الإثنين 13 مايو 2024

كورونا وتسريع التحول الرقمي في الثقافة والإعلام

فن27-10-2020 | 21:05

تؤمن الأمم والدول العظيمة بأن الفرص تولد من قلب التحديات الصعبة، وربما يكون اختبار فيروس كورونا الذي تعرضنا له جميعاً حافزًا على ارتياد آفاق جديدة في الكثير من مجالات الحياة، وتقديم إجابات عن الأسئلة المعقدة التي فرضت نفسها على العالم، بعد الارتباك والاضطراب الذي أصاب كثيرًا من القطاعات الحيوية في العالم.

والثقافة أحد أوجه النشاط الإنساني التي تعرضت لأسئلة جوهرية حول قدرتها على الاستجابة للتحديات الكبرى، ولا سيما في ظل بقاء معظم الناس في بيوتهم استجابة لحملات الوقاية من فيروس كورونا، وحاجتهم إلى ملء أوقاتهم بما ينفعهم ويخفف عنهم وطء الحجر الطوعي أو الإلزامي. 


وأعتقد أن "رقمنة الثقافة" تأتي على رأس الملفات التي يتعين أن تحظى بالاهتمام في هذه الفترة، لا باعتبارها وسيلة لمواجهة ظروف طارئة، بل باعتبارها ضرورة لعالم يتجه بقوة نحو تعظيم دور الذكاء الاصطناعي، وتواصل فيه الثورة الرقمية تطوَّرها الهائل واقتطاعها أرضًا جديدة كل يوم.


يضاف إلى ما سبق أن نشوء أجيال شابة ارتبطت بالتقنيات الرقمية واتخذتها أسلوب حياة، يفرض مخاطبتها باللغة التي تفهمها، لأن الأجيال القديمة التي خَبُرت الأساليب التقليدية وعايشتها زمناً تُخلي مكانها بسرعة لأجيال لاحقة تفتحت أعينها على عالم مختلف يختلف جذرياً عن عالم القرن العشرين، وهو ما يجعل رقمنة الثقافة بكل صورها وأنشطتها ضرورة حياة، وخاصة لمن يخطط للمستقبل ويتطلع إليه بثقة، ويطمح إلى أن يكون له نصيب من النجاح.


يمكن القول إن فيروس كورونا قد حرّك في مجتمعنا العربي كثيرًا من الأمور الراكدة أو التي كانت تسير ببطء أو بخطوات خجولة، ولعل في مقدمة هذه الأمور التي كان لهذه الجائحة آثار سريعة عليها أربعة أمور ذات علاقة بما نطرحه اليوم، وهي "العمل عن بعد" و"التعليم عن بعد" و"الثقافة عن بعد" و"الإعلام الإلكتروني"، وهي أمور تكاد تهم كل أفراد المجتمع، بل إنها تكاد تكون الشغل الشاغل لجميع الأسر اليوم، بعد أن بات معظم أفراد الأسرة إن لم نقل جميعهم، حبيسي بيوتهم. 


إن أزمة كورونا لم تخلق من العدم موضوع رقمنة الثقافة، لأنه قائم ونشط في كثير من دول العالم، لكن الأزمة ربما وضعته في مكان متقدم، بحيث يجب البدء في وضع استراتيجيات مكتملة وشاملة وخطط عمل تغطي كل جوانب الثقافة من أجل تطويعها للتقنيات الرقمية، وتطويع التقنيات الرقمية لها، وهو ما ينطوي على آفاق مبشرة في توسيع نطاق الفئات المهتمة بالثقافة، وتسهيل فرص الوصول إليها، وإثرائها عن طريق الإمكانات الهائلة التي تتيحها ثورة المعرفة والمعلومات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي فائقة التطور.


هذه الأزمة أعادت طرح أسئلة سبق طرحها في نهاية الألفية الثانية حول المحتوى العربي على شبكة الإنترنت وضعفه قياسًا باللغات الأخرى، كالإنجليزية والفرنسية، وعلى الرغم من مرور ثلاثة عقود على تلك الطروحات، فإن الهوة لا تزال كبيرة، والأرقام والمؤشرات لا تفيد المحتوى العربي من حيث الكم، فضلاً عن أن مسألة "الكيف" هي الأخرى تعطي الانطباع نفسه؛ فهناك عوامل عدة تسهم في هذا التراجع، في مقدمتها ضعف التمويل، واقتصار الأمر على مبادرات تفتقر إلى المنهجية، في الغالب تمثل فقط جهودًا فردية، ونادرًا ما تكون صادرة عن عمل جماعي تقوم به المؤسسات الفاعلة في عالم الثقافة والنشر؛ ويضاف إلى ذلك مشكلات فنية وتقنية ناجمة عن أن معظم التقنيات المتعلقة بالبرمجة والنشر على مواقع الإنترنت لا تدعم اللغة العربية على نحو كافٍ يماثل دعمها للغات الأخرى. 


