تنشر بوابة "الهلال اليوم" فصلاً جديداً من كتاب "هيكل..المذكرات المخفية" للكاتب الصحفي "محمد الباز" والذي جاء تحت عنوان "عرفت عبد الناصر"
الرفيق الذى سافر وحده
(1)
كانت مقابلتى
الأولى مع عبد الناصر تعيسة جدا.
كنت مع حسين فهمى
عبد المجيد والذى أصبح فيما بعد سفيرنا بالمغرب، وكان فى ذلك الوقت ضابط أركان حرب
مع البطل أحمد عبد العزيز، وكان حيدر باشا وزير الحربية فى ذلك الوقت قد رفض منحى
تصاريح الذهاب إلى فلسطين لتغطية أحداث الحرب.
ذهبت إلى الأردن، ومن عمان إلى القدس إلى بيت
لحم، ولم تكن هناك وسائل للمواصلات فمشينا على الأقدام 32 كيلو مترا، وكان فى
الطريق مستعمرتان لليهود، مستعمرة الزراعة ومستعمرة تل بيوت، وسرنا فى اتجاه
المستعمرات وكان معنا دليل فلسطينى اسمه أبو إبراهيم لديه خبرة طويلة فى المسالك
والدروب الأمنية.
ورغم ذلك شعر بنا
سكان أحد المستعمرتين وضربوا علينا النار وقد أصبت إصابة خفيفة فى ساقى.
الطريف أن أبو إبراهيم كان السبب فى اكتشاف
أمرنا، فقد استرحنا بعض الوقت إلى جوار صخرة كبيرة، وفجأة أخرج مسدسه وأطلق رصاصة
بحجة أنه رأى ثعبانا، أو كما قال هو "حنش".
كشفت هذه الرصاصة
أمرنا...فأطلق علينا سكان المستعمرة النار.
وصلنا إلى أحمد عبد العزيز وكانت القوات المصرية
الأساسية بجناحيها موجودة فى المجدل، فقد دخل الجيش المصرى بجناحين.
جناح إلى بئر سبع
وبيت لحم وهو الجناح الشرقى الذى كان فيه أحمد عبد العزيز.
أما القوات الرئيسية للجيش المصرى فقد سارت على
الطريق الساحلى إلى المجدل وأشدود " غزة – مجدل – أشدود"، وكانت منطقة
الفالوجة فى الخط الواصل بين المنطقتين " بيت لحم – المجدل" والذى يسمى
الطريق الأوسط.
طلبت من أحمد عبد
العزيز أن أذهب إلى الغرب فأعطانى سيارة جيب وأرسل معى الضابط حسن فهمى عبد
المجيد، ونزلنا إلى الفالوجة وعلمت بوجود ضابط مهم بالمنطقة، وكنا قد توقفنا لوجود
معركة كبيرة ومهمة على الطريق، وطلبت رؤية هذا الضابط المهم الذى سمعت عنه واسمه جمال عبد الناصر.
أخذونى إليه، وكان
عائدا لتوه من المعركة، مجهدا ومتعبا ولم ينم منذ عدة أيام، ووجدته فى قسم شرطة
" عراق المنشية" يستعد للنوم، ومعه بطانيتان طوى أحداهما ليجعل منها
مخدة، وفرش الأخرى لينام عليها.
استمرت جلستنا ما
يقرب من ثلث ساعة ولم أخرج بنتيجة، رفض الصاغ أن يتحدث، صحيح أنه كان مرهقا جدا،
فهو لم ينم من خمسة أيام، لكن رفضه كان ناجما عن غضبه مما تنشره الصحافة المصرية
ومن طريقة علاج الصحف الحزبية لحرب فلسطين.
من اللحظة الأولى
اكتشفت أن عبد الناصر كان ساخطا جدا على الصحافة المصرية، لأنها كانت تنشر أخبارا
غير صحيحة عن المعارك فى فلسطين، وجلس على البطانية وقال: " انتوا مش عايزين
تسمعوا حاجة، انتوا فى مصر عايزين تكتبوا اللى انتوا عايزينه".
قلت له: هل قرأت
لى شيئا؟
فأجاب: أيوه قرأت
لك وفيه حاجات عجبتنى.
كان شديد العصبية،
ثم تركته وأكملت طريقى إلى المجدل، لأكمل مهمتى المتعلقة بالحرب، وشاءت الصدف أن أراه ثانية عند عودتى إلى المنطقة من
جديد.
ثم اجتمعنا بعد
الهدنة الأولى، وفى هذا الاجتماع لاحظت أنه مهتم بتحقيقات كتبتها من باريس عن
الدورة الخاصة التى عقدها مجلس الأمن فى قصر "شايو" لمناقشة القضية
الفلسطينية ووقف اطلاق النار.
(2)
انتهت لقاءاتنا
التى فرضتها ظروف الحرب، وبعد حصار الفالوجة لم نعد نجتمع، إلى أن التقينا أواخر
عام 1949، وهذا اللقاء جاء فى أيام الانقلابات فى سوريا.
فى تلك الفترة كنت
فى تركيا لتغطية أخبار الإنتخابات، وبعدها انتقلت إلى اليونان لتغطية ذيول الحرب
الأهلية، ومن اليونان انتقلت إلى دمشق لأكتب عن الانقلابات التى شهدتها سوريا من
انقلاب حسنى الزعيم الذى قام به أديب الشيشكلى مرورا بانقلاب سامى الحناوى.
بعد أيام من نشر
التحقيقات المتعلقة بالانقلابات السورية فوجئت ذات يوم بصلاح سالم يزورنى فى أخبار
اليوم ومعه جمال عبد الناصر، وكنت اجتمعت فى السابق مرتين بصلاح سالم.
كان الغرض من
الزيارة هو الحديث معى فى مسألة بسلاح الحدود، لأن صلاح سالم بدأ الحديث حول هذه
المسألة، ثم تبدل مجرى الحديث وبدأ جمال عبد الناصر يسأل عما جرى فى سوريا، وكان
مركزا على نقاط معينة.
سألنى عن كل الذين قاموا بالانقلابات وعن
أهدافهم، وكيف يتصرفون وكيف استقبلت الجماهير السورية هذه الانقلابات، وهل حدثت
اضطرابات ومدى حجمها؟
خلال الحديث
تناولنا بشكل عابر الاجتماعين اللذين تعارفنا خلالهما على أرض فلسطين، وغادر جمال
عبد الناصر وصلاح سالم مكتبى.
مرت فترة طويلة لم
نجتمع إلى أن زارنى عبد الناصر يوما بشكل مفاجئ فى أخبار اليوم، كان ذلك بعد عودتى
من تغطية أزمة إيران التى بدأت عام 1951، بقتل رئيس الوزراء، وانتهت بظهور الدكتور
محمد مصدق ثم سقوطه، وقال لى إنه جاء ليحصل على نسخة من كتاب كنت قد ألفته وهو
بعنوان" إيران فوق بركان".
قال إنه لم يعثر
على نسخة ليشتريها فجاء يطلبها منى.
وفى خلال نصف ساعة
استغرقتها الزيارة تحدثنا عن إيران وعن أمور كثيرة.
(3)
لم أقابله بعدها
إلا يوم 18 يوليو 1952 أى قبل الثورة بأيام قليلة وكان ذلك فى بيت اللواء محمد
نجيب الذى كنت أزوره، عندما دخل شخصان.
الأول كان جمال ومعه شاب يرتدى قميصا أبيض
وبنطلونا رماديا عرفت فى حينه أنه عبد الحكيم عامر الذى لم أكن قد تعرفت إليه.
تردد عبد الناصر
فى الدخول، ولما كان لا يريد التحدث مع محمد نجيب أمام أحد، فإنه أشار على نجيب
وغادرا المكان معا يرافقهما عبد الحكيم عامر، وبعد نحو ربع ساعة عادوا.
جرت مناقشة بينى
وبين جمال عبد الناصر.
قلت مستفزا: إذا كان الجيش لم يتمكن من الدفاع
بالقدر الكافى عن البلد فعليه على الأقل أن يدافع عن نفسه وعن كرامته.
ورد عبد الناصر:
ما الذى يمكن أن يفعله الجيش؟
أجبته: لا أدرى...
إنما من المهم بعد الذى فعله الملك أن يدافع الضباط عن أنفسهم وكرامتهم.
وقال عبد الناصر:
هل يعنى أن يقوم الضباط بانقلابات كتلك التى حدثت فى سوريا؟
قلت: لا... أنا
لست مع فكرة القيام بانقلاب.
رد عبد الناصر: ما
الذى نفعله إذن؟
عرضت عليه فكرة
ساذجة.
قلت له: ما الذى
يمنع أن يتوجه ألف ضابط إلى السرايا، ويكتبوا فى سجل الزيارات أن الموقف تردى وأنه
لابد من معالجة هذا الموقف.
رد جمال عبد
الناصر على هذه الفكرة بقوله: هذا سيعتبر عصيانا، وكأننا بهذه الفكرة نقول علانية
أننا نحن ضباط الجيش سنقوم بانقلاب.
وعدت أقول لعبد
الناصر: أنا شخصيا ضد الانقلاب، ولكن لابد من حدوث شئ.
وأجابنى: أنت تكتب
فى السياسة، هل لك أن تحدد لى ما الذى يمكن أن يفعله الجيش.
كان عبد الحكيم
عامر يسمع المناقشة من دون أن يشارك فيها، أما محمد نجيب فقال أنه بصدد إعداد
مذكرة تمهيدا لرفعها كدعوى لدى مجلس الدولة، وأن رفع الدعوى سيكلف ثمانية جنيهات.
تحدثنا عشر دقائق
بعد ذلك وغادرت منزل نجيب لأركب سيارتى " أوبل كابيتان" لونها أسود،
وأعود إلى مكتبى، وعلى زاوية الشارع لمحت جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر واقفين
كما لو أنهما فى انتظار أحد، أو فى انتظار سيارة تاكسى.
قلت لهما: هل
تريدان أن أوصلكما؟
وسألنى عبد
الناصر: إلى أين أنت ذاهب؟
قلت: إلى وسط
البلد.
وركب الإثنان
سيارتى، عبد الناصر إلى جانبى، وعبد الحكيم عامر فى المقعد الخلفى.
