الأحد 11 اغسطس 2024

حب الوطن .. بعيدا عن الشعارات

فن25-10-2020 | 20:48

هل هناك أمة لا تعرف تاريخها؟ منذ آلاف السنين سجل الإنسان بالرسم يومياته على جدران الكهوف، وباكتشاف الكتابة تم التوثيق لأهم الأحداث التي تمر بها البلاد ،  كما شمل التوثيق في فترة تاريخية مبكرة حياة الأفراد اليومية، فالأمم المتحضرة تهتم بتوثيق تاريخها على مدار العصور، ومن خلال التاريخ المسجل تكتسب هويتها، كما تستفيد الأجيال المتعاقبة لمعرفة تاريخ بلادها.  


أيضا يعد التوثيق  نقطة انطلاق للتطوير في شتى المجالات العلمية والثقافية، تلك المعلومات البديهية عن أهمية التوثيق دارت بذهني حين التقيت بأحد نقاد السينما العراقيين أثناء مهرجان القاهرة السينمائي في دورته ال41 ، بدا الرجل مهموما وهو يحكي عن فقدان العراق للأفلام السينمائية القديمة، كما فقدت السجلات التي توثق لنشأة السينما العراقية وتحكي تفاصيل الأفلام، وقال حرفيا "لم يكن لدينا جهة مختصة بالتوثيق للسينما، وتفرق التوثيق بين جهات متعددة، وبعد الحرب وجدنا أنفسنا بلا تاريخ سينمائي، لا أفلام ولا سجلات، ليس لدينا إلا بعض المعلومات الشفاهية التي يحملها أفراد أو بعض ما ذكر عن السينما العراقية في الكتب المتخصصة في السينما"، بعدها بأيام التقيت برئيس تحرير مجلة "الهلال" الصحفي خالد ناجح، وعرفت منه أنه يعمل على عدد خاص بالمجلة عن دور الكنيسة الوطني في مصر، فعرضت عليه كتابة مقال عن دور الكنيسة في السينما،  فرحب بالموضوع،  ولكي أحصل على معلومات موثقة وأكيدة أشار عليّ أحد الأصدقاء بالتوجه إلى المركز  الكاثوليكي المصري للسينما الموجود برقم 9 شارع عدلي، كانت معلوماتي حينها أن المركز يقيم مهرجانا سنويا للسينما، وبه أرشيف سينمائي، اعتقدت أن الأرشيف سيكون جُل اهتمامه بالأفلام التي صنعها أو شارك في صنعها أقباط مصريون، أو ما تنتجه الكنيسة من أفلام دينية تسجيلية  تتناول قصص حياة القديسين الأوائل.

  

كانت المرة الأولى التي أزور فيها المركز الكاثوليكي المصري للسينما، بدا المركز للوهلة الأولي متواضعا، استقبلني اثنان من العاملين به - رجل وامرأة -  بترحاب شديد، وطلبت معلومات عن تاريخ علاقة الكنيسة  بالسينما وعن المهرجان السينمائي السنوي الذي يقيمه المركز،   نظر إليّ الموظفان باستغراب، وقام أحدهما علي الفور لإحضار بعض الكتب والمنشورات التي يمكن أن تساعدني، استغليت انشغاله بما سيجلبه لي، وسألت الموظفة الثانية هل لديكم بمكتبة المركز معلومات كافية  عن  دور الكنيسة في السينما ؟ ابتسمت ثم ردت بثقة :  نحن  نوثق كل ما يختص بالأفلام المصرية منذ عام ١٩٢٧، ولدينا أرشيف بسنوات الإنتاج وأسماء الأفلام وكل ما كتب عنها في الصحافة المصرية والعربية والأجنبية، الأرشيف منظم بأسماء الأفلام وسنوات الإنتاج، ثم أكملت: لازم تحددي محتاجة إيه بالظبط لأن الأرشيف اللي عندنا كبير جدا، عاد الموظف  ومعه بعض الكتيبات التي نشرت في دورات سابقة لمهرجان المركز الكاثوليكي المصري للسينما ولفت انتباهي أن آخر دورة للمهرجان رقمها "السابعة والستون"، ما يعني أن المهرجان بدأ منذ سبعة وستين عاما، أي أنه أول مهرجان سينمائي عربي في تاريخ السينما، وكتاب عنوانه " المركز الثقافي المصري للسينما وخمسون عاما من الثقافة السينمائية  ـ دراسة توثيقية وتحليلية ـ تأليف  الدكتور ناجي  فوزي، تقديم الأب يوسف مظلوم، وتاريخ نشر الكتاب في عام ١٩٩٩، أخذت الكتب وأنا أفكر كم من السينمائيين يدركون أن هذا المكان المتواضع - أقصد مقر المركز - يحتوي على كل تفاصيل ووثائق تاريخنا السينمائي، بدأت أتصفح مقدمة الكتاب  بقلم المؤلف الدكتور ناجي فوزي، وفيها ما يلي " أنا أعتبر أن البحث في تاريخ المركز الكاثوليكي المصري للسينما خطوة أخرى على طريق التنقيب عن الثروة التاريخية للثقافة السينمائية في مصر، التي تراكمت عبر عشرات السنين الماضية دون أن تنال قدرا من حقها في التقويم على أسس علمية، إن هذا المركز الذي أخذ على عاتقه مهمة التأريخ للسينما المصرية وأرشفتها بانتظام ذي خصائص فريدة وتكاد تكون منقطعة النظير داخل مصر والوطن العربي، لذلك كان البحث  الجاد في نصف قرن من تاريخ هذا المركز"، يستعرض الكتاب تاريخ المركز الذي لا ينفصل عن تاريخ السينما المصرية.


