الإثنين 29 ابريل 2024

النشيد والطرب في طريق العبادة.. إخناتون وأم كلثوم

فن27-10-2020 | 21:08

المصريون شعب متدين بطبعه ويمكن القول إن المصريين القدماء أسسوا للعلاقة بين الإنسان وربه، بدأت هذه العلاقة مع إخناتون وتَجلَّت بعد ذلك بالرهبنة المسيحية، إلى أن سُميت في ما بعد بالصوفية وشملت مظاهر التقشف والزهد في الجاه والتوحد مع الآلهة والاحتفال والغناء والمناجاة والغزل.


في كتابه "أنغام الروح.. حكايات عن أروع الأغاني الصوفية" يقول الصحفي أيمن الحكيم "إن الأغنية الدينية جزء أصيل من تراث الكنيسة المصرية، وكان إنشاد مزامير داود لا ينقطع بين جدرانها، كأنها صلاة للخالق وعلاج للمرضى، واشتهر القديس أبوطربو بأنه كان أجمل من يرتل المزامير، وأشهر من يستخدمها في مداوة المرضى وتعزية الحزانى".


مع مرور الزمن، تحورت هذه الطقوس الزاهدة واختلفت على أرض مصر مع اختلاف الأديان حتى صارت حلقات من الذكر الصوفية الإسلامية التي تشمل الإنشاد والسماع والرقص ومنح العطايا والموائد.


فالمصريون يحتفلون بآلهتهم ويمجدونها يغنون لها ويتوحدون معها، نلمس هذا في فنون الإنشاد والاحتفالات وحتى في أنماط قراءات القرآن. فالعبادة في مصر مرتبطة ارتباطا وثيقا بالنغم والاحتفال والنشيد.


التصوف الإسلامي في مصر:


التصوف الإسلامي المعروف الآن بشكله الحالي، نشأ خارج حدود البلاد، مع مطلع الدولة العباسية في القرن الأول والثاني الهجري حينما عم الترف وكثر انغماس الناس في الإسراف والملاذ.


وتدور موضوعات الغناء الصوفي حول حب الله ورسوله، وقد كان السماع في البداية مصحوبًا بعزف الناي وإيقاع الطبول والدفوف فقط، ثم تطور ذلك في القرن التاسع عشر الميلادي لتنضم آلات جديدة كالقانون والطنبور والكمان وغيرها من الآلات، كما بدأ موسيقيو المولوية - التي تطورت إلى رقص التنورة في مصر- في تدوين موسيقى السماع بغرض الحفاظ على تراثها.


ثورة 1952.. العصر الذهبي للصوفية في مصر:

في عام 1952 انضم أكثر من ثلاثة ملايين منتسب ينتظمون في 60 طريقة، لتأييد الرئيس جمال عبد الناصر في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية والخارجية ووقفت مشيخة الطرق الصوفية مع عبد الناصر في صراعه ضد الإخوان المسلمين. 


وفي ديسمبرعام 1967 سار أكبر موكب صوفي رسمي في مصر تأييدا لعبد الناصر في أعقاب هزيمة 5 يونيو 1967.  وما زالت الطرق الصوفية تسير على هذا النهج حتى الآن من تأييد الحاكم وعدم اتخاذ أي مواقف معارضة ضده، وعدم تأييد أي قوى معارضة. 


وهذا كله أضعف من إقبال الناشطين الإسلاميين عليها، فلا يقبل عليها إلا راغبي الراحة النفسية والبعد عن مشكلات الواقع بكل تعقيداته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.


التصوف الحداثي في غناء كوكب الشرق


بدأت أم كلثوم مشوارها الفني بالإنشاد الديني وتلاوة القرآن، ودرست كوكب الشرق منذ صباها عروض الشعر ومقاماته الموسيقية الوثيقة الصلة وعظيمة الأثر في المدرسة المصريّة في تلاوة القرآن، إذ كان والدها الشيخ المؤذن إبراهيم السيد البلتاجي الذي ساعدها على ذلك.


لقد أثرت هذه النشأة على مسيرتها الفنية المتفردة فيما بعد وأثرت بشكل كبير في تجربتها الروحية، لذا فليس غريبًا أن تصبح أيقونة مقدسة في حياة المصريين، فتصبح الأغنية الدينية في حياة كوكب الشرق علامة فاصلة ليست فقط في تاريخ السيدة العظيمة بل في تاريخ الغناء ككل.


الحرب وابتهالات أم كلثوم


ساهمت أم كلثوم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 بقصائد تعزز الشعور الوطني واتجهت بشكل مباشر لغناء قصائد تدعم العلاقات السياسية داخل مصر، وكانت البداية مع شعر أحمد شوقي في  قصيدة "سلو قلبي" التي شدت بها عام 1946. ربطت القصيدة الأحداث الدينية من مدح الرسول بالأحداث السياسية آنذاك من خلال تقديم حال المسلمين الأوائل، وهو ما كان يسبب ضجة شعبية كبيرة حين تذاع هذه القصيدة.


