الأحد 19 مايو 2024

اسمه حنانيا وصنعته إسكافي قصة أول مسيحي من أهل مصر

فن26-10-2020 | 20:42

"إيوس ثيئوس" جملة يونانية ترجمتها بالعربية "أيها الإله الواحد" فاللغة اليونانية التى كانت لغة مواطنى الإسكندرية التى تسيدت في العصر البطلمى وحتى العصر الروماني.. هذه الكلمة كانت هي مفتاح دخول المسيحية مصر وهي التى دشن بعدها مرقس الرسول حامل البشارة إلى مصر، أول كنيسة ليبدأ تاريخ المسيحية في البلاد المصرية.


فكيف كان حال مصر قبل دخول المسيحية؟!


إجابة هذا السؤال تستدعى أحزانا لا تضارعها في أوزانها إلا تلك الجبال الرواسى التى أحاطت بوادي النيل كشاهدة على كل ما حدث حتى تلك اللحظة وما بعدها، فمصر كانت قد ودعت صدارة التاريخ منذ عهود موغلة في القدم، خاصة بعد عام (525 ق.م)مع إعدام "بسماتيك الثالث" آخر ملوك الأسرة السادسة والعشرين في بلاط الإمبراطور الفارسي قمبيز بطريقة تراجيدية مهينة فهذه الأسرة حوت بين ملوكها آخر من يمكن أن تسجل أسماؤهم في ثبت العظماء من فراعين وادي النيل، وبعدها تراجع دور مصر فلم يعد ملوكها سادة العالم وانزوى ذكر الحضارة المصرية من على شاشات التاريخ وترسخ ذلك مع فقدان أثر آخر ملك مصري لقب بالفرعون ذلك الذي كان يدعى "نخت نبو الثاني" الذي هرب أمام الغزو الفارسي الثاني لمصر في سنة (343 ق.م)ومنذ ذلك اليوم لم يتقدم مصري واحد لصفوف التاريخ الأولى، حتى بعد قيام الإسكندرية عقب مجيء الإسكندر واتخاذها عاصمة للبطالمة الذين انخرطوا في مصر وتلقبوا بألقاب ملوكها، شيدوا وجددوا المعابد المصرية في طول مصر وعرضها تقربا لآلهة مصر القديمة، وقف المصريون في أبعد نقطة في خلفية المشهد!.


ولكن رغم استدارة التاريخ عن مجدها بعد أن أولاها الزمان ظهره، ظلت "مصر المكان" لها أهميتها وصدارتها الحضارية والسياسية في حكامها الجدد الذين حكموها من أراضيها واتخذوها موطنا لهم، لكنهم لم يلتفتوا للمصريين.

ومضت السنون بعد انتصار أوكتافيوس"أغسطس قيصر" على "أنطونيوس وكليوباترا" في موقعة أكتيوم البحرية الشهيرة في البحر المتوسط سنة (31 ق.م)فآلت مصر إلى الرومان الذين أرادوا إذلالها، فقد وقفت روما في مواجهة الإسكندرية ولن يتحمل التاريخ سيادة المدينتين معا، فدمروا عروس البحر وإمعانا في الإذلال، استكثروا على مصر مرتبة الولاية، فصارت ملكا خاصا للإمبراطور تحت حكم نائب أو وكيل عنه مخول بسلطات الوالي وتعامل الرومان مع مصر كمزرعة قمح تزود سلال الخبز في بقية أرجاء الإمبراطورية.


ولم يكن سوى الكهنة من بين فئات المصريين هم من لهم الحظوة في البلاط الروماني، حيث وقع أباطرة روما في غرام الآلهة المصرية فعبدوها وشيدوا لها المعابد كأسلافهم من الإغريق.


ــ وماذا عن بقية طوائف الشعب من تجار وصناع وفلاحين ومهنيين؟!