ففي عام ١٩٤٨، كان الأب بطرس فرانذيدس، وهو واحد من الرهبان الفرنسيسكان التابعين لإدارة الأراضي المقدسة يزاول عددا من الأنشطة الدينية والاجتماعية ذات الطابع الثقافي بمدينة الإسكندرية، فقام بتأسيس مكتبة للأفلام من مقاس ١٦مم  واستطاع أن يحصل على عدد من نسخ  أفلام أغلبها فرنسية، وكان الغرض من هذا النشاط إعداد شريحة من المتفرجين تتمتع بنوع متميز من التلقي للفيلم السينمائي من خلال العروض السينمائية لأفلام بعينها تنمي الإحساس بالتذوق السينمائي الجيد.

  

في نفس التوقيت بالقاهرة كان فريد المزاوي المخرج والمؤرخ السينمائي فيما بعد، في بداية احترافه لإخراج الأفلام السينمائية القصيرة، التقى فكر الاثنين في أهمية نشر الثقافة السينمائية، فقررا معا أن يختص المزاوي بالأفلام المصرية ونشر ثقافتها بالقاهرة، بينما يختص الأب فرانذيدس بالأفلام الأجنبية لنشر ثقافتها بالإسكندرية.

 

وفي عام ١٩٤٩، حصل الأب بطرس فرانذيدس على موافقة الأساقفة الكاثوليك في مصر بتأسيس المركز الكاثوليكي المصري للسينما، وبدأ العمل في القاهرة بغرفة واحدة في بدروم  بشارع محمد فريد، وبدأ النشاط  بعرض الأفلام السينمائية على الجمهور، ومن غرفة البدروم كان التوثيق لأول مرة لآراء المتفرجين وانطباعهم عن الفيلم، كما كان تصنيف الأفلام من قبل إدارة المركز في بطاقات تعريف بالفيلم حسب توجهه، سياسي، رومانسي، اجتماعي، كوميدي وهكذا، وبزيادة عدد المشاهدين تم نقل المقر لشقة سكنية كبيرة كائنة في ٩ شارع عدلي بالدور الثالث في أبريل من عام ١٩٥٢، وهو المقر الحالي، واستمر نشاط عرض الأفلام والتوثيق لها بعد أن استقر المركز في مقره الجديد تتطلع إلى تتويج هذه الأنشطة باتخاذ خطوة إيجابية  تعضد اتجاهه  نحو فكرة تشجيع المنتجين السينمائيين على إنتاج الأفلام ذات المواصفات المثالية من الناحية الأخلاقية.


احتفل المركز بدورته الأولى لأول مهرجان سينمائي مصري  في ديسمبر ١٩٥٢، ومنح أول جائزة سنوية باسمه إلى الفيلم المصري "صورة زفاف" إخراج حسن عامر، وأصبح أول  مهرجان سينمائي منتظم في مصر،  تلاه بعد  ثلاثة وعشرين عاما مهرجان جمعية الفيلم بالقاهرة، الذي كانت أولى  دوراته عام ١٩٧٥،  أي ما يعاصر الدورة الثالثة والعشرين لمهرجان المركز الكاثوليكي المصري للسينما.