فى الطريق قال لى
عبد الناصر: إنكم تتكلمون، كل واحد منكم يتكلم، إنما لم يقدم أحدكم حلا، إن
الانقلاب غير ممكن، من الذى سيقوم بالانقلاب؟
بعد نصف ساعة من
الكلام قال عبد الحكيم عامر لجمال عبد الناصر: سننزل هنا فى محطة باب الحديد.
لم ينزل عبد
الناصر، فوجئت به يقول لى أنه ضحك كثيرا لمنظرى وأنا أحيى الإمام آية الله
الكاشانى وهى صور ضمنتها كتابى" إيران فوق بركان" لكنه انتقل إلى الحديث
عن الانقلاب وكيف أنه سيؤدى بالبلد إلى كارثة.
وفجأة سألنى: هل
تظن أن الإنجليز سيتدخلون لو حدث انقلاب فى مصر؟
لاحظت أنه يصغى
باهتمام كلى إلى الجواب.
أجبته: الإنجليز
لن يتدخلوا.
وعندما سمع الجواب
المقتضب أراد المزيد من التفاصيل.
قلت له: إن الإنجليز لا يمكن أن يتدخلوا لأسباب
عدة منها أنه ليست لديهم قوات كافية للسيطرة على كل المدن المصرية، بالإضافة إلى
ذلك أن السفير البريطانى فى إجازة والملحق العسكرى فى إجازة، حتى أننى عرفت من أحد
الأصدقاء أن قائد القوات البريطانية فى الاسماعيلية موجود خارج مصر فى إجازة، إن
الموسم هو موسم إجازات، والتدخل يحتاج إلى وقت.
قبل أن ينزل عبد
الناصر من سيارتى فى محطة باب الحديد قال لى: من الضرورى أن نكمل الحديث.
فطلبت أن نذهب إلى
مكتبى فى الأخبار فرفض عبد الحكيم عامر بحدة.
سألتهما هل تذهبان إلى بيتى، فوافقا على الفور.
كنت أسكن فى 14 شارع شجرة الدر بالزمالك فى
عمارة دار الهناء.
سألنى عبد الناصر:
هل عندك تليفون فى منزلك؟
وأعطيته رقم
الهاتف.
(5)
فى اليوم التالى
اتصل بى هاتفيا وقال: أنا الذى التقاك أمس هل تذكر؟
وتقابلنا يوم 19
يوليو، جاءنى عبد الناصر، ووقتها لم أكن قد تزوجت بعد، ورغم ذلك كان بيتى مرتبا،
وكان يعمل معى سفرجى هايل، وكان البيت مليئا بالكتب التى كنت آتى بها من سفرياتى
المختلفة لرغبتى الشديدة فى القراءة والإطلاع.
عندما دخل عبد
الناصر إلى البيت تفحص كل أركانه،
أرسلت مساعدى عبد
الرسول لشراء عشاء خفيف للضيفين، وجاءنا بعلب من " السيمون فيميه".
سألنى عبد الناصر: أنت ارستقراطى؟
فقلت له: أبدا...
أنا من أسرة بسيطة، وما صنعته من مستوى حياة بعملى وحده.
بدأ الحديث فى
قضايا عادية جدا، حدثنى عن الصحافة وعن المجلة التى كانوا يصدرونها فى الفالوجة،
وعن فلسطين وعما جرى هناك، تحدث لمدة نصف ساعة تقريبا، ثم وجه لى سؤالا شعرت أنه
الغرض الأساسى من زيارته لى.
قال: كنا نتحدث
أمس عن الإنجليز وإمكان تدخلهم، هل يمكن أن تحدد لى بطريقة مرتبة الأسباب التى
أوردتها أمس وانتهيت منها إلى أن الإنجليز لا يمكن أن يتدخلوا لو حدث انقلاب أو شئ
من هذا القبيل فى البلد؟
عرضت له ما طلبه،
كان ذلك فى وقت مبكر من يوم 19 يوليو، وشعرت أن الصلة بيننا بدأت منذ انتهى هذا
اللقاء الذى سافرت بعدما أنهيناه إلى الأسكندرية.
(6)
مساء 22 يوليو كنت
فى أخبار اليوم حتى التاسعة والنصف، وفى العاشرة والنصف كنت فى منزلى، عندما اتصل
بى فريد زعلوك من الإسكندرية، وفريد صديقى ومقرب من نجيب الهلالى رئيس الوزراء،
وهو وزير دولة فى حكومته.
فوجئت به يقول لى:
يبدو أن هناك أمرا ما داخل الجيش، ولقد بلغت نجيب الهلالى عن طريق السرايا أخبار
عن أمر ما داخل الجيش، وهو يسأل عما إذا كانت لديك معلومات فى هذا الشأن.
قلت: ليست لدى
ملعومات، ما هى بالضبط المعلومات المتوافرة لديك؟
أجاب فريد زعلوك:
يبدو أن بعض الضباط تركوا الثكنات.
كان نجيب الهلالى
قد طلب من فريد زعلوك الاستفسار منى لأنه كان يعرف أن لى صلة ببعض الضباط، ومنهم
محمد نجيب الذى كنت رشحته ليكون وزيرا للحربية فى حكومة الهلالى الأولى، لأن
الهلالى كان يبحث عن ضابط محبوب فى الجيش ليشركه فى الحكومة وزيرا للحربية.
بعدما انتهت مكالمة
فريد زعلوك قررت مغادرة المنزل من دون أن أعرف إلى أين أذهب؟
وفجأة رن جرس
الهاتف، وكان المتحدث سعد توفيق، قلت له: ما الأخبار؟
أجاب: يظهر فيه
هيصة، هناك أمور كثيرة، وإذا كنت تريد كتابة شئ عما يحدث فهذه حكاية كبيرة،
واتفقنا على أن نلتقى فى العباسية، ثم توجهت إلى منزل محمد نجيب، وكان سهرانا
ويرتدى قميصا وبنطلونا وينتعل شبشبا.
اتصل أحدهم بمحمد
نجيب هاتفيا وفهمت أنه مرتضى المراغى.
اتصل المراغى مرة
أخرى وقال ما معناه أن بعض الضباط تركوا الثكنات وأن ذلك سيحدث فوضى فى البلد،
وتبعا لذلك سيتدخل الإنجليز، ولذلك فإن الملك يفوض إلى نجيب الاتصال بالعيال
المجانين دول وينهى المسألة بالتى هى أحسن.
رد عليه محمد نجيب
بما معناه أن لا معلومات لديه حوله الأمر، وأعتقد أن محمد نجيب لم تكن لديه بالفعل
معلومات، وأن كل ما عرفه من جمال عبد الناصر هو أن هناك حركة داخل الجيش، وكان عبد
الناصر عندما تحدث معه عن تلك الحركة بشكل مقتضب سأله إذا كان يريد الانضمام
إليها، وأبدى نجيب حماسة، وانتهت الاتصالات بينهما عند هذا الحد يوم 18 يوليو
1952.
كرر محمد نجيب
لمرتضى المراغى أنه لا يعرف شيئا عن مسألة ترك الضباط للثكنات، وفوجئت به يقول
أيضا: حتى أنا عندى الآن الأستاذ هيكل بتاع أخبار اليوم.
وبعد ما سألته عن
سبب قوله ذلك للمراغى تركت منزل محمد نجيب للقاء سعد توفيق فى المكان الذى اتفقنا
على اللقاء به، وأخذنى سعد توفيق إلى القيادة.
كانت الساعة نحو
الثالثة فجر 23 يوليو 1952، الشخص الأول الذى شاهدته كان عبد الحكيم عامر، وجدته
واقفا على الباب، وعندما رآنى قال لى: خلاص القاهرة كلها.
وقلت: إيه يعنى
القاهرة كلها؟
أجاب: أخذناها...
القوات مسيطرة على كل القاهرة.
قلت له: هل هذا
انقلاب؟
بعد ذلك تطلعت إلى
حوش القيادة فوجدت بعض الضباط والجنود يفترشون الأرض ويأكلون، وهؤلاء كانوا أفراد
الكتيبة 13 التى قبضت خطأ على عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ثم تعرف عليهما يوسف
صديق وأفرج عنهما.
سألت نفسى: هل
أبقى حيث أنا أم أنزل إلى الضباط والجنود الذين كانوا يغمسون أرغفة الخبز بالفول
وأتحدث إليهم لأعرف ما الذى جرى؟
إن سعد توفيق
اختفى، وعبد الحكيم عامر اختفى، وخلال ثوان من هذه الحيرة عاد عبد الحكيم يقول لى:
إيه رأيك هل يتدخل الإنجليز؟
وأشار لى قائلا:
صاحبك ينتظرك فوق؟
وصعدت لأجد جمال
عبد الناصر ومعه كمال الدين حسين الذى كان ما يزال عاتبا على مقال كتبته فى "
آخر ساعة" عام 1949.
قلت له: ما الذى
حصل؟
أجاب: خلاص.
قلت له: خلاص إيه؟
أجاب: كنت تقول أن
الجيش عجز عن رد شرف البلد عام 1948، هل الذى فعله الجيش الآن كويس؟
قلت له: ما الذى
حدث، ما الذى تقول أن الجيش فعله؟
أجاب وكانت برقيات
التأييد بدأت تصل من المناطق: يعنى لسه مش فاهم؟
وأضاف : لا يهم ما
الذى سيحدث، المهم أننا صممنا ونفذنا وأكدنا أن فى مصر شبانا رفضوا المهانة
وتحركوا.
فكرت فى أن أتصل
بصحيفة الأخبار لأعرف الجو داخل الصحيفة والمعلومات التى وصلتها، رد على سكرتير
التحرير حسين فريد، سألته عن أحواله فأجابنى: يظهر إن فيه دوشة.
قلت له: ما الذى
ستكتبه؟
أجاب: لا
أعرف... اتصل بى مصطفى بيه وقال إنه يبحث
عنك.
قلت له: ما الذى
سنفعله؟
أجاب: لا أعرف...
ما الذى حدث بالضبط؟
قلت: الذى حدث هو
أن الجيش ترك الثكنات وقام بحركة، هل أنجزت الطبعة الأولى؟
فى هذا الوقت دخل
موظف الهاتف فى الأخبار، وقال لى: أستاذ هيكل...
مصطفى بيه بيتكلم من اسكندرية ويسأل عنك يريد التحدث إليك هل أصلك به؟
وأجبته: أيوه.
وسألنى مصطفى أمين
عن الذى حدث، وسألنى أين أنا الآن.
وقال: يبدو أن فى الجيش حركة عصيان... هل عندك
معلومات؟
قلت: لا ليس عندى
معلومات.