ــ انزووا في أعمالهم اليومية وارتضوا بأداء أدوارهم كأقنان للأرض أو كهدف لجامعي الضرائب أو ضحايا للأوبئة والحروب والفيضانات والمجاعات.


تجاهلهم التاريخ كما تجاهل بلدهم وكاد يمحو أمجادهم الغابرة من سجلات الكتب، وطمرت الرمال معابدهم وغارت مقابرهم في عمق الجبال، حتى الأهرامات على شموخها، بدت كأشباح عملاقة بقيت من زمن الأساطير!.


"الإسكافي حنانيا"


حتى ذلك الإسكافي الذي يعمل في كد ليعود بما يسد رمق أهل بيته في الإسكندرية لم يكن يدري شيئا عن تلك الأمجاد الغابرة.


إنه "حنانيا" ذلك السكندرى الذي لم يهتم بشأنه أحد بل وكان يمكن أن يسحقه جنود الحاكم عندما يمر في شوارع الإسكندرية ما لم يتنح عن الطريق موسعا لهم، فهو لا يدري شيئا عمن سبقوه على هذه الأرض ولا أمجادهم ولا صراعاتهم، فقط هو مجرد "إسكافي" يقصده الناس ليصلح أحذيتهم.


"واسم حنانيا ينطق باليونانية - لغة أهل الإسكندرية من المصريين وغيرهم حينئذ- "إنيانوس" ولكني أجد الاسم الوارد بالحاء هنا أكثر التصاقا بالثقافة المصرية ذلك إننا نجد إلى هذه اللحظة في مصر -لاسيما في الصعيد- من لايزال يحمل هذا الاسم بهذا النطق"!.


حتى عندما أتى إليه ذلك الغريب الذي يبدو عليه أثر السفر ليصلح له حذاءه الذي تهرأ من فرط السير، لم يهتم أي منهما، إلا بأن يصلح حنانيا الحذاء ثم يمضي مرقس لحال سبيله يبحث عن وسيلة لتنفيذ المهمة السرية والشاقة التى كلف بها ولا يدري بمن يبدأ ويعلم جيدا أنه لابد مقتول لو اكتشف الرومان سبب دخوله الإسكندرية.


وحنانيا لم يكن معه سوى جملة صغيرة باقية من تراث عظيم سبقه إلى هذه الأرض، يفزع إليها كلما أصابه مكروه أو توجس شرا أو رام خيرا، وهي باليونانية "إيوس ثيئوس" والكلمة مكونة من شطرين صغيرين وتعنى "يا واحد" ربما كان يرددها بتلقائية، لكنها بدت كخلية حية كانت كامنة كان يظن موتها ولكنها تحمل كل الصفات الوراثية، فما أن صادفت فرصتها حتى بعثت من جديد وانطلقت منها قوة هائلة لتبعث الحياة في الأمة الراقدة والتى ظن الناس أنها ماتت.


"إله واحد.. آمين"


"يا واحد" كلمة لا تفتأ أذناك تسمعها في الريف والمدن المصرية حتى اليوم من الفلاح ومن الصنايعي ومن التاجر، كلمة صغيرة لكنها بها شفرة اختصرت كل تراث المصريين الديني وإياك أن تظن أن كثرة أسماء الآلهة في الديانة المصرية القديمة وقفت حائلا دون التوحيد، بل وحتى قبل دعوة أخناتون في الأسرة الثامنة عشر، كان النزوع إلى الإله الواحد هو سمة العقيدة المصرية، فعندما قام مؤسس الأسرة المصرية الأولى الملك مينا "نارمر" بتوحيد القطرين، اتخذ للدولة الموحدة إلها واحدا وكان الحكيم الشهير"بتاح حوتب" يخاطب في وصاياه إلها واحدا ومن أقواله "بيد الإله مصير كل شيء ولا يجادل فى ذلك إلا جاهل" كذلك نجد الإله الواحد موضع مناجاة للحكماء والملوك في كل العصور المصرية القديمة مثل ميري كارع وأنى وأمينيموبي، فدعوة أخناتون إبان عهد الأسرة الثامنة عشر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، لم تكن من عندياته ولا ادعى هو ذلك.