زاد عدد المترددين على المركز لمشاهدة الأفلام، فقام المركز بإنشاء قاعة النيل للعروض السينمائية  ليتم عرض الأفلام بها على نطاق أوسع، كما فتحت أبوابها لعروض المنتجين السينمائيين الخاصة لعرضها على  الصحفيين والنقاد، وأيضا تقام بها  ندوات للأفلام وتم افتتاحها في عام ١٩٥٧. 


كانت الفكرة التالية للمركز بعد المهرجان، تأسيس مكتبة علمية متكاملة للفنون السينمائية، وكانت الفرصة الحقيقية للبدء في تكوين مثل هذه المكتبة على نطاق واسع جاءت عام ١٩٥٣، عندما تمكن الأب بطرس فرانذيدس من تدبير منحة مالية قيمتها ألف دولار من أحد إيرادات الأراضي المقدسة في مونتريال بكندا، وتم تخصيص هذه المنحة لشراء حوالي ألفي كتاب في مختلف العلوم والفنون السينمائية من المكتبات المتخصصة في بيع الكتب المستعملة  من أوروبا وأمريكا،  ثم اتجه المركز  لاقتناء المجلات السينمائية الأجنبية التي لم تكن متداولة بالبيع في مصر، وتحقق هذا الاقتناء عن طريق الاشتراك السنوي مع دور نشر هذه المجلات.


وباكتمال المكتبة أتيح للناقد والمؤرخ السينمائي فريد المزاوي والعاملين معه بالمركز إصدار عدد من النشرات السينمائية المتخصصة لفترة من الزمن تحت اسم "كراسات الدراسات السينمائية"، وتتضمن ترجمات كاملة لأهم المقالات السينمائية التي كانت تنشر خارج مصر، لقد تبنى المركز مسئولية التوثيق لتاريخ السينما المصرية في وقت لم يفكر  فيه  أحد في هذه المسألة المهمة.


 تعددت أنشطة المركز في وقت قياسي، فكان الإخراج والإنتاج للأفلام التي تسهم في  تمجيد القيم الأخلاقية والروحية  لدى الإنسان والاهتمام بأصحاب المهن السينمائية،  الاهتمام باستطلاع الرأي العام حول مختلف الأعمال السينمائية، تنظيم المؤتمرات العالمية والإقليمية والدورات الدراسية لمناقشة الموضوعات المختلفة التي تدور حول العلاقة بين المفهوم الديني للأخلاق وبين المحتوى الموضوعي للفيلم، ثم كان اشتراك المركز في أهم مهرجانات السينما العالمية مثل برلين، لوكارنو، سباستيان، قرطاج، كما شارك المركز بممثلين عنه في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي  الثاني عام ١٩٧٧، ومنحت لجنة تحكيم الهيئة الكاثوليكية الدولية للسينما جائزتها الدولية للفيلم المصري "أفواه وأرانب" إخراج هنري بركات عام ١٩٧٧.


ويذكر  الناقد السينمائي سمير فريد أنه لا يوجد بحث علمي واحد عن السينما في مصر لم يبدأ بفيلموجرافيا فريد المزاوي ولم يخرج من مكتبة المركز الكاثوليكي حتي بعد إنشاء وزارة الثقافة والمركز القومي العربي للثقافة السينمائية، ولا يقتصر الأمر على مصر، بل كل بحث علمي عن السينما  في الوطن العربي بدأ من تلك الشقة المتواضعة في شارع عدلي.  


ومن هنا نرى أنه لا يوجد هناك من يختلف على أن التأريخ للسينما المصرية يبدأ من المركز الكاثوليكي المصري للسينما من خلال ذلك الأرشيف الضخم الذي يحتوي على الملفات الكاملة لكل ما أنتجته السينما المصرية من أفلام روائية منذ عام ١٩٢٧، إلى الآن، حتى أصبح هذا الأرشيف بحق بمثابة العمود الفقري للثقافة السينمائية المصرية بل العربية والقاعدة الأساسية حتى الآن التي تنطلق منها البحوث الجادة في تاريخ السينما المصرية.

 

هؤلاء الذين حملوا على أكتافهم مهمة التوثيق والتأريخ للفن السابع وإدراك أهمية دور السينما في توجيه ثقافة المجتمع في فترة مبكرة بحق هم وطنيون مخلصون لبلادهم، أثبتوا أن حب الوطن والانتماء له بالعمل الجاد الدءوب الذي يحافظ على تراثه وهُويته، وليس بالشعارات الرنانة التي لا تثمر ولا تغني.