قال: إزاى ما
عندكش معلومات... أنت فين دى الوقت؟
أجبته: أنا فى
رحاب العصيان.
قال: الخط وحش
ممكن تدينى نمرة التليفون وأنا حاطلبك؟
قلت: لا... لا
أستطيع أن أعطيك رقم الهاتف حيث أنا الآن.
وأصر مصطفى أمين
على أن أعطيه رقم هاتف القيادة فطلبت منه أن ينتظر قليلا.
كان فى الغرفة سعد
توفيق وعبد الحكيم عامر، وكان جمال عبد الناصر فى الخارج، لا أعرف أين، وشعرت أننى
لا يمكن أن أعطيه من دون أن أستأذن.
قلت لسعد توفيق أن مصطفى أمين يتحدث من
الإسكندرية ويريد أن أعطيه رقم الهاتف، وسمع عبد الحكيم عامر كلامى، فقال مستهجنا:
إيه؟
وكان عبد الناصر
فى طريقه عندئذ إلينا وسمع عبد الحكيم عامر يعبر عن استغرابه بعبارات قاسية، وضحك
عبد الناصر.
قال لى: اعطه الرقم.
وقال لسعد توفيق:
شوف النمرة كام؟
وأعطانى سعد الرقم فأعطيته لمصطفى أمين.
وأغلقت سماعة
الهاتف بينما كان عبد الحكيم عامر يقول لعبد الناصر: إزاى ده يحصل... السرايا
هتعرف.
ورد عبد الناصر:
مش مهم يا حكيم، يجب أن نعرف كيف يفكرون، المهم أن يتصل وهيكل يعرف منه، مش هو
يعرف من هيكل.
منذ اليوم الأول
وجدت نفسى وسط القيادة، أشرح كيف أن الإنجليز لن يتدخلوا، أعطى رقم هاتف القيادة
لمصطفى أمين، أسمع كل الأحاديث من كل المشاركين فى الثورة.
بعد قليل من
إعطائى رقم الهاتف اتصل بى فريد زعلوك، ثم اتصل مصطفى أمين يسأل عن التفاصيل وعن
مكان وجودى، قلت له لا تفاصيل حتى الآن وإننى موجود فى مبنى من مبانى الهيصة اللى
احنا فيها.
قلت له: حنكتب حاجة؟
أجابنى: لا.. لا.. مش مسألة كتابة، استنى لما
نشوف حيحصل إيه... إيه اللى هيحصل؟
قلت له: أرى
دبابات كثيرة تخرج وعربات عسكرية تدخل.
قال: هل اللواء
محمد نجيب عندكم، هل هو مشترك فى الحركة؟
أجبته: رأيته منذ
قليل ولا أعرف أين ذهب.
قال: هل يمكن أن
تستقصى لنا الأمر وتلم بالصورة كاملة وتخبرنا؟
كانوا يريدون أن
يعرفوا الموقف منى، وهم سألوا عن محمد نجيب لأنه كان مكلفا من الملك أن يتصل
بقيادة الحركة ويهدئ الوضع.
بعد ذلك اتصل فريد
زعلوك ثانية وكان قد حصل على رقم الهاتف من مصطفى أمين.
وقال فريد: إن الهلالى باشا عاوز يكلمك.
وسألنى نجيب
الهلالى عن الحالة والأخبار وما إذا كنت أعرف أحدا من أركان الحركة، وقلت له إننى
أعرف بعضهم، وسأل عن محمد نجيب وطالب أن يتحدث إليه، وبعد ذلك طلب منى أن اتصل
بالذين أعرفهم من أركان الحركة وأسألهم ماذا يريدون، وأن أوضح لهم أن المسألة فى
منتهى الخطورة لأن الإنجليز سيتدخلون.
كرر الهلالى
الطلب: انت يا محمد لازم تكون على معرفة بالناس دول، أنا عاوز تقول لهم هم عاوزين
ايه؟
فى هذه اللحظة دخل
أنور السادات فكلفه عبد الناصر بالتوجه إلى محطة الإذاعة لقراءة البيان الأول
للثورة.
قال لى عبد
الناصر: قل لهم أن يسمعوا بيانا من الإذاعة سيذاع فى الساعة السابعة صباحا.
كان الوقت عندئذ
نحو السادسة إلا الربع، أى قبل الموعد المحدد لإذاعة البيان بساعة وربع ساعة، وعدت
إلى سماعة الهاتف أقول عبرها للهلالى ما قاله عبد الناصر بخصوص البيان من دون أن
أذكر اسم عبد الناصر.
قال الهلالى: لا
يا محمد، مفيش داعى للفرقعة، هل عرضت الفكرة التى قلتها لك على أحد من الأركان
فيهم؟
قلت: أظن أن الذى
أتحدثت إليه هو من المسئولين فى الحركة.
ورد الهلالى: اذهب
وقل لهم أنه لا داعى للتسبب فى حدوث فرقعة، وأن الملك مستعد لإجراء أى تعديلات
يريدونها إذا كانوا يريدون تعديلات داخل الجيش، هل هم يريدون إجراء تعديلات فى
الجيش، وأين هو محمد نجيب؟
قلت: موجود
معهم... أظن أنه منضم إليهم.
قال: هل اتصل نجيب
بأحد فيهم؟ أين هو نجيب؟ ... أريد أن أتحدث إليه.
وقلت للهلالى أن
يتصل بى مرة ثانية، وبدأت أفكر برد عليه، إنه يسأل عن محمد نجيب، وأنا قلت له أن
محمد نجيب مع الحركة لأننى اطلعت على البيان الذى طلب جمال عبد الناصر إذاعته فى
الساعة صباحا والبيان بتوقيع محمد نجيب.
واتصل الهلالى مرة
ثانية، وكنت محرجا بالفعل، سأل أيضا عن محمد نجيب.
قال: هل يمكن أن
تبلغ جماعة الحركة أن الحكومة مستعدة لاستصدار مرسوم من الملك بتعيين محمد نجيب
قائدا عاما للقوات المسلحة على أن يجرى هو التعديلات التى يريدونها داخل الجيش،
إننا لا نريد فرقعة.
ومرة أخرى قلت
للهلالى أن ينتظر.
ذهبت لأتحدث مع
جمال عبد الناصر فى العرض.
قلت له وكان إلى
جانبه محمد نجيب وزكريا محيى الدين: إن
نجيب الهلالى على الخط ويعرض عليكم استعداد حكومته لاستصدار مرسوم من الملك بتعيين
محمد نجيب قائدا عاما للقوات المسلحة على أن يجرى وفق الأصول الدستورية التعديلات
التى تريدونها داخل الجيش.
ولمجرد أن سمع
محمد نجيب العرض رحب به وقال لعبد الناصر: إيه رأيك يا جمال بيه؟ فكرة معقولة
نوافق عليها وبلاش فرقعة.
أما جمال عبد
الناصر فقال: لا.
ثم نظر إلى محمد نجيب وقال يخاطبنى: لا.
وأضاف: الفرقعة
مطلوبة بحد ذاتها لإعلان التغيير وإشعار الناس بما حدث.
كرر محمد نجيب
ترحيبه بالعرض المقدم من الهلالى.
فكرر عبد الناصر تمسكه بضرورة أن تحدث الفرقعة،
وعدت إلى سماعة الهاتف أروى للهلالى ما حدث، فقال لى: إننى لا أستطيع تحمل الموقف
ما دام ليس عندى حل، وأنا على أى حال ساتحدث مع الملك فى الأمر.
وأغلق الهلالى
سماعة الهاتف، وذهبت إلى جمال عبد الناصر أقول له إن الهلالى رجل نظيف وأنه فى
موقف لا يحسد عليه.
ورد عبد الناصر:
لا يهمنى أنه نظيف، الذى يهمنى هو أن تستقيل الحكومة لأنه عندما تستقيل الحكومة
منذ اليوم الأول للثورة يكون ذلك إثباتا عمليا بأننا مسيطرون على الموقف وأن هنالك
قوة جديدة فى البلد.
(7)
بعد الثورة كان
أحمد أبو الفتح وإحسان عبد القدوس وحلمى سلام أقرب إلى عبد الناصر منى، ولكن سرعان
ما تقاربنا، وذلك لأنه اكتشف أننى أملك الكثير عن خلفية الصراع بعد قراءاتى عن حرب
فلسطين وبعدها، كما أنه كان يمتلك رؤية فى كيفية الدفاع عن مصر، وأن هذا الدفاع
لابد وأن يبدأ شرقا، ولذلك كان الوطن العربى شديد الأهمية بالنسبة له.
اكتشف عبد الناصر
أثناء النقاشات التى كانت تدور بيننا أننى أعرف الوطن العربى جيدا، فقد أتاح عملى
كمراسل أن أمر على الوطن العربى ركن ركن
وبلد بلد، فقد ذهبت إلى فلسطين وبيروت والشام، ولذلك تلاقت اهتماماتنا ووجدنا أن
بيننا الكثير من المشتركات، وتحديدا المعرفة المشتركة وهذه المعرفة فى جوهرها
ثقافة.
تكلم عبد الناصر
مع كثيرين غيرى، وحتى كتاب فلسفة الثورة كان من المفترض أن يكتبه الأستاذ فتحى
رضوان، والذى تقدم بمشروع أولى للكتاب، ولكنه كان بشكل أو بآخر مختلفا عما يريده
عبد الناصر،وعندما جاءنى كتاب فلسفة الثورة، جاءنى لأن عبد الناصر اكتشف أن بيننا
الكثير من المشتركات والاهتمامات وظن أننى قد أستطيع التعبير بدقة عن أفكاره.
على مر السنوات
كثيرا ما كنت أسأل نفسى هل أثرت فى عبد الناصر، أم تأثرت أنا به؟
والحقيقة أن الأمور لا تقاس بمثل هذا المقياس،
لأن الأساس فيما ربط بينى وبينه هو العلاقة الإنسانية، ولذلك لا يستطيع أحد أن
يحدد فى هذه العلاقة من ساهم بماذا وكيف كانت هذه المساهمة، فالعلاقة الإنسانية
التى تنطلق من الصداقة تقوم على الحوار المستمر الذى لا ينقطع وبذلك فطرفا العلاقة
بينهما علاقات تأثير وتأثر بشكل دائم.