حتى في النصوص التى تبدو مغرقة في التعدد والوثنية، نجد كبيرا للآلهة مثل رع أو ملكا لها مثل آمون رع، فلن تعدم في اللاهوت المصري القديم ظاهرة الدمج والتوحيد بين الآلهة في إله واحد، فعلى أية حال، هناك مطلق واحد ظاهر في العقيدة المصرية القديمة والمطلق بحسب مفهومه، لا يقبل الانقسام ولا يتسم إلا بالوحدانية، أما عن ظاهرة تعدد الآلهة - وهي ملازمة لكل العقائد الوثنية- فإننا نجد كل الآلهة تخضع لإله واحد هو الذي امتاز بكل الصفات ولعل سذاجة العقلية متبعيها، انزلقت بهم لهذه التعددية الخاضعة للأكبر لأسباب سياسية أو اجتماعية، أو كما يحدث من مبالغة بتقديس الصالحين عند أتباع العقائد، فيخرجون بهم من دائرة القداسة إلى التأليه، فيرفعونهم إلى درجة يعتقدون فيها الألوهية وهي ظاهرة ملازمة للمعتقدات الشعبية في كل زمان ومكان.


ولكن الخلاصة هي أن الإله الواحد هو ذلك الذي استغاث به حنانيا ماثل في ذاكرته، فنطق بأهم صفاته عندما اخترق يده المخرز الذي هم أن يصلح به حذاء مار مرقس، ذلك على الرغم من أن الإسكندرية في العهد الذي شهد زيارة مار مرقس الرسول (61 ميلادية) كانت واحدة من أكبر مراكز الوثنية في العالم القديم.


وكان لابد من أن ينتبه مار مرقس لهذا الإسكافي الذي يجلس الآن أمامه، فمعنى كلمته التى تفوه بها، أن هناك من سيصدقه في دعواه التى حملها بتكليف من المسيح ليحمل النور إلى الأمم.


"بشارة من مرعى البقر"

وتمضى القصة المشهورة بعد علاج جرح حنانيا على يد القديس مار مرقس بسر "مسحة المرضى" فيذهب مرقس إلى بيت هذا الرجل البار البسيط المدعو حنانيا والذي حمل جينات التوحيد، ليباركه ويبارك بيته في منطقة "بوكاليا" أو "مرعى البقر" ليصير هذا البيت أول كنيسة على أرض الإسكندرية ومصر، بل وعلى أرض قارة إفريقيا، ومنه بدأ مار مرقس الرسول التكريز في الديار المصرية بعد ترسيم حنانيا كأول مسيحي وأول أسقف يحل محل مار مرقس نفسه ريثما يعود بعدما اتجه غربا نحو برقة ليكمل رسالته.


"ويذكر أن الكنيسة المرقسية القائمة الآن في شرق مدينة الإسكندرية، هي في الموضع نفسه، فهي امتداد مكانى وزماني لبيت حنانيا"


كان أوائل أتباع مرقس بعد حنانيا، عشرة رسم، ثلاثة منهم قساوسة وسبعة شمامسة، وسرعان ما انتشرت دعوة مار مرقس في الإسكندرية وهو ما يؤكد أن البيئة كانت مناسبة للدعوة برغم ما لاقته من خطوب في المدينة التابعة لإمبراطورية تعبد الجالس على عرشها من بين الآلهة وكانت حتمية الصدام بين الوثنيين من حكام وأهل المدينة من جهة وبين أتباع المسيح من جهة أخرى حتى قتل جراء ذلك مار مرقس نفسه سنة 68 ميلادية بطريقة شنعاء على يد الوثنيين عقب عودته من "المدن الغربية الخمس" في برقة.


