السبت 28 سبتمبر 2024

العلاقات الإسلامية المسيحية في الخبرة المصرية

فن26-10-2020 | 20:32

من يذهب يوم الجمعة من كل أسبوع إلى مجمع الكنائس في مصر القديمة سوف يرى رحلات ومجموعات غالبيتها من المسلمين، رجالا ونساء، وشبابا وشابات، يزورون الكنائس، ويستمعون إلى شرح ووصف لها، ويطلعون على جانب مهم من تاريخهم، وإبداعهم المعماري، والفني، والثقافي، هذا المشهد الدائم يثبت أن الحالة الإسلامية المسيحية في مصر عصية على التفتت، وهي تمرض أحيانا، لكنها تتعافى لاعتبارات التدين الرحب الذي تتسم به الشخصية المصرية مهما هبت عليها رياح التشدد.


العلاقات بين المسلمين والمسيحيين عميقة، بعيدة الجذور، يغلب عليها التسامح بوجه عام رغم ما ألم بها من تحديات، وأهم ما يميزها أنها تقوم على التفاعل المباشر بحكم التجاور في العمل والسكن والنشاط الاجتماعي، ولا يوجد انفصال جغرافي أو مهني أو اجتماعي من جراء الاختلاف في المعتقد الديني، فهناك ما يشبه الملمح الثابت في التاريخ المصري: إن الشعب المصري لا يعنيه الخوض في العقائد، ولا الحديث بشأن اختلافها وتباينها، ويميل إلى التدين البسيط الطبيعي الذي تتسم به الطبيعة النهرية للمجتمع، ولا يعرف السجالات الدينية إلا في حالات تراجع المشروع القومي الجامع، أو انتعاش القوارض التي تتغذى على وحدة المجتمع. 


جوهر الحوار الإسلامي المسيحي حوار مُعاش، أي تفرضه ضرورات الحياة، ونادرا ما تتشكل لجنة أو جهة للحوار الديني في المطلق، بل تظهر مبادرات في أوقات الأزمات، لا أكثر، أو تلتئم المؤسسات الدينية في مشروع مشترك مثل بيت العائلة الذي يجمع الأزهر بالكنيسة المصرية، لا يناقش العقيدة، ولكن يعني بقضايا ما يطلق عليه العيش المشترك، أو العيش الواحد. 


من هنا فإن السجالات العقيدية - بمنطق التعالي والتنابذ بين أهل الأديان-طارئة على العلاقات الإسلامية المسيحية في مصر، وفي كل المنعطفات التي يبرز فيها الحديث عن حقوق المواطنة، أو يظهر أن هناك توترا دينيا في الأفق، يأخذ النقاش منحى قانونيا وسياسيا أكثر ما يبرز فيه الخطاب الديني، ومن يتأمل المساجلات التي أحاطت بالمؤتمرين القبطي والمصري (الإسلامي) عام 1911، سوف يتبين إلى أي حد اللغة القانونية والسياسية غلبت على حديث يتعلق بحقوق وواجبات فريق من المواطنين يختلفون في المعتقد الديني. 


هبت رياح المساجلات العقيدية، حديث الأفضلية والتنابذ بين أهل الأديان، في بعض المنعطفات التاريخية، خاصة أنه ومنذ بروز الظاهرة الإسلامية، بدأ نشوء جماعة الإخوان الإرهابية عام 1928م، وما رافقها من كتابات ابتعدت عن خطاب المواطنة، واتجهت إلى إزكاء استعلاء فئة على غيرها تبعا لانتمائها للمعتقد الديني للأغلبية العددية، ليس هذا فحسب، بل من ينظر في رسائل الإمام حسن البنا- مؤسس الجماعة- يجد أنه يخاطب جماعة مسلمة في مواجهة آخرين داخل الوطن، وشمل خطاب الجماعة على مدار عقود آراء تعصف بمبدأ المواطنة، ومنها الفتوى الشهيرة الخاصة ببناء الكنائس التي نُشرت في مجلة الدعوة شهر أغسطس 1980م، التي ذهبت إلى أن مصر دولة فُتحت إسلاميا، ولا يجوز استحداث كنائس بها، ولا يجب ترميم ما تهدّم منها، بل وهدم القائم منها في الأماكن التي فُتحت عِنوة وليس صلحا مثل الإسكندرية. 


في السبعينيات من القرن العشرين اشتد عود المساجلات العقيدية، خاصة مع ظهور نماذج دعوية في الحركة الإسلامية شديدة التشدد، وبدأ المصريون يواجهون خطابا منغلقا متطرفا يتهم المختلفين في المعتقد الديني بـ"الكفر"، ويُسفّه من عقائدهم علنا في وسائل الإعلام، واعتُبر ذلك عنوانا للتدين الجديد، واستمرت هذه الظاهرة تعلو وتهبط على مدار العقود الماضية، وأصبح من المألوف قبل الاحتفال بعيد الميلاد كل عام، الذي تعتبره الدولة إجازة رسمية، ويحرص الرئيس عبد الفتاح السيسي- في سابقة هي الأولى في تاريخ مصر-أن يذهب بنفسه إلى الكاتدرائية لتهنئة الأقباط بالعيد، رغم ذلك، تظهر أصوات سلفية معروفة تكفر الاحتفال بهذه المناسبة، وتدعو المسلمين إلى عدم مبادلة أشقائهم في المواطنة التهنئة بالعيد. 


ولا يخفى بالطبع أن كثافة الإعلام الديني- خاصة في الفترة التي سبقت عام 2013م- ساعدت على الطعن في المعتقدات، والنيل من العقيدة المسيحية، وهو ما دفع أصواتًا مسيحية أيضا أن تنحو في ذات الاتجاه مثل القمص زكريا بطرس، الذي خصص حلقات عبر قنوات تُبث من خارج مصر لنقد العقيدة الإسلامية، والطعن فيها، وبعد أن أغلقت القنوات الباعثة على الشقاق والفتنة عقب ثورة 2013م، تعج الآن مواقع التواصل الاجتماعي بالعديد من مظاهر السجال العقائدي، وهو أمر يجافي الحالة المصرية التي تقوم على احترام المعتقدات، والابتعاد عن مناقشة عقائد الآخرين علنا في وسائل الإعلام، والحرص على علاقات المودة والاحترام المتبادل. 


من آداب الحديث بين أهل الأديان الابتعاد عن الخوض في عقائد الطرف الآخر علنا في وسائل الإعلام، لأن اختلاف العقائد لا يجب طرحه على عامة الناس في منابر واسعة الانتشار، يشاهدها العوام الذين يختلفون في مستواهم التعليمي والثقافي وخبراتهم الحياتية، وقد لا يفهمون مغزى الكلام، ويُخيّل إليهم أن الاختلاف في العقائد مبررا للقطيعة، والصدام، فالمكان الطبيعي لمناقشة العقائد هو الكليات العلمية المتخصصة، حيث ينشغل الدارسون بالقضايا اللاهوتية والفقهية من منطلق بحثي، وليس بهدف إحداث الشقاق، والتبشير بالاختلاف، وإثارة البغضاء بين الناس. 


منذ عام صدر كتاب بعنوان "مستقبل الحوار بين الأديان: لقاءات مسلمة- مسيحية" حول "كلمة سواء"، ألفه الدكتور يزيد سعيد، أستاذ دراسات دينية مرموق في جامعة ليفربول هوب ببريطانيا، يمتلك الثقافة، والوعي بالتراثين الإسلامي والمسيحي، ونشأته فلسطينيا جعلته أكثر انفتاحا على الأديان، ومعرفة أوجه بناء ثقافة الحوار والسلام فيما بين المؤمنين بها. 


يصف المؤلف العلاقات الإسلامية المسيحية المبنية على الحوار والتفاهم بأنها "صورة الحرية الإنسانية، ومستوى نضج إنساني مخلص للعقيدة المسيحية والإسلامية في آن واحد"، ودعا إلى العمل المشترك بين المسلمين والمسيحيين في تحقيق الخير العام بعيدا عن أية حوارات لاهوتية أو عقدية تثير الجدل أو الخلاف، أو تدفع إلى الشقاق والكراهية.

 

من هنا يخطئ كل من يتصدى لشأن الاختلاف في العقائد في وسائل الإعلام، شيخا أو قسا، باحثا أو عالما، أيا كان شأنه، والسبب أنه يُصدّر الالتباس إلى الجمهور، ويجعل الناس تنشغل بقضايا لاهوتية وفقهية لا يدركون أبعادها، وغير مؤهلين للخوض فيها؛ وحسنا قال قديما الإمام أبو حامد الغزالي "إلجام العوام عن الخوض في علم الكلام".