وعندما يقول أحد
أن عبد الناصر اختارنى أو اصطفانى لكى أصيغ أفكاره فى كتاب فلسفة الثورة، فهذا
ربما يكون غير صحيح، لأن ما حدث أننى كنت قريبا من أفكاره، وهى المسألة التى لا
تأتى بالإحتراف، ولكن تأتى بالقرب والتقارب فى الفكر، فمن قبل فلسفة الثورة كنت
أحتك بعبد الناصر.
كنت أنا وعبد
الناصر نتحدث كثيرا فى التاريخ وفى الأدب والشعر، وقد قرأ عبد الناصر كثيرا فى
التاريخ، وخاصة فى التاريخ العسكرى، فعندما كان يعد رسالته " أركان حرب"
وهى تعادل رسالة الماجستير، كان موضوعه الدفاع عن مصر وكان متأثرا بنظرية اللورد
اللنبى، وبشكل عام فقد كان قارئا جيدا للتاريخ، وللإستراتيجيات والتكتيات العسكرية
بشكل خاص.
والأهم من
المناقشات والحوارات التى كانت تجمعنى بجمال عبد الناصر، أن علاقتنا تطورت إلى
صداقة حقيقية، لها خلفية ولها منطقة تتحرك فيها، ولها الموضوعات التى نتناقش
حولها، وفى الصداقات الحقيقية يجب ألا تعجزك الموضوعات، ولا يرهقك الصمت، بمعنى أن
الصديقين إذا جلسا معا من دون أن يتكلما فإن هذا الوضع لا يمثل أية أزمة لأن
التواصل الروحى بين الأصدقاء أكبر وأقوى من أى تواصل، والصداقة الحقيقية لا تعرف
التكلف، ذلك التكلف الذى يدفع كل طرف إلى إعطاء صورة مزيفة عن نفسه، وإذا وجد هذا
التكلف فسد كل شئ، لأن الصداقة تعنى أن يكون كل صديق على طبيعته تماما مع صديقه –
يتحدثان وقتما يريدان ويصمتان وقتما يريدان -
لا تعجزهما الموضوعات ولا يرهقهما الصمت، على شرط ألا يؤدى الصمت إلى
الوحشة أو الملل.
ورغم أننى عرفت
أصدقاء كثيرين فى مصر وخارجها، وكان توفيق الحكيم من أقرب أصدقائى لكنى طوال الوقت
وبعد أن رحل عبد الناصر كنت أشعر إنه "بيوحشنى" كصديق وليس كزعيم.
(8)
بعد قيام الثورة
بشهر، فى الأسبوع الأخير من شهر أغسطس سنة 1952، على باشا ماهر عمل عزومة لتعريف
الوزارة المدنية بمجلس قيادة الثورة، وكان هدف هذه العزومة خلق علاقات اجتماعية
إلى حد ما بين الطرفين.
لم أذهب إلى
الاحتفال مع جمال عبد الناصر، لكنى انصرفت معه، عندما وصلت إلى الحفل كان الشباب
من الضباط قد وصلوا كلهم، سواء الصف الأول، أو الصف الثانى منهم.
كانت الدعوة موجهة
إلى أعضاء مجلس قيادة الثورة فقط، ولكن ذهب معهم أيضا ضباط من الذين يعملون فى
المكاتب، وعندما يذهب كمال الدين حسين مثلا كان لابد أن يذهب سكرتيره عبد المجيد
شديد، أو مساعده لأنه فى ذلك الوقت لم تكن تذكر كلمة سكرتير، وكانوا يفضلون عليها
كلمة مساعد، حيث إن السكرتير ومدير المكتب من تعابير ورموز ومورثات العهد البائد،
الذى قامت الثورة من أجل تغييره.
فى هذا اليوم رأيت
بنفسى، ولمست بإحساسى الفجيعة الكبرى لجمال عبد الناصر فى رموز الطبقة القديمة
كلها، فجيعته الشخصية والإنسانية حتى أكون أكثر دقة فى هذا الكلام مع رموز هذه
الطبقة نفسها.
كان طعام العشاء
عبارة عن ديوك رومى وخراف ولحوم، الباشوات الكبار أعضاء مجلس الوزراء كل منهم يبحث
لنفسه وبنفسه عن ضابط من الضباط، ويجرى لكى يغرف له طبقا ويحضر به إلى ضابط من
الضباط يقدمه له، مناديا إياه برتبته أو الرتبة التالية لها كنوع من التعظيم أو
التفخيم أو التقرب أو الزلفى، أشار أحدهم إلى جمال عبد الناصر، وقال هذا هو الضابط
المهم وسطهم فيجرون حوله.
عندما خرجنا من
الاحتفال أول ملاحظة قالها جمال عبد الناصر لعبد الحكيم عامر الذى كان يجلس
بجواره، وقالها له بطريقة تلقائية جدا: ايه يا حكيم... هو باشوات البلد اشتغلوا
سفرجية؟
(9)
أستطيع القول أن
الصلة بينى وبين عبد الناصر توثقت فى سنة 1953.
ورغم أننا اتفقنا
كأصدقاء إلا أننا اختلفنا، نعم اختلفنا، لكننى كنت أرى أنه من العيب بعد
وفاته أن أذكر ما اختلفنا فيه حتى لا أدعى
البطولة على حساب رجل لم يعد على ظهر الحياة.
ومن يقرأ ما كتبته
وهو على قيد الحياة ويتابع ما حصل، يكتشف أننا اختلفنا فى مواضيع كثيرة جدا، مثل
قانون تنظيم الصحافة.
أنا فى مؤتمر صحفى قلت: إننى ضد القانون، ومن
يقرأ التاريخ سيجد أن معظم الصحفيين الذين اعتقلوا تقريبا لأسباب متعلقة بالمهنة
كانوا من الأهرام، لطفى الخولى وأحمد نافع وحمدى فؤاد وجمال العطيفى مثلا.
أنا لم أر شخصا
انقلب عليه جمال عبد الناصر، بالعكس الرجل كإنسان من صفاته البارزة أنه صديق
حقيقى، كان رجلا يدرك أهمية التحكم فى أعصابه.
كان يقول دائما " أنا ما اقدرش
اتنرفز".
وإذا شعرت بذلك لا أقابل أحدا، لأسباب كثيرة
منها الكاريزما التى كانت تنبع منه، وما يستتبع ذلك من سلطة معنوية تجعله قادرا
على أن يفعل ما يريد، وكان يحس بسلطته، لذلك لا يصدر قرار وهو عصبى.
ثم إنه لم يخن
طبقته، وظل ينام على سرير فى غرفة نوم عهدة لإدارة الأشغال العسكرية، وبعد أن
توفى، طالبت الأشغال العسكرية بالعهدة، هل أحد يصدق ذلك، رجل غير قابل للفساد،
احتقظ بولائه لطبقته، هل أحد يتصور حاكما فى العالم الثالث بكل هذه السلطة ولا
يفسد.
(10)
أستطيع أن أقول
أيضا أن العلاقة بينى وبين عبد الناصر كانت من نوع متميز بين شخص يقود وشخص إلى
جانبه يتكلم أو يفكر، وحرص فى استمرار على
أن يبتعد عن المناصب والأوضاع الرسمية، ولقد كنت دائما متمسكا بالصحافة والكتابة
وأفضلها على أى منصب.
ذكرت ذلك لجمال عبد الناصر مرات عدة، قلت له
اننى أفضل الاحتفاظ بصفة الصديق الذى يتحدث إليك فى استمرار من دون وساوس ومن دون
إحراج، وأعتقد أننى مارست ذلك مع جمال عبد الناصر.
وكانت العلاقة
بيننا من قبل الثورة حتى 29 سبتمبر 1970 علاقة حوار مستمر.
وأعتقد أن ثقته الكاملة بى هى التى شجعت ذلك،
وأحيانا كان يضيق بهذا الجدل لكنه كان يسمع فى استمرار ويناقش فى استمرار، وعندما
كان يشعر بالضيق أحيانا كان يفعل ذلك لأن كلامى كان فى اعتقاده يسبب نوعا من
الإحراج لأطراف أخرى.
على سبيل المثال
كان يشعر بهذا الضيق وأنا أكتب عن البيروقراطية المصرية أو أناقش فيها، وسر شعوره
بالضيق أن الكلام الذى أكتبه يشكل إحراجا لوزراء يعملون معه، وعندما كنت أنتقد
الاتحاد الإشتراكى لم يكن يتضايق إلا أنه كان يشعر أن بعض معاونيه يمكن أن يضيقوا
بهذا النقد، وكان يأخذ فى الاعتبار مشاعر الذين يعملون معه.
كتبت الكثير حول
قضايا يمكن لولا الثقة التى بيننا أن يتضايق لأننى أثيرها.
كتبت عن ضرورة ادماج المثقفين بالثورة والنظام
لينتهى دور أهل الثقة، و يصبح أهل الخبرة هم أهل الثقة، خصوصا بعدما وضع التخطيط
موضع التنفيذ وأصبح يحتاج إلى أهل خبرة، وكتبت أنه لابد أن يقوم أهل الخبرة وأهل
الثقة فى الوقت نفسه بتوسيع دائرة معارف عبد الناصر ونظامه.
وناديت بالمجتمع
المفتوح وبالديمقراطية وكتبت ضد الدور المتجاوز لبعض أجهزة السلطة.
وكتبت فى موضوع
الحراسات وضروة أن يظل الهدف هو تصفية امتيازات الطبقة وليس أفراد الطبقة.
ودعوت إلى ضرورة
أن يلعب التقنيون فى البيروقواطية الجديدة دورهم فى التطوير.
وكنت قلقا وأنا أكتب عن هذا الصراع من أن يطوى
أهل البيروقراطية القديمة أهل البيروقراطية الجديدة بدل أن يطور الجدد القدامى
،وهذا ما حدث بالفعل حيث أن القدامى بلعوا الجدد.
كانت هذه الكتابات فى وقتها، ولم تجر بأثر رجعى،
وقد تسببت لى فى بعض المشاكل لكن جمال عبد الناصر لم يضق بها.
(11)
على مدى 18 عاما –
وهى الفترة التى عاشها فى السلطة -
اختلفنا اختلافات كثيرة أنا وجمال عبد الناصر.
كنت أجلس معه كصديق محاورا له طوال هذه الفترة،
وكان هناك شيئان: كنت حريصا عليهما جعلانى أحافظ على التوازن فى علاقتى معه، وأن
أقول رأيى بلا تردد.
الأول أننى لم أكن
طرفا فى صراعات السلطة، بمعنى أن جمال عبد الناصر لا يستطيع أن يمنحنى أى منصب.
والثانى أننى لم
أطلب أى ميزة شخصية لى أو لأحد من أقاربى.
لا أحد يستطيع أن يقول أن هيكل أخذ شقة أو علاوة
لأحد الموظفين.
خرجت من الأهرام
وراتبى كان خمسة آلاف جنيه فى السنة، وكانت مقالتى تباع فى الخارج ب 2000 جنيه
استرلينى، وكنت أعطى خزينة الأهرام ألف جنيه معتبرا أن الأهرام له الحق الأدبى،
وعندما كنت وزيرا لم أتقاض راتب الوزير.
هناك شيئان ضمنا
لى استمرارى فى موقعى، وهما إحساسى بالحرية وأنا أؤدى دورى وما تفرضه الخدمة
العامة، وأنى لم أطلب منصبا.
(12)
كان بينى وبين
الرئيس جمال عبد الناصر خط تليفونى خاص، إذا رفع الرئيس السماعة يرن عندى، وعندما
كان الرئيس السادات يزورنى فى الأهرام قبل الرئاسة كان يعرف بموضوع الخط التليفونى
الساخن، وأحيانا أثناء وجود أنور السادات يرن جرس التليفون، ووجدته يقول لى بعد أن
سمعه يرن مرة: آه لو قصوا سلك التليفون يا محمد 5 دقائق يقصوا رقبتك بعدها.
وكان من الطبيعى
أن تحدث توترات بينى وبين الرئيس جمال عبد الناصر، ما دام الحوار بين طرف مسئوليته
شاملة وطرف لا يملك إلا الفكر والكتابة.
أهم حالة توتر
حدثت يوم أصدر قرارا بتعيينى وزيرا للإرشاد.
فى يوم صدور
القرار كنت فى مزرعتى الريفية فى برقاش، وأصدر الرئيس القرار دون أن يفاتحنى فى
الأمر، وعدت إلى الأهرام بمجرد علمى بصدور القرار فوجدت حالة توتر، وبعثت إليه
برسالة اعتذار، وهذه الرسالة هى الورقة الوحيدة المكتوبة التى رفعتها إليه، وعدا
ذلك لم أرفع إليه أوراقا لأنى كنت أفضل التعامل معه كصديق.
كنت فى حالة صعبة
من الضيق، خاصة أن عبد الناصر كان قد فاتحنى فى أمر تعيينى وزيرا أربع مرات، وفى
كل مرة كنت أعتذر.
المرة الأولى سنة
1956 فى أول حكومة تألفت برئاسته.
والمرة الثانية
بعد الوحدة مع سوريا سنة 1958.
والمرة الثالثة
بعد الإنفصال.
والمرة الرابعة
بعد النكسة.
وكان يتفهم رغبتى
فى أن أستمر فى عملى الصحفى.
وفى اليوم التالى جاءنى أنور السادات فى برقاش
وكان يوم شم النسيم فى سنة 1970 فى محاولة لإقناعى بقبول المنصب الوزارى، وبقى معى
من التاسعة صباحا إلى الواحدة ظهرا، وكانت لفتة كريمة منه خصوصا أنه كان مرتبطا مع
ضيوف سيتناولون الغداء معه فى بيته، وأبلغنى السادات أن عبد الناصر قال له: لا
مجال لقبول الاعتذار، وأن المسألة ليست مفاتحة وإنما قرار صدر وانتهى الأمر.
نتيجة لحديثى مع
السادات ومع آخرين زارونى قبلت وعدت إلى القاهرة، ثم حدث أن قبضوا على لطفى الخولى
ونوال المحلاوى، ووجدت أن الموقف يتأزم، وأننى فى محنة حقيقية فى بداية عملى فى
الوزارة، وكنت بالفعل ممزقا بين قبولى المنصب الوزارى اضطرارا ومحنة أصابت زملائى
فى الأهرام، وبين علاقتى بجمال عبد الناصر وأنا حريص على مشاعره.
بعد ذلك أوضح لى
دوافع قراره بأننا كنا فى حرب استنزاف، وكانت الظروف دقيقة جدا، قتال فى الجبهة،
وغارات فى العمق ووجود سوفيتى فى مصر وتحرك سياسى، ودلائل على قبول مبادرة روجرز
ودلائل أخرى على إعلان وقف إطلاق النار، ودلائل على استعداد الجيش للعبور بعد
انتهاء مهلة وقف إطلاق النار التى كانت محددة بثلاثة شهور.
شعر عبد الناصر
بأن تلك المرحلة التى تتسم بمزج العمل السياسى بالعمل العسكرى تحتاج إلى إعلام
دقيق ومركز يتولاه شخص محيط بالموقف الرسمى وبأسلوب تحركه، ويستطيع أن يعبر عنه
دون العودة إليه فى كل صغيرة وكبيرة.
عرف عبد الناصر
كيف يقنعنى، كان يعرف تعلقى بالأوراق والوثائق وما خلف الأحداث من قصص صحفية، خاطب
ما يعرفه فى تكوينى، عارفا أن نقطة ضعفى الأساسية الصحافة وإغواءات أخبارها.
قال لى عبد
الناصر: عندك فرصة الآن أن ترى بنفسك ما يجرى فى الاجتماعات الوزارية من حوارات،
وأن تكون طرفا فى حوارات رسمية توفر لك خلفيات إضافية لما تعرف.
وقال: نحن مقبلون
على مرحلة فيها قتال وسياسة، أنت لست فى حاجة إلى تعليمات يومية منى، عليك أن
تتصرف حتى تغطى موضوع نقل حائط الصواريخ إعلاميا ودبلوماسيا إلى الجبهة الأمامية،
وسوف يرسل إليك الفريق أول محمد فوزى القائد العام والفريق محمد على فهمى قائد
الدفاع الجوى كل ما له صلة بالملف.
قبل هذه المحنة
حدثت حالة توتر بيننا بسبب اعتقال جمال العطيفى، وأمضينا نحو أسبوع فى شبه قطيعة.
هو لم يتصل...
وأنا لم أتصل.
فى هذه المرة أيضا
كان السادات هو الذى تدخل، وكان مع عبد الناصر فى استراحة القناطر، ومن هناك اتصل
بى .
قال: لماذا لا
تطلب الرئيس وتصفى الموضوع معه لأنه متضايق.
وبعد ذلك اجتمعت
مع عبد الناصر وصفينا موضوع جمال العطيفى وتم الإفراج عنه.
كان هناك كثيرون
يتضايقون من الثقة التى وضعها عبد الناصر فى شخصى، ولولا سلك التليفون الذى بينى
وبينه كانوا أتعبونى كثيرا، عبر هذا التليفون جرت مناقشات واستفسارات كثيرة، وكان
هذا التليفون معيار لحالات التوتر بيننا، أحيانا لا يرن، فيكون معنى ذلك أن عبد
الناصر متضايق معى، وأحيانا لا أتصل به بسبب حالات الضيق التى كانت تنشأ نتيجة حوادث معينة حصلت.
كان عبد الناصر
نموذجا للرقة فى معالجته لحالات التوتر التى تحدث، وباستمرار لم يكن ضيقه يخرج عن
حدود معينة، وأتذكر مرة أنه كان متضايقا جدا من أمور كتبتها، وخلال مناقشته بالتليفون
سألته إذا كان يريد أن أحضر.
أجابنى: لا... لا أريد أن أراك وأنا متنرفز،
نلتقى بعد أن تهدأ الأمور ونتفاهم.
كنت فى مناقشتى
معه أمينا جدا، لأن إعجابى به إعجاب مفتح العينين وليس إعجاب الأعمى.
كنت معجبا بحركته... معجب به وبقدرته وبطاقاته.
وكنت معجبا به
كرمز وكقضية وكحركة.
وهذا الإعجاب والتقدير فرض على واجبا وإخلاصا أن
أكون صادقا معه... وأن أناقشه بأمانة.
(13)
على طول السنوات
التى جمعت بيننا، كنت أراقبه.
وعلى مدار الأيام
التى جمعت بيننا أحداث نعرفها سويا، لم يشعر بى أحد عندما رأيته فى مايو 1955 فى
برج العرب، واقفا أمام برج حديدى كبير مما يقام فوق آبار البترول.
كان البرج فوق أول بئر حفرت فى الصحراء الغربية،
وكان جمال عبد الناصر واقفا أمامها يتأمل فى صمت، أظنه كان يفكر فيما كنت أفكر
فيه.
ليت الأحلام
تتحقق، وليت البترول يتفجر، لعل الصحراء العابسة تبتسم، لعل رمالها الصفراء تتحول
إلى ذهب أحمر.
ومن سنة 1955 كتبت
له كل نص سياسى قاله... هذه حقيقة.
فى مرات كثيرة كان الجدل والنقاش بينى وبينه فى
أضيق الحدود، لسبب بسيط هو أننى كنت أرى ما يراه، ونختلف ونتفق فى حدود هذه الرؤى
المشتركة، عادة ما تنشأ بين البشر فى مواقع العمل صلات حميمة تنبت فيها حساسيات
كثيرة، لو أننا كنا نعمل فى نفس المجال لكانت هناك حساسيات أو توهم بعض الحساسيات.
ومن بين ما كان
يطربنى أن أكون كاتب الميثاق.
أنا فى النهاية عملت الصياغة.
وهنا لابد أن نفرق بين أنك كاتب الميثاق، فانت
تعبر عن فكرك، أو أنت صائغ الميثاق، أى أنك تعبر عن فكر آخر، وهذا موضوع آخر.
الميثاق كان نتيجة حوارات مطولة بينى وبين عبد
الناصر، وأنا فى النهاية عملت ما هو أقرب إلى تنفيذ فكره الذى لا يتناقض مع فكرى،
ولكن ليس بالضرورة ملتصق معه، أو كان متناقضا مع فكرى.
فى بعض الأحيان قلت له: والله مقدرش أكتبها.
كنا مرة فى
الأسكندرية وكتب فكرى أباظة مقالا عن الصلح مع إسرائيل وكان عبد الناصر زعلان من
المقالة ومتضايق، لأنه اعتبرها بتشرخ موقف، ولم يكن المطلوب منى مقالا، بل بيان
واعتذرت عن عدم كتابته، وكان سبب الإعتذار هو اعتبار مهنى، لأن فكرى أباظة بالنسبة
لى واحد من الأساتذة الذين تعلمنا منهم، ولهذا اعتذرت عن عدم كتابة البيان.
وأذكر أنه طلب منى
الذهاب معه إلى المنصورة، وكان ذلك فى 1965 وكانت هناك هيصة كبيرة جدا، ذهبنا فى
القطار وكنا نتكلم حتى وصلنا إلى المنصورة، لكن الناس هجمت، وهو أصبح فى مكان وأنا
فى مكان آخر.
وعندما خرجت إلى
المحطة كانت السيارات توشك أن تتحرك، وجدت السيارة فى انتظارى، وفيها مرافق من
المنصورة، ركبت السيارة وقلت للسائق: اطلع على القاهرة.
لف السائق وطار
على القاهرة، وهناك فى المنصورة وعلى الغذاء كانت الساعة قد وصلت إلى الرابعة بعد
الظهر.
سأل جمال عبد
الناصر: فين هيكل؟
قالوا له سافر إلى
القاهرة، اتصل بى بعد عودته – كان زعلان جدا –
قلت له: أنتم
طلعتم والناس تجمعت حولك، وأنا فى الآخر ظللت فى المحطة.
وفى الأهرام كنت
قد دعوت اثنين من كبار القادة العسكريين فى العالم، القائد الإنجليزى مونتجمرى
وجنرال بوفر قائد القوات الفرنسية فى العداون الثلاثى على مصر 1956.
وقد استثمرت وجود
مونتجمرى لحضور احتفاليات مرور 25 عاما على أحداث العلمين ودعوته إلى الأهرام وكنت
أسعى لأن أسمع منه.
وأن يذهب إلى كلية
أركان حرب ليجيب على أسئلة الضباط والقادة.
كان مونتجمرى قائدا بارزا فى استراتيجية الحرب
وإدارة ميدان القتال، بينما كان جنرال بوفر قائدا بارزا فى فلسفة الحرب وفكر
القتال.
كانت لدى أهداف
أخرى لا تقل أهمية عن الاستماع ومحاورة هؤلاء القادة الكبار، ومن أهم الأهداف أن
عبد الناصر لم يسافر إلى الغرب أبدا، فعلاقته كانت بشرق أوربا وأقواها كانت مع
يوغسلافيا، وأردت بدعوة هؤلاء القادة والمفكرين أن يأتى الغرب إلى عبد الناصر.
واقترحت على
الرئيس عبد الناصر أن يدعو عشر شخصيات عامة حتى من وزرائه، فى بيته ويتكلم معهم
بدون قيود الرسميات.
وبالفعل نفذ الاقتراح مرتين، على مدى شهرين ولكن
مع الأسف الشديد لم يتكلم أحد.
لقد كنت قريبا من
دائرة عبد الناصر وكنت صديقا إلى أقرب الناس إليه، ولكن هذا لا يجعلنى الرجل
الثانى فى النظام كما كان يقول البعض أو يروجون، لأن الرجل الثانى فى النظام لابد
أن يكون مهيأ ليحل محل الرجل الأول، وهذا لم يكن موجودا فى حالتى على الإطلاق، هذا
على فرض أننى نسيت يوما أن الصحافة هى حياتى وليست فقط مهنتى.
لقد كنت قريبا من
عبد الناصر، لكن حكاية الرجل الثانى لم تكن مطروحة لا من ناحية السلطة ولا من
ناحية التنفيذ.
(14)
كان قد مضى على فى
رئاسة تحرير الأهرام عدة سنوات، وكان التيار فيها قد تحول، فالأهرام بدأ يربح بدلا
من الخسارة، ثم إن توزيعه بدأ يصعد بدلا من الهبوط، وكنت قد اتفقت مع مجلس الإدارة
وأنا أعرض أمام أعضائه تقريرى الأول عن خطة العمل التى اقترحتها، أنه إذا حقق
الأهرام أرباحا فإنه يكون مسموحا لى أن أبدأ بتطوير منشآت الأهرام المبنى
والمطابع.
أثناء الحديث عن
قانون تنظيم الصحافة تخوفت أن مشروع تطوير الأهرام قد يتوقف بعد أن بدأ خطواته
الأولى، فالقانون الجديد يضعنا أمام احتمالات مجهولة لا أعرف هل أستطيع فى ظلها أن
أواصل أو أنه سيفرض على أن أطوى ملفات الخطط والبرامج والرسوم مودعا حلمى إلى
الأبد.
صباح اليوم الذى
أذيعت فيه نصوص القانون دعوت أسرة تحرير الأهرام إلى اجتماع عام كى أتشاور معهم فى
الأوضاع الجديدة، وشرحت لهم فى البداية موقفى.
قلت: أننى لم أكن متحمسا للقانون من ناحية
المبدأ.
وفوجئت بالزميلة جاكلين خورى تقاطعنى قائلة: هل
نستطيع أن نسألك : لماذا؟
أليس الوضع فى ظل القانون الجديد أحسن مائة مرة
للمهنة وللصحفيين من الملكية الخاصة للصحف؟
وبدا أن تيارا
قويا يؤيدها ودهشت واستطردت أشرح مجمل الأسباب التى تدعونى من ناحية المبدأ
للتخوف، وكان أولها قلقى من احتمالات تدخل التنظيم السياسى " الاتحاد القومى
وقتها ثم الاتحاد الاشتراكى فيما بعد" الذى انتقلت إليه سياسات الصحف وتوجيه
تحريرها بدعوى القانون.
ثم كان هناك تخوفى من احتمال تأثير الظروف
الجديدة على مشروعنا لتطوير الأهرام وقد قلت للجميع أننا أمام معركة جديدة ويجب أن
نقاتل فيها.
عند الظهر اتصل بى
جمال عبد الناصر تليفونيا معاتبا: إن تقريرا وصل إليه عما قلته فى اجتماع محررى
الأهرام ومع تقديره لكل الظروف فهو يرى أننى أضعف موقفى بهذه المسافة التى أريد أن
أضعها بينى وبين القانون الجديد، وأنه سمع تحفظاتى من ناحية المبدأ وحاول بكل جهده
أن يريحنى فى التفاصيل، وبذلك فإنه لم يعد هناك داع لأن أعود فاتخذ موقفا سلبيا من
القانون، خصوصا وأن هناك من قد ينتهزون هذه الفرصة ضدى.
وقال لى: إنهم
حاولوا أن يصوروا لى قولك، بأننا يجب أن نقاتل على أساس أنها معركة ضد القانون،
وقد قلت لهم أن هذا التعبير يجرى على لسانك كثيرا فى صدد مواجهة أى عقبة، وأن ذلك
لا يعنى أنك فى معركة ضد القانون وإنما أنكم فى معركة لإثبات أنفسكم فى الأهرام فى
ظل القانون.
وحين انتهت
المكالمة كنت أشعر بعرفان شديد لصبره وأظننى أيضا كنت أراجع نفسى وأسائلها ما إذا
كانت وساوسى وهواجسى قد تجاوزت بى الحد المعقول.
(15)
كان عبد الناصر
يحب الحديث عن ذكريات زمان ويتكلم عن شخصيات عرفها، ويتكلم عن الجانب المرح
والإنسانى عندهم.
ولا أحد يعرف أن عبد الناصر كان يقلد الشخصيات
التى يعرفها، وكان يموت من الضحك وحقيقى كان لذيذا، لما يقلد إمام اليمن، وكيف أنه
حين اجتمع به وراح يتكلم فى أمور جادة، كان السؤال الأول لإمام اليمن عن عمر
الشريف وهل تزوج فاتن حمامة.
كان عبد الناصر يقلده تماما وأطن أن
التقليد كان من هواياته.
كان عبد الناصر
مدخنا شرها.
وقد رأيته
عندما حرم منه، وجدته يومها حاسس بقهر أنه أضطر ألا يدخن.
وسمعت من الرئيس
جمال عبد الناصر مرة رأيا فى العدل والظلم.
فى رأيه أن العدل يجب أن يشيع من القمة ويسرى
منها إلى القاعدة، وفى رأيه كذلك أن الظلم يسير فى نفس الطريق.
كان يرى أن كل
مظلوم يتحول بدوره إلى ظالم، وكل من يقع ضحية الاستبداد يعوض نفسه بأن يصبح هو
بدوره مستبد.
وقال لى: لقد كان
الملك يستعلى على وزرائه، ويستعلى رئيس الوزراء بدوره على الوزراء، ويستعلى
الوزراء على وكلاء الوزراء، ويستعلى وكلاء الوزارات على المديرين، ويستعلى
المديرون على المآمير، ويستعلى المآمير على الضباط، ويستعلى الضباط على جنود
البوليس، ويتحول جندى البوليس فى الشارع إلى دكتاتور مخيف، يستعلى على المارة
ويتحكم فى كل عابر سبيل.
كان يسمى هذه
النظرية نظرية الاستعواض.
كل مظلوم يستعوض ظلم الأكبر منه، بأن يظلم هو
بدوره من هم أصغر منه.
(16)
بدأت طلائع مرض
السكر تهاجم جمال عبد الناصر فى الساعات الأولى لحركة الانفصال السورى، ثم جاءت
أزمة اليمن، وما حدث فى اليمن جعل نسبة مرض السكر تتزايد، وفوق ذلك حدث التهاب فى
شرايين عبد الناصر، وهذا الالتهاب أتعبه وتسبب له فى آلام حادة فى رجليه.
وفى أواخر 1966 أصبح عبد الناصر يشكو كثيرا من
الألم الناتج عن التهاب الشرايين، ثم حدثت هزيمة 5 يونيو 1967، ومن قبلها هموم
الانحرافات وأصبح الألم لا يطاق.
ويوم 13 يوليو
1967 أجرى له الأطباء كشفا عاما، وشعر هؤلاء بالخطر، ولم يتجاوب مع وصفاتهم
وتنبيهاتهم، وبسبب عناده كان الألم يزداد، العلاج فى ذلك الوقت كان ممكنا إلا أنه
فضل أن يتألم على أن يعالجه أطباء من الولايات المتحدة أو بريطانيا، وفضل أيضا ألا
يعرف الأصدقاء السوفيت بمرضه.
استمرت الحال على
ما هى عليه إلى أن وقع حادث فظيع، فقد أصيب بالأزمة القلبية الأولى.