إننا اليوم مطالبون جميعاً، أفراد ودور نشر ومؤسسات، بالعمل على وضع خطط تدعم النشر الإلكتروني، وتأخذ في اعتبارها دعم تطويع كل التقنيات اللازمة لتكون قادرة على تقديم المحتوى العربي بالشكل اللائق، وحين نتحدث عن المؤسسات فإننا نعني كل المؤسسات ذات الصلة بالأمر مثل وزارات الثقافة في الدول العربية، والجامعات ومراكز البحث، واتحاد الكتاب العرب واتحاد الناشرين، ومن دون ذلك التعاون لن نصل إلى ما نتطلع إليه، وستظل جهودنا تذهب سُدى، من دون أن تترك أثرًا فاعلاً في المجتمع.


ولا يغيب عن البال أيضاً أنا حين نتحدث عن رقمنة الثقافة، فإننا لا نقصر الأمر على الكتب والمؤلفات فحسب، بل إننا نعني بذلك أيضاً كل ما هو نشاط فكري وفني، بما في ذلك الجولات الافتراضية في المتاحف والمناطق الأثرية، فضلاً عن توثيق التراث من خلال الرقمنة. 


وفي أمر ذي صلة أيضاً، فرضت أزمة كورونا نفسها على الإعلام المكتوب في العالم كله، وألغت عدد من الصحف الطبعة الورقية، فيما قللت أخرى عدد النسخ التي توزع على القراء، الأمر الذي زاد من الاهتمام بالنسخة الإلكترونية من كل صحيفة، وهو ما سيكون له آثاره وتبعاته بعد انتهاء الأزمة؛ إذ يتوقع أن يتم تقييم تجارب الاستغناء عن النسخة الورقية، ومدى قدرة النسخة الإلكترونية على إشباع رغبات الجمهور في قراءة الصحف، وهل يمكن الاقتصار عليها من دون الحاجة إلى الطباعة، وهل ستستطيع أن تكون جاذبة للمعلنين كما هو الأمر في النسخة الورقية، فضلاً عن الإعلانات الرسمية التي يترتب على نشرها أحياناً بعض الأمور القانونية.


وكانت فكرة انتهاء عهد الصحافة الورقية قد طرحت بقوة خلال العقد الأخير، ولا سيما بعد ظهور عدد من التجارب لصحف إلكترونية، كما أن اثنتين من الصحف العربية العريقة، وهما "الحياة" و"السفير" قد أعلنتا إيقاف النسخة الورقية والاكتفاء بـ"الإلكترونية". 


وكما هو الحال في كل قادم جديد يأخذ مكان كيان قائم، يكون الناس منقسمين حوله، بين مؤيد ومعارض، حذرٍ ومندفع، وغالباً ما يكون المتمسكون بالقديم هم الجيل الأكبر الذين تربطهم به علاقة "عاطفية" نمت عبر سنوات، بل عقود، فيما يكون المتخلّون عنه هم جيل الشباب الذين يرون أن هذا هو التطور الطبيعي للحياة، ويفضلون ترديد المقولة التي اتخذها إحسان عبد القدوس عنوانًا لروايته "لن أعيش في جلباب أبي"، مشيرين إلى أن كل شيء بات يتغير في حياتنا بوتيرة متسارعة جدًا، وأنه بات من الصعب الوقوف في وجه الأنماط الجديدة التي فرضتها ثورة المعلومات والتطورات الهائلة في عالم الاتصالات.


إن حسم الأمر بين أنصار الفريقين السابقين ليس سهلاً كما يتصور البعض، لأن له تبعات كثيرة، وإضافة إلى ما ذكرناه، فإن الاقتصار على النسخة الإلكترونية، إن حدث، سيؤدي إلى تغييرات كثيرة في شكل ومضمون المادة الصحفية، سواء كانت خبرًا، أو تحقيقًا، أو حوارًا، أو مقال رأي، ولا سيما أن النسخة الإلكترونية تمكّن الصحيفة من وضع الروابط والوسائط المتعددة من صور ومقاطع فيديو وتسجيلات صوتية، الأمر الذي سيغيّر نوعية الكفاءات التي تعمل في مجال الصحافة، كما يفرض على محرري الصحف وكتابها اجتراح آلية وأشكال جديدة للكتابة، ما يعني أننا سنكون أمام قوالب صحفية جديدة، وسيمر وقت ليس بالقصير حتى تحظى النسخة الإلكترونية من الصحف بالمكانة نفسها التي احتلتها النسخة الورقية لدى ملايين القراء الذين أدمنوا رائحة الحبر وملمس الورق وقراءة الصحف ضمن طقوس باتت تشكل جزءاً من حياتهم.


العالم بعد أزمة "كورونا" لن يكون مثلما كان قبلها، وعلينا أن نكون مستعدين لكل التطورات والتغيرات التي ستطال كل جزء من حياتنا، وأن نكون قادرين على التأقلم مع كل ما يجري حولنا، وأن نكون مبادرين وفاعلين، كلُّ في قطاعه وحسب إمكاناته، على أمل أن يكون القادم أجمل بإذن الله.


    Dr.Radwa
    Egypt Air