مذ مدّة ونحن نحصي الموتى ونتابع نشرات الأخبار، وننتظر لحظة الخروج من الحجر المنزلي، صرنا لا نقدر على ممارسة حياتنا اليوميّة التي كنا نضجر منها. ثمة أسئلة عديدة تُطرح اليوم في هذا الزمن الوبائي: ما حقيقة هذا الفيروس الجديد الّذي ظهر فجأة في العالم؟ فيم يتمثل المصير الإنساني اليوم؟ وهل يمكن التفكير فيما أبعدَ من الكورونا؟ بأي معنى نتحدث اليوم عن الذَّات الحرّة في زمن الحجر؟ هل نحن محكومون بالموت أم هل نحن مسؤولون عن صحتنا وصحة الآخرين؟
في زمن ضبابية الأفق والمصير تعيش الذّات الإنسانية عموما أزمة حقيقية، أزمة الإنسان المعاصر غير القادر على تحقيق اقتداره في البقاء الحيّ. هذا الإنسان الحالم بالحياة، الإنسان العالم والمسؤول عن قدرته الخلاقة مثابرة وجهدا إنسانيّا. كيف له اليوم أن يعيش في هذه الهوّة السّحيقة بينه وبين الخارج أي محيطه الخارجيّ، إذ لم يعد الإنسان قادرا على تحقيق اكتفائه الخارجي عملا ونشاطا. أصبح متصلبا أمام نشرات الأخبار وناسكا متعبدا ينتظر آخرته خوفا من الموت.
مرّت البشرية بكثير من الأوبئة مثل الكوليرا والطاعون وأنفلونزا الخنازير والطيور وغيرها. لكن لأوّل مرّة يشعر الإنسان أنّه في خطر كبير خاصة مع قدرة الفيروس الكبيرة على الانتشار.
كانت قد حدثتنا ،"حنة أرنت" في وضعيّة الإنسان الحديث عن ما يعيشه الإنسان الحديث من أزمات سواء تعلق الأمر بأزمة التقنية والعلوم عموما، الإنسان المضمحل في سراديب التبعية والاغتراب، زمن تصفيّة كلّ قدرة على التفكير.
لكنّنا اليوم نعيش أزمة تبدو معالمها غريبة بالنسبة إلينا اليوم. هي أزمة بقاء الذَّات وعلاقتها بالآخر، علاقة ترفض التقاء الأيادي والأجساد وترفض التواصل والاجتماع. تشعر الذَّات بتمزّق حقيقي هل عليها أن تعود إلى وحدتها معتبرة "الآخر هو الجحيم" كما تحدث سارتر ذات مرّة أم هل عليها أن تنصف تعددّها لا التقاء جسديا بالآخر وإنّما مسؤوليّة ودفاعا عن صحته؟
من البين أنّ الذّات تحتاج إلى فهم الواقع الوبائي بطريقة تسمح لها بتقبّل هذه العزلة الجديدة، عزلة تجعل الذات بعيدة عن واقعها وقريبة في الآن ذاته. لتأخذ ما نصطلح عليه "بالمسافة الفاصلة". أي أن لا نقترب كثيرا حتى الالتصاق، وأن لا نبتعد كثيرا حتى إمحاء التفاصيل. يتعين على الذَّات أن تعي ما نعانيه اليوم سواء كان الوعي بيولوجيا أو صحيا أو إيتيقيا أو سياسيا.
تشهد الذَّات المعاصرة اليوم لحظة تحول هامة في تاريخه، قد تكون حربا وبائيّة خرجت عن السيطرة فانتشرت في العالم بأسره. وهو ما يبشّر بنشوء حقبة جديدة. هل على الذَّات أن تعود إلى النصيحة اليونانية القديمة لحظة العناية بالنفس؟
إن غاية الذّات اليوم الحفاظ على قدرتها على البقاء الحي مهما كلفها الأمر. هل عليها أن تولّي وجهها نحو الاهتمام بقيمة الأشياء بعد الكورونا؟ يجب أن لا تدخل الذَّات في أزمة سيكولوجيّة نفسية، بل عليها أن تقاوم كثيرا. بمعنى أدق عليها أن تقاوم بالاكتشاف والمتابعة والاطلاع والالتزام بما يحفظ الصحة والبقاء. يجب أن تستدلّ بكلّ الّذي ينهمُّون بالذّات الإنسانية سلامة وصحة. لأنَّ العالم يشهد تغيّرات عديدة ويشهد حملات ترويع وتخويف، لا يجب أن تغوص الذَّات في دوائر الخوف والترويع لأنّها بذلك ستسقط في ثقوب سوداء تبتلعها أكثر من الفيروس في حدّذاته.
ثمة أشياء عديدة تزرع فينا الأمل منها القراءة والكتابة والبحث في المسائل الفكرية والفلسفية. يمكن أن نستثمر الوقت بعيدا عن كل ما من شأنه أن يسقط الذّات في هواجس الموت والتوهان، في انتظار استئناف مرحلة جديدة بعد الكورونا.
إنَّ مُساءلة زمن الكورونا "الآن وهنا" يقتضي إثارة علاقات عدّة مع الذّات والآخر والبحث في سجل جديد تعيشه البشرية لأوّل مرّة ربما يكون العصر"الإمبراطوري" الّذي حدثنا عنه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو نغري وربما يكون وُلوجا جديدا للإنسان الحديث في حرب العلماء. ربما هي بداية تشكل فضاء جديدا ستتضح معالمه قريبا. لكن على الذّات أن تبقى متفائلة داعية إلى وجوب تقبل هذه الأزمة تأهبا ومقاومة ومسؤولية قصد الحفاظ على ذاتها تجددا ورغبة لا تهدأ..