قضايا اللاهوت والفقه ليس شأن الناس العادية التي من المفترض أن نوجه إليهم أحاديث تسمو بأرواحهم، وتحثهم على الفضيلة، وتدفعهم إلى طريق البر والتعايش والتسامح، ولا تثير في نفوسهم البغضاء والكراهية تجاه المختلفين معهم في المعتقد الديني. 


تأسيسا على ما سبق يمكن القول، إن الخبرة المصرية لم تعرف في غالب الأحيان مثل هذا اللون من السجالات العقيمة التي تقوم على إبراز الاختلاف في المعتقدات الدينية، وحث الناس على الحديث عن معتقداتهم بتعالٍ وسموٍ في مواجهة أصحاب العقائد الأخرى، فالاختلاف مقدر، ولا يوجد دين لا يعترف بأن هناك مختلفين معه، وخاضت الإنسانية منعطفات تاريخية طويلة في مجال تقرير حقوق الإنسان حتى تصل في النهاية إلى جملة من المبادئ الأساسية أهمها حرية الاعتقاد، حرية الرأي والتعبير، المساواة بين الناس بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الدين أو الجنس أو العرق، والحق في المواطنة الكاملة، والحقوق المتساوية بين كل أبناء المجتمع أيا كان معتقدهم الديني، ولم تعد المجتمعات المتقدمة تنشغل بقضايا الاختلاف في المعتقد الديني مثلما نفعل نحن، بل هناك مجتمعات بها العديد من المعتقدات، سماوية ووضعية، ويعيش أهلها في وئام، لا يُسألون من الأصل عن معتقدهم الديني، ويتجاورون في ود وسلام، أما نحن فقد انشغلنا بالسجال الديني، وراجت عشرات الكتب التافهة على الأرصفة تخوض في الأديان بشيء من التبسيط والمغالطة، وحملنا هذه المساجلات الحمقاء إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ونقلناها إلى شاشات التليفزيون بدعوى شرح العقائد، وهو أمر غير صحيح، لأن شرح العقيدة يكون في تبيان ما بهذه العقيدة من سمو وتقدير، وليس بالاعتداء اللفظي أو الهجوم على العقائد الأخرى. 


الأديان مختلفة، والمؤمنون بها مختلفون، لكنهم يعيشون في مكان واحد، ويقتسمون الحياة، وبالتالي ينبغي أن تكون هناك آداب للحديث بينهم، هذه هي القاعدة التي دفعت العديد من منتديات الحوار بين أهل الأديان، أو الحوار الإٍسلامي المسيحي إلى إنتاج وثائق مرجعية تتناول أسس وآداب الحديث بين أهل الأديان، مثل الفريق العربي للحوار الإسلامي، والذي نشط لسنوات وضم باحثين ومثقفين مسلمين ومسيحيين من مصر ولبنان والأردن وسوريا والسودان، وحرص على تأكيد أهمية المواطنة في بناء الأوطان، والسعي لإرساء ثقافة السلام، والتذكير دائما أن الخوض السافر في عقائد المختلفين دينيا يؤدي إلى تمزق المجتمعات، والشواهد والسوابق عديدة. 


لم يعد مقبولا أمام مجتمع يريد التنمية، والتحديث، والتغيير الاجتماعي أن يظل منشغلا بقضايا دينية جدلية، لن تُحسم في الحياة الدنيا، وليس بالمناسبة مطلوبًا حسمها، فمردُّها عند الله، وما فائدة الحديث في الدين، وتقمص دور فرسان المعبد دفاعا عن المعتقدات، ونصف المجتمع تحت خط الفقر، ومعاناة الناس في ازدياد، واضطراب أحوال المجتمع في تصاعد. لا أجد أفضل مما ذكره البابا فرنسيس في زيارته الأخيرة لمصر "إن الله ليس بحاجة لمن يدافعون عنه"، وأضيف من جانبي "إن الناس - الفقراء والمهمشين- هم الذين بحاجة لمن يدافع عنهم، ويسمع صوتهم، وهنا نخدم الله والناس معا".