يوم 10 سبتمبر كان
جمال عبد الناصر يشهد تدريبا عمليا على طريق السويس، وبينما يشهد هذا التدريب بلغه
أن الإسرائيليين قاموا بعملية إنزال فى منطقة الزعفرانة الواقعة فى خليج السويس،
وبدأت الأنباء الصادرة من تل أبيب وبعض العواصم الدولية تصور العملية على أنها
محاولة لغزو مصر، حتى أن بعض وكالات الأنباء كانت تبعث برسائل صحفية تقول فيها أنها
من مصر المحتلة، ولم يكن معروفا لأحد أن الرئيس عبد الناصر خارج القاهرة يشهد
التدريب العملى.
عندما عرف عبد
الناصر بالعملية الإسرائيلية تضايق جدا، خصوصا أنه لم يعرف حجمها الحقيقى، وعندما
بلغ عبد الناصر العملية أمر كبار قادة الجيش الذين كانوا حوله بالغاء التدريب ورفع
حالة الاستعداد لدى القوات، هنا معناه أن تصبح هذه القوات جاهزة للقيام بعملية
دفاعية أو هجومية.
كانت الساعة تشير
إلى التاسعة صباحا عندما بلغه نبأ العملية الإسرائيلية فى منطقة الزعفرانة، ونحو
الحادية عشرة أى بعد ساعتين عاد إلى القاهرة، وأذكر أنه بعد وصوله إلى القاهرة
اتصل بى هاتفيا وطلب أن أقرأ له كل ما تقوله وكالات الأنباء عن العملية، وقرأت له
كل ما كانت هذه الوكالات تنقله من تل أبيب وبعض العواصم الغربية.
شعرت أنه فى غاية
الضيق، لمست ذلك من صوته، كان ذلك نحو الخامسة بعد الظهر.
وفى اليوم التالى شعر بإرهاق شديد مصحوبا بنوع
من الدوار، ودعا طبيبه الخاص الدكتور الصاوى حبيب ليكشف عليه.
كان الصاوى فى
الأصل سيجرى كشفا عاما ليعد تقريرا قبل السفر، لأن عبد الناصر كان حدد سفره إلى
مصحة " تسخالطوبو" بعد أيام، واكتشف الصاوى أن عبد الناصر أصيب بجلطة
لكنه حاول إخفاء الحقيقة وتظاهر بأنها حالة انفلونزا، وطلب عقد كونسلتو أطباء،
وجرى رسم ثان للقلب يؤكد أنه حدث انسداد فى فرع الشريان الأمامى للقلب.
انتهت مناقشة
الأطباء إلى أنه من الضرورى أن يعرف الرئيس أنه أصيب بأزمة قلبية، لأنه إذا عرف
سيتصرف بما يساعد العلاج، وقيل له ذلك بالتدريج وتقبل الأمر بإرادة حديدية.
اتصل بى أنور
السادات فى ذلك اليوم نحو السابعة والنصف مساء، وطلب أن ألاقيه للاجتماع به فى
منزل الرئيس عبد الناصر.
توجهت على الفور،
هناك وجدت السادات جالسا فى مكتب سامى شرف الذى يقع فى المبنى المقابل لمنزل
الرئيس، وكان هناك أيضا بالإضافة إلى السادات وسامى شرف الفريق أول محمد فوزى وزير
الحربية وشعراوى جمعة وزير الداخلية وأمين هويدى المشرف على المخابرات.
قال لنا السادات
أن الرئيس عبد الناصر مصاب بإنفلونزا ومن الضرورى أن يأخذ إجازة طويلة.
قلت للسادات: أنا
مش فاهم حكاية الإجازة والانفلونزا، ثم إن اجتماعنا علشان إيه؟
أوضح السادات أن
الرئيس عبد الناصر قرر حيال اضطراره إلى الأخذ بفكرة الإجازة بأن يؤلف هذه اللجنة
التى تضم أنور السادات وسامى شرف وشعراوى جمعة والفريق أول فوزى وأمين هويدى وأنا
، لكى تعقد اجتماعات وتبحث فى مسائل الدولة والقضايا التى تستجد.
وقال السادات أيضا أن الرئيس عبد الناصر كلفه أن
يكون صلة الوصل بينه وبين أعضاء اللجنة التى طلب الرئيس أن تستمر تعقد اجتماعات
إلى أن يصبح قادرا على مزاولة العمل.
عدت أقول للسادات:
أنا مش فاهم، هل تأذن لى أشوف الريس، ثم أين هو الرئيس عبد الناصر، وفوق ذلك ما
الذى أعمله أنا فى هذه اللجنة، أنتم من الرسميين وأنا ليس لى صفة رسمية.
قال لى السادات:
انتظر.
وغادر الغرفة، ثم
عاد إلينا، وقال أنه توجه إلى الرئيس عبد الناصر فى منزله، وأضاف: تعالوا...
تعالوا كلكم لمقابلة الرئيس.
توجهنا إلى الرئيس
عبد الناصر، وجدناه فى غرفة نومه جالسا على كنبة، وكان عند دخولنا يأكل لبن زبادى.
قلت له: هل هناك
أمر ما؟
أجاب: أبدا... كل
ما فى الأمر أن الأطباء نصحوا بأن أستريح شهرا فى السرير، ووجدت حيال ذلك أن
تجتمعوا وتبحثوا المسائل المتعلقة بالدولة بدل أن أشغل نفسى بها، وذلك إلى أن
تنتهى فترة الإجازة وأصبح قادرا على مزاولة العمل كما كانت الحال فى السابق.
وقلت للرئيس عبد
الناصر فى معرض اعتراضى على اشتراكى فى اللجنة لأنه ليست لى صفة رسمية: هل يمكن أن
أعرف حكاية الانفلونزا؟
كان الآخرون قد
خرجوا بعدما سلموا على الرئيس وبقيت أنا، وبدأت ألح على الرئيس لكى يوضح لى حكاية
الأنفلونزا، وهو يعرف أننى عنيد، وأحيانا كان يتهمنى بالعناد.
صعقت وأنا أسمعه
يقول: يظهر أنى أصبت بذبحة قلبية.
واستطرد: لكن
الأطباء يقولون أن المسألة بسيطة وأنه يجب أن ألازم السرير وأرتاح، والمهم ألا
يعرف أحد كى لا تقلق البلد، ولكن قل لى كيف يمكن أن نغطى غيابى هذه المدة التى
يقترحها الأطباء؟
قلت: قد نقول انفلونزا... لا يهم ما نقوله ولكن المهم أن تستريح.
قبل أن أغادر غرفة
الرئيس أثرت من جديد مسألة إشراكى فى اللجنة التى تألفت برئاسة السادات.
قال لى: أنت تعرف الطريقة التى أفكر بها، أنت
تحضر اجتماعات اللجنة وهم يتناقشون وأنت تبدى رأيك.
وقلت له: حاضر...
هل ده كويس؟
أجابنى: أيوه
كويس.
غادرت غرفة الرئيس
وانضممت إلى الآخرين الذين كانوا فى غرفة الاستقبال يتحادثون، وكنا جميعا الأشخاص
الذين فى حوزتهم رقم هاتف الرئيس عبد الناصر مباشرة، والذين يستطيعون التحدث
هاتفيا مع الرئيس على هذا الرقم فى أى وقت، حتى إذا كان فى غرفة نومه.
اتفقنا على ألا
يعرف أحد ما حدث للرئيس، وعلى ألا تعرف عائلته أيضا الأمر، وإن كانت العائلة
ساورتها الشكوك بعدما بدأ العمال والمهندسون فى تركيب مصعد فى المنزل المؤلف من
طابقين، اتفقنا كذلك على ألا نتحدث إلى الرئيس هاتفيا، وأن نتقابل من حين إلى آخر
تبعا للضرورة التى يراها الذى اختاره الرئيس عبد الناصر رئيسا لهذه اللجنة.
وفى اليوم التالى
اتصلت هاتفيا بالسيد أنور السادات، تحدثنا قليلا فى الأزمة الصحية التى يجتازها
الرئيس عبد الناصر، وبعد يومين فوجئت بالرئيس يطلبنى هاتفيا.
قلت له: الله مفروض يا فندم ما تتكلمش... والله أنا فى
غاية الاستغراب.
ورد على استغرابى قائلا: المسألة مش خطيرة
للدرجة دى.
بعدما انتهت
المكالمة اتصلت بالسيد أنور السادات طالبا عقد لقاء معه.
فى هذا اللقاء قلت
له أن الدولة عندما تعالج أحدا على نفقتها فإنها تستقدم إليه أكبر الأطباء، أو
توفده إلى الخارج لكى يعالجه أكبر الأطباء، ويجب إيجاد طريقة ما لاستقدام أحد كبار
أطباء القلب، وليس بالضرورة استشارة الرئيس فى الأمر.
فى الفترة التى
أصيب فيها عبد الناصر بالأزمة القلبية الأولى كانت حرب الاستنزاف تصل إلى ذروتها،
وكان محتما بالإضافة إلى وقف الاتصالات الهاتفية مع الرئيس أن تتوقف المكالمة
اليومية الأخيرة التى يجريها قبل أن يطفئ النور لكى يخلد إلى النوم.
وهذه المكالمة
كانت من النوع الذى يقلق ويرهق، ولكن على رغم ذلك كان جمال عبد الناصر يحرص على أن
يجريها كل ليلة قبل أن ينام، والمكالمة كانت مع الفريق أول محمد فوزى، كان الرئيس
عبد الناصر قبل أن ينام يتصل بوزير الحربية ليسأله عن الوضع على الجبهة، يسأل عن
عدد الذين استشهدوا وعدد الذين جرحوا ويسأل عن الخسائر فى المعدات.
ومثل هذه المكالمة
كانت بالفعل مرهقة حتى قبل أن يصاب الرئيس بالذبحة القلبية، ومن الطبيعى أنها صارت
أكثر إرهاقا بعدما أصيب، ولذلك كان من الضرورى إيقافها فى فترة العلاج، وأتذكر كيف
أن عبد الناصر كان يتألم عندما يتبلغ أن بعض الضباط استشهدوا، خصوصا أن اتصالاته المستمرة
فى ذلك الوقت بالضباط والاجتماعات المتواصلة التى كان يعقدها معهم أوجدت نوعا من
الصداقة وبين أكثر الذين يراهم ويجتمع بهم.
تحدثنا فى الأمر
مع الفريق أول محمد فوزى.
قال له أنور السادات أن مسألة هاتف آخر الليل
يجب أن تتوقف عند حد حرصا على حياة الرئيس.
وأنا أيضا تحدثت
فى الأمر مع الفريق أول فوزى.