نهج البردة


في نفس العام 1946 قدمت قصيدة أخرى لأحمد شوقي، وهي نهج البردة، تروي في 30 بيتا مختارا من أصل 190 بيتا، السيرة النبوية المطهرة من بداية الدعوة حتى معجزة الإسراء والمعراج وتختمها بدعاء مكون من ثلاثة أبيات موجه إلى الله لإنقاذ الأمة الإسلامية.


ولد الهدى


وبنهاية عام 1949 عادت كوكب الشرق لتدغدغ مشاعر العرب بقصيدة "ولد الهدى" أهم قصيدة دينية لها على الإطلاق والتي أبدعها أحمد شوقي في شوقياته تحت اسم "الهمزة النبوية" وتظل هذه القصيدة هي القبلة الأولى للمداحين الصوفيين في العصر الحديث.


رباعيات الخيام


في مطلع الخمسينيات ساهم أحمد رامي بترجمة لرباعيات الخيام وهي أشعار صوفية فارسية، وعلى مدار عام كامل قام بتلحينها رياض السنباطي وغنّت أم كلثوم أبياتًا منها، والمؤكد أن لهذه الأغنية بصوت كوكب الشرق فضلًا كبيرًا في ذيوع ترجمة أحمد رامي بسبب عذوبة مفرداتها.


وفي نفس التوقيت شدت السيدة "إلى عرفات الله " من كلمات أحمد شوقي لتتغنى بمراسم الحج ويوم عرفة.


أوبريت رابعة العدوية


وبين عامي 1955 -1956 كانت مصر قد عبرت عهدا جديدا بعد ثورة الضباط الأحرار، وتلقت أم كلثوم دعمًا خاصًا من الرئيس جمال عبد الناصر الذي أعادها للغناء بعد طردها من نقابة الموسيقيين باعتبارها مطربة العهد البائد- قبل الثورة- كانت مصر في ذلك الوقت تدعم الأزهر في نشر الدعوة الإسلامية في إفريقيا وآسيا وتدعم انتصارات العرب وثوراتهم، كانت روح العروبة والثورة ولون الغناء الروحي هو السائد والمطلوب لجمع شتات الأمة العربية وهو ما قامت به السيدة أم كلثوم، قدمت في هذه الفترة للإذاعة أوبريت "رابعة العدوية" للشاعر طاهر أبو فاشا حيث تغنت بسبع  قصائد شديدة التصوف وهم "حانة الأقدار" و"عرفت الهوى" و"الرضا والنور" و"على عيني بكت عيني" و"صحبة الراح" و"لغيرك ما مددت يدًا" وأخيرًا "غريب على باب الرجاء" التي رغم تسجليها للإذاعة ضمن الأوبريت إلا أنها لم تذع إلا بعد وفاة كوكب الشرق.


وعادت أم كلثوم للأغنية الدينية مرة أخرى في عام 1962 بقصيدة "التوبة".


للشاعرعبد الفتاح مصطفى وألحان رياض السنباطي "تائب تجري دموعي" والقصيدة تدور حول صراع النفس الداخلي  الذي ينتهي بالتوبة.


ولنفس الشاعر غنت عام 1965 "أقولك إيه عن الشوق يا حبيبي" بالعامية ولهذه الأغنية قصة طريفة، إذ كان يرددها الناس على أنها أغنية عاطفية، حتى أم كلثوم نفسها وقعت في الفخ نفسه، وأرادت أن تداعب زوجة الشاعر بعد نجاح الأغنية  لتقول له، "إيه الحب اللي في الأغنية دي يا عبد الفتاح.. شكلك واقع في حب جديد وكاتب لها الكلام الحلو ده.. وشكلى كده لازم ألفت نظر مراتك".. ليفاجئها عبدالفتاح: "بس أنا مش كاتب الكلام ده في واحدة ست.. أنا كاتبه في حبيبي.. رب العزة سبحانه وتعالى"


في أول خميس من شهر مايو عام 1967 غنت السيدة"حديث الروح" للشاعر البكستاني محمد إقبال ومن ترجمة الشيخ الصاوي شعلان.


القلب يعشق كل جميل


أما في عام 1971 غيرت السيدة أم كلثوم طريقتها في غناء القصائد بالعربية الفصحى لتطل على جمهورها بقصيدة صوفية عامية تحمل عنوان "القلب يعشق كل جميل" من كلمات بيرم التونسي وألحان رياض السنباطي الذي لحن لها معظم القصائد الصوفية باستثناء بعض أغاني أوبريت رابعة العدوية.


وشهد عام 1972 آخر قصيدة صوفية بصوت أم كلثوم وهي "الثلاثية المقدسة" لصالح جودت وموضوعها المقدسات الإسلامية الثