعندما طالب بعض القادة أن نبدأ بضربة استباقية قال لهم إن الدول العظمى تتوعد من يبدأ القتال بعقوبات لا قبل له بها. وعندما سأل المشير عن مدى استعداد القوات المسلحة ردعليه بجملته المأثورة «برقبتى ياريس».
عاد المشير/ عامر بطائرته من سيناء إلى القاهرة واتجه إلى مركز قيادته ليقف على المأساة التى لحقت بالقوات الجوية بعد تدميرها على الأرض فأصدر أوامره بالانسحاب من سيناء بعد أن قال مأثورته الثانية «لن أترك أبنائى يحاربون فى العراء» يقصد بدون طيران فوقهم يحميهم من طائرات العدو.
وانسحب الجيش قبل أن يحارب بل قبل أن يعبر العدو الحدود.
فهذا هو المشير/ الجمسى فى مذكراته، يقول «حتى نهاية يوم ٦ يونيه ١٩٦٧ لم يكن الجيش الإسرائيلى قد أحدث اختراقات ذات قيمة على طول الحدود» فلماذا إذًا كان هذا الأمر بالانسحاب؟
إن هذا الأمر أشبه بكارثة كونية غير قابلة للتكرار!!
وصمد الشعب وأعلن تحديه للنكسة والهزيمة وتمسك بزعيمه، وبدأ على الفور بناء قواته المسلحة على الأساس الذى يضمن لها التفوق على العدو وليس بالسلاح فقط، بل بمن يقاتلون بالسلاح وكانت المعجزة بعد سنوات ست لم يغمض فيها لمصرى جفن فى مواجهة عدو أصابه الصلف والغزور وراح يحصن دفاعاته فى سيناء بالشكل الذى لا يسمح باختراقها مهما طال الزمن.
حتى جاء يوم السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، وتأبى شمسه أن تغيب قبل أن ترى جيش مصر يسطر فوق رمالها أنها أبدا لن تضيع.. فبعد ساعات ست كان لنا خمس فرق تضم خمسين ألف جندى قد أتموا عبور القناة والاستيلاء على خط بارليف المنيع وقطع يد إسرائيل الطولى التى تمكنت من تدمير طائراتنا عام ١٩٦٧، إن الساعات الست الأولى حسمت ما بعدها من قتال، وحقق مقاتلونا أرقامًا لم يُسمع عنها من قبل فى معدلات تدمير العدو، فهؤلاء طيارونا يسقطون الفانتوم بالميج ٢١ التى تساوى ربع قدرتها وبالميج ١٧ الأقل من ذلك وبقدرة الله تقطعها مروحية من مروحياتنا طراز»مي ٨» ولدينا من الطيارين من أسقط ثلاث وأربع طائرات للعدو وفى البر حقق رجالنا من رجال الصواريخ المضادة للدبابات أرقامًا غير مسبوقة ليدمر الواحد منهم ست وعشرين دبابة، بينما المعدل العالمى هو ٢: ٣ دبابات وكما قال الرئيس السادات مازحًا وهو صادق «إن جيشنا يدمر اللواء المدرع المعادى فى عشرين دقيقة» وكان للتدخل الأمريكى بعد استغاثة إسرائيل على لسان رئيسة وزرائها (جولدا مائير) «أنقذوا إسرائيل» - دور كبير فى التأثير فى سير القتال لصالح إسرائيل فى أحد مراحل المعركة.. بعدها استعاد جيشنا المبادأة وحسم الموقف.. الأمر الذى أدى للتدخل الأمريكى المباشر بواسطة وزير خارجيتها آنذاك «هنرى كيسنجر» الذى أبلغ الرئيس السادات أنه إذا حاول القضاء على القوات الإسرائيلية التى عبرت القناة، سوف يتدخل الجيش الأمريكى مباشرة إلى جانب إسرائيل، لأن أمريكا لن تقبل بهزيمة السلاح الأمريكى. وعرض على الرئيس السادات رغبة إسرائيل فى الانسحاب من سيناء، وبدأ التفاوض على ذلك بدلا من القتال.
وبدأت المفاوضات وانتهت بمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وعادت كامل أرضنا غير منقوصة. يوم ٢٥ أبريل ١٩٨٢ واستكمل إعادة الألف متر مربع فى طابا بعد ذلك.
والأمر الذى لا يخفى على عاقل أن كلا من إسرائيل أو أمريكا ما كانت لتقبل بهذا الانسحاب إلا لتأكدها من قدرة جيشنا على استعادتها بالقتال..
ولكن!؟ هل توقفت الأطماع فى سيناء أو انتهت؟
إن هناك مؤامرة دبرت بليل لحل القضية الفلسطينية على حساب أرض سيناء.
وأطراف هذه المؤامرة كل من سيجنى ثمارًا من ورائها.
- إسرائيل وضعت خطة تبادل الأراضى بواسطة مستشارها للأمن القومى الجنرال جيورا آنلاند. وصدقتها حماس وتبنتها الولايات المتحدة الأمريكية.. وأتت بجماعة الإخوان لحكم مصر لتنفيذ هذا العقد.
وعندما اكتشف الشعب المصرى هذه المؤامرة وأزاح جماعة الإخوان التى كانت قد شرعت بالفعل فى تمكين فلسطينيى حماس من جزء من أرض سيناء. عندها تلاقت كل الخيوط على سحب البساط من تحت أرجل المصريين فى سيناء.. بالعناصر الإرهابية التى تتخفى تحت راية الإسلام!
إنها تحاول طمس هوية سيناء وترهيب أهلها لإفراغها من الجزء الأكبر من السكان.. والتغرير بصغار السن من شبابها عن طريق غسيل عقولهم تارة والترغيب بالمال تارة والترهيب بالقتل تارة أخرى.
- ترى هل تنجح ديدان الأرض هذه فى تحقيق ما لم تحققه جيوش الأعداء الجرارة؟
- إنهم يخططون.. نعم..
- هل سينجحون؟
- هل هذه الأرض التى تروى كل يوم بدماء شهدائنا الذكية يمكن أن يتم التفريط فى حبة رمل من رمالها.
لا.. وألف لا..
أبدا لن تغتصب سيناء مرة أخرى ولن تضيع.. وفيها رجال يحرصون على الموت حرص أعدائهم على الحياة.