وتجاوب وزير
الحربية وأصبح لا يذكر حقيقة الخسائر.
(17)
بعد انتهاء قمة
الهيلتون يوم 27 سبتمبر 1970 شاهدت عبد الناصر يستعد لمغادرة الفندق إلى منزله،
وكان ذلك فى نحو العاشرة ليلا.
كان قد بلغ عبد
الناصر أن العقيد معمر القذافى توجه إلى المطار ليركب طائرته عائدا إلى ليبيا،
وأنه تعمد ألا يعرف عبد الناصر بذلك لأنه لا يريد أن يحمله مشقة التوديع، فقد شعر
القذافى والآخرون أن عبد الناصر بذل مجهودا شاقا فى المؤتمر، ووجد القذافى أن ذهاب
عبد الناصر إلى المطار ليودعه من شأنه أن يتعبه، أما الآخرون فكانوا سيسافرون فى
اليوم التالى.
حاول الرئيس أن
يلحق بالقذافى، لكنه كان قد ركب طائرته وسافر، وعندها توجه إلى منزله فى منشية
البكرى.
قبل أن يغادر عبد
الناصر الفندق ليلحق بالقذافى ويودعه طلب منى أن أوافيه بما قررته لجنة سميت
" اللجنة العليا لمتابعة تنفيذ الاتفاق بين الأردن والمقاومة"، وتألفت منى بصفتى وزير الإعلام ومن الفريق محمد
أحمد صادق الذى كان رئيسا للأركان والباهى الأدغم، وقد عقدنا فى حينه اجتماعا فى
غرفة الباهى رئيس اللجنة للبحث فى المهمة التى سيتولاها.
اتصلت بعبد الناصر
وأبلغته ما بحثناه.
فى هذا الوقت كان
السفير البريطانى قد طلب أن يقابلنى على وجه السرعة لتسليمى رسالة عاجلة من إدوارد
هيث متعلقة بحوادث خطف الطائرات، وكانت حدثت فى ذلك الحين عمليات خطف الطائرات،
وكان هناك رعايا بريطانيون ضمن هذه الطائرات، وطلبت من السفير أن يلاقينى فى
منزلى، وهناك سلمنى الرسالة.
اتصلت بمنزل
الرئيس، سألت إذا كان لم ينم بعد، قيل لى أنه لم ينم، وعندها طلبت إيصالى به، شعرت
من صوته أنه مرهق جدا، قلت له عن الرسالة التى سلمنى إياها السير ريتشارد بومونت
سفير بريطانيا فى القاهرة، فطلب أن أقرأها، وقلت له ردى على الرسالة وسألته إذا
كان الرد معقولا، ووافقنى على أن الرد معقول.
سألنى عن ردود
الفعل حول اتفاق القاهرة فأجبته بأنه لم تصدر بعد ردود فعل.
قلت له: هل إذا جاءت ردود فعل أتصل بك؟
وأجاب :لا سأنام... نتكلم فى الصباح.
صباح 28 سبتمبر
توجهت إلى مكتبى، وكنت أمارس العمل الوزارى من مكتبى فى الأهرام، وأمر على الوزارة
ساعة أو أكثر يوميا عند الظهر، ونحو التاسعة صباحا اتصل بى الرئيس عبد الناصر
هاتفيا على مكتبى فى الأهرام يسأل عن ردود الفعل حيال اتفاق القاهرة، وكان مهتما
جدا بمعرفة رد فعل إسرائيل، وأنا سلفا كنت جمعت ردود الفعل ومن ضمنها رد فعل
إسرائيل، وأحطته علما بردود الفعل وتناقشنا فى الأمر، وكان محور المناقشة: ما الذى
يمكن أن تفعله إسرائيل حيال هذا الاتفاق؟
قبل أن يتصل بى
كان عبد الناصر اتصل بالفريق صادق يسأل عن الموقف فى عمان وعما إذا كان القتال
توقف بين المقاومة والجيش الأردنى؟
بعد ذلك توجه إلى
المطار ليودع الملك فيصل وبعض الملوك والرؤساء الذين شاركوا فى القمة، ونحو
الثانية عشرة والنصف ظهرا اتصل بى ثانية هاتفيا وقال أنه عائد من المطار فى غاية
التعب، وقال أيضا عبارة تشاءمت منها: فاضل الوداع الأخير مع أمير الكويت.
قلت له: ما دمت
متعبا إلى هذا الحد، فلماذا لا يقوم أحد بالنيابة عنك بتوديع أمير الكويت؟
أجاب: صحيح إن ألم
قدمى شديد، لكننى سأضعهما فى الماء والملح، وهى وصفة قديمة يلجأ إليها الفلاح
المصرى فى مثل هذه الحالات.
وردا على تحفظ منى
تجاه هذه الوصفة أجابنى بما معناه أنه يعرف أننى بتاع تكنولوجيا وأنه متأكد من أن
الوصفات البلدية تفيد.
وقال لى أنه
سيتوجه إلى المطار ليودع أمير الكويت وعندما يعود لن يتصل بى لأنه يريد أن ينام
نوما طويلا، وذكر لى أنه قال لطبيبه الدكتور أحمد ثروت أن يستعد لإعطائه حبة تمكنه
من النوم الطويل.
وقلت له: إذن
نتكلم فى اليوم التالى - أى يوم 29 سبتمبر
- وعندما تستيقظ من النوم أرجو أن تتصل بى لأننى لا أريدأن أقطع عليك نومك.
قبل ثوانى من
انفجار الشريان الذى جاء بعد الذبحة القلبية الثانية، وكان قاتلا، استدار وفتح
الراديو الذى إلى جانب سريره، سمع دقات الساعة الخامسة ثم سمع موسيقى العلامة
المميزة لنشرة الأخبار ثم الموجز، وكان صوته خافتا عندما قال: مفيش حاجة.
قال له طبيبه
الدكتور منصور فايز: سيادة الرئيس مفيش داعى للمجهود.
أجابه عبد الناصر:
لا أنا كويس الحمد لله.
ألقى رأسه على
المخدة.
وفى خلال ثوانى أرخى يده.
كانت الساعة الخامسة والربع تماما.
حاول الأطباء الذين كانوا حوله إسعافه، لكن حركة
اليد كانت مؤشرا على أنه فارق الحياة.
نظرت إليه أودعه،
ووجدتنى أقول له: كيف رحلت ولم أرحل معك؟
(18)
لم يفكر عبد
الناصر أبدا فى كتابة مذكراته.
كان قد ترك لى القيام بهذه المهمة نيابة عنه،
لكنه كان يريد متابعة الشئون الجارية، وعندما كان يتصل بى صباحا ولا يجدنى قد وصلت
إلى المكتب، كان يكلم نوال المحلاوى ويسألها عن الأخبار، يكون القسم الخارجى فى
الأهرام فى الساعة السابعة صباحا قد أحضر إلى مكتبى قائمة بأهم الأخبار التى حصلت
من ساعة تركى الأهرام، إذا لم تكن قد وقعت من الأمور ما تقتضى ايقاظى من النوم.
كانت نوال
المحلاوى ترد على التليفون الخاص الموصل بيننا.
يقول لها عبد الناصر: نوال قول لى إيه قائمة
الأخبار التى أعددتيها للأستاذ هيكل.
كان يقول عنى الأستاذ
عند كلامه مع مديرة مكتبى، لأن تلك فى شعوره هى الأصول، فتقرأ له القائمة المعدة
لى كلها.
(19)
بعد وفاة عبد الناصر سمعت عمن يرشحنى لرئاسة
الجمهورية، وشئ طريف أن يقال عن الواحد أنه رشح نفسه لرئاسة الجمهورية وأيضا شئ
لطيف أن يرشحه الآخرون، لكن لنتكلم عن الترشيح، كيف يمكن أن يكون هناك مرشح لا تسنده قوى حقيقية من القوى
الفاعلة فى الحركة السياسية فى بلد من البلاد.
المؤسسات التى
كانت موجودة يوم وفاة عبد الناصر فى 22 سبتمبرهى:
الاتحاد الاشتراكى، وفيه بعض الناس الذين أختلف
معهم، لأننى أعتقد انهم أفرغوا الاتحاد الاشتراكى من مضمونه.
القوات المسلحة التى كانت فى ذلك الحين وبظروفها
مشغولة بمعركة، وعلى أى حال أنا لست من القوات المسلحة ولا من التنظيم السياسى.
كل الذى كان أننى صحفى أكتب، وآرائى بشكل ما
كانت تلقى الصدى.
ثم اننى كنت صديقا وقريبا من جمال عبد الناصر.
فقال البعض : يلا نرشحه، ثم إننى لم أكن موجودا
فى الإدارة الحكومية، ولم أكن نائب الرئيس، وفى الواقع كان هناك دستور مصرى، وكنت
أنا مع احترام التقاليد الدستورية، لأن أى خروج عليها فى ذلك الوقت كان من الممكن
أن يؤدى إلى حرب أهلية، لذلك بعد الوفاة عندما نزلنا من غرفة عبد الناصر، سألنى
الرئيس السادات يومها: رأيك إيه؟
وكان رأيى أنه
لابد من العمل بالدستور، وكان الحل الوحيد أن يتقدم الرئيس السادات - وكان يومها
نائب الرئيس - ليملأ الفراغ ويجرى استفتاء بعد ستين يوما، ولم يعترض أحد على هذا،
لأننا أتينا بقاعدة وضعت فعلا لمثل هذا الظرف كى يحتكم إليها.
(20)
بعد أربعين يوما
فقط من وفاة عبد الناصر، كتبت " عبد الناصر ليس أسطورة".
خشيت فى أعقاب
رحيله والحزت عميق عليه من إضفاء طابع كهنوتى على تجربته السياسية والتاريخية، وأن
يقف على أبوابها كهان وحراس، فالتجارب الكبرى بنت زمانها، ولدت على مسارحه،
وتفاعلت مع تحدياته، نجحت وأخفقت، صعدت وتراجعت، لكنها حدثت فى سياق تاريخ يجرى لا
أسطورة تنشدها قرائح شعراء ورواة.
قيمته تؤكدها
معاركه وقضاياه والأحلام التى حملها والمشروع الذى دعا إليه، وهذه وقائع تاريخ لا
أساطير منسوبة.
هذا كله صحيح، غير
أن تلك التجارب قد تلخصها صور ورموز تتحول فى المخيلة العامة إلى أساطير من لحم
ودم تستند إلى وثائق مثبتة ومعان ملهمة.