وظل حنانيا جالسا على كرسي مار مرقس الرسول 22 عاما حتى نياحته في هاتور سنة 86 ميلادية حسب السنكسار القبطي، ومع الأسف لم تأت عن حياته في تلك الفترة أخبار مفصلة، إذ لم يؤرخ عنه سوى ما يملأ بالكاد صفحة، غير أن دوره في نشر المسيحية يمكن كتابة مجلدات عنه.


"هم الصناع لهذا التاريخ"

وبالنسبة لي شخصيا فإن تاريخ مصر الحق صنعته أيدي المصريين البسطاء في الشوارع والمزارع والأسواق والحوانيت، فالتاريخ الحقيقي للشعوب ليس فقط تدوين الأحداث بصعود أوهبوط الدول ولا بدايات ونهايات الملوك وقصصهم في انتصاراتهم وهزائمهم ومنافساتهم في صراعهم المحموم في ما بين غزو ودفاع ومؤامرات وفتن تعم أرجاء المسكونة، فهناك فئات يغفلها التاريخ ممثلة فيمن نطلق عليهم البسطاء, فكان حنانيا هو هذا المصري الذي مثل حال الملايين ولكنه- بالحقيقة - واحد من صناع هذا التاريخ رغم بساطته في شخصه وصنعته وبيته.


لم يحفظ التاريخ عن حنانيا أي شيء سوى ذلك، حتى أن الدارسين لم يفكروا في تتبع أحداث حياته في غير ما ذكر عنه من سطور، لاستحالة العثور على أية مصادربمعلومات جديدة عنه يمكن من خلالها صياغة سيرة ذاتية استنادا إليها، فقط هو مواطن مصري يعمل إسكافيا في الإسكندرية لقى أحد الرسل المكلفين بنشر الدعوة المسيحية فصار أول متبع لدعوته وأول أسقف وأول بطريرك يجلس على كرسي الإسكندرية بعد مؤسسه.


هذا الإسكافي وجد نفسه مسئولا عن دعوة سيهب لمقاومتها الوالي والإمبراطور وجنودهما، لأنها ببساطة، دعوة تنزع عن الإمبراطور ألوهيته الزائفة التى يجبر الناس على الاعتراف بها في كل أرجاء الإمبراطورية، حتى لو كانوا على ملة غير ملة الإمبراطور.


فالصدام الحقيقي بين الإمبراطورية الرومانية الوثنية والمسيحية، لا يرجع فقط لسبب مغايرة عقيدة المسيح عقيدة الإمبراطور، فالأراضي التابعة لسيادة روما، كانت تموج بشعوب وقبائل وعشائر، كل له آلهته الخاصة به، لكنهم جميعا يدينون بألوهية ذلك القابع على عرش روما، بيد أنهم لا ينكرون آلهته ولا ينكر هو آلهتهم، أما لو جاهروا بنكرانه كإله وأنه بشر ككل رعاياه، فإن ذلك بمثابة إعلان حرب لن تضع أوزارها حتى يتغلب طرف على الآخر ويجبره على الاعتراف بآلهته، كان هذا هو السبب الرئيسي الذي يهيج الحروب في العصور القديمة، أما دعوة المسيح فلا تعترف بألوهية القيصر ولا غير القيصر والمسيحيون دائما ما يلازم أدعيتهم مع رسم علامات الصليب عبارة "باسم الآب والروح القدس إله واحد.. آمين".


هكذا كان قدر حنانيا الإسكافي أن يكون أول مسيحي مصري ولم يكن من كبرائها ولا أغنيائها ولا المحسوبين على أولئك ولا على هؤلاء ولكنه نال الشرف الأسمى بحفاظه على عقيدة توارثها عبر سلسلة من الزمان آباء وأجداد رسخت أصولها في عمق التراب وامتدت على مدى تاريخ مصر القديم وحمل شفرتها أولئك الذين تمر عليهم فلا تكاد تشعر بهم أو حتى يشعرون هم بأنفسهم، مع أنهم هم الذين يصنعون التاريخ.