مر بعض الصوفية على رجل يبكي على قبر، فسألوه عن سبب بكائه فقال: إِنّ لي حبيباً قد مات, فقالوا: لقد ظلمتَ نفسك بحبك لحبيب يموت، فلو أحببتَ حبيباً لا يموت لما تعذبت بفراقه.
ارتبط مفهوم الحب الإلهي في تاريخ الفكر العربي الإسلامي بالصوفيّة, العبادة من أجل محبة الله وليس خوفاً من النار أو طمعاً فى الجنة, الحب الإلهى هو ما يحرك المتصوف نحو الله فكان الاتجاه إلى الأعلى وليس إلى الأمام .
مما جعل الكثير يتهم الصوفية باستخدام مصطلحات لا تليق بمخاطبة الله عز وجل كمصطلح العشق, فالتعبير عن رؤيتهم لله فى كل شىء عشق وحب, إنها قواعد العشق الإلهى, "رأيت أسرار العالمين العلوى والسفلى, ظننت أن جميع الرجال رأوا ما رأيته, لكنى سرعان ما أدركت أنهم لم يروا"..
يسمى الصوفية الله بالحبيب فيعنى مفهوم الحب الإلهى عند المتصوفين, الاندماج مع الذات الإلهية. أو الانصهار بها. بحيث تكون هناك ذات واحدة وليست ذات عابد ومعبود, عاشق ومعشوق.
الحب يكتمل عندما يصل المتصوف إلى مرحلة توحيد الذات, الاتحاد مع الذات المطلقة. وهي وإن كانت تماهي مع الله غير أنها أقرب إلى الخيال, الوهم. لأن المتصوّف يبدأ بمقامات متعددة خلال رحلتهِ الصوفية وهي توحيد الصفات و توحيد الأفعال و توحيد الذات. وهي عملية تماهي مع الذات المطلقة "الله".
هي معادلة بالتأكيد غير متكافئة , المريد هو إنسان محدود بطبيعتهِ، يتماهى مع الكمال المطلق " الذات الإلهية اللا متناهية". وهذا التماهى لا يكون إلا بالعشق، بالحب الإلهى. كما يقول الحلاج متحدثاً عن الله عز وجل كعاشق فى ملكوته:
لي حبيبٌ أزور في الخلوات
حاضر غائب عن اللّحظات
ما تراني أصغى إليه بسمع
كي أعي ما يقول من كلمات
كلمات من غير شكل ولا نطق
ولا مثل نغمة الأصوات
فكأنّي مخاطب كنت إيًّاه
على خاطري بذاتي لذاتي
وحب الله لا يضاهيه ويعلوه حب فهو المتفضل بكرمه بعطائه, هو المحبوب الذى يزداد حبه بالتأمل واستشعار نعمه مع التحذير من الغفلة عن ذلك العشق الذى يسيطر على الوجدان كى يصل المحب إلى درجة العبودية الحقيقية.
فلا حب أرقى ولا أعظم من الحب المتبادل بين الرب وعبده, فيكون الاستسلام والطاعة المطلقة بالعشق والترغيب وليست بالخوف والترهيب.
نشأ مصطلح الحب الإلهي في القرن الثاني الهجري وقبل ذلك كان الناس يعبدون الله خوفاً ورهبةً, كأنه لا ينتظرهم سوى العذاب والنار فى الآخرة فعبدوه هربا من النار ومن العذاب.
يميل مؤرخو التصوف الإسلامي إلى القول بأن رابعة العدوية هي أول من أخرجت التصوف من الخضوع إلى عامل الحب، وأنها أول من استخدمت لفظ الحب استخدامًا صريحًا في مناجاتها لله عز وجل وفى أقوالها المنثورة والمنظومة، على يديها ظهرت نظرية العبادة من أجل محبة الله لا من أجل الخوف من النار أو الطمع في الجنة.
فتقول رابعة العدوية فى عشق الذات الإلهية:
أحبك حبين: حب الهوى
وحبّا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حبّ الهوى
فذكرُ شُغلت به عن سواكا
وأما الذي أنت أهلُ له
فكشفُك الحُجب حتى أراكا
فما الحمدُ في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
وقد عبر الصوفية عن عشقهم الإلهى بنظم الشعر والقصائد وعلى رأسهم الحلاج وعمر بن الفارض الذين تغنيا وتقربا إلى الله بأبيات الشعر, فقد تعامل المتصوفة مع الذات الإلهية, من خلال النظر إلى جمال الكون والعالم المادى ليعبر من خلاله إلى عالم الخلود كى يفنى فى الله, فمن يحب الله يتخلص من الشهوات وحب ملذات الحياة لا يعنيه, لأنه إذا كانت أية زاوية من زوايا قلبه مشغولة بغير حب الله نقص ذلك من حبّه لله، ومن يسعى لحب الله فلا مكان لأي أمر دنيوي في حياته
وكما يقول ابن الفارض فى العشق الإلهى:
زدني بفرط الحب فيك تحيّراً وارحم حشى بلظى هواك تسعّرا
وإذا سألتك أن أراك حقيقةً فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سرّ أرق ّمن النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أمّلتها فغدوت معروفاً وكنت منكرا
يرى المتصوفة أن المحب فى وضع أفضل من الناحية النفسية فاتجهوا للحب والعشق الذى لم يجدوا أفضل ولا أعلى من الله يبادلونه ذلك الحب.
الكون في نظر الصوفية بالإضافة إلى كونه مظهراً من مظاهر الإرادة الإلهية فإنه فوق ذلك مرآة ينعكس على صفحتها الجمال الإلهي, وصورة يتجلى فيها العشق الإلهي. والله تعالى الذي صوره أوائل الزهاد بصورة (المعبود) الذي يجب أن يذل له العبد ويخشاه, صوره المتصوفة بصورة (المحبوب) الذي يحبه العبد ويناجيه ويستأنس بقربه ويطمئن إلى جواره, ويشاهد جماله داخل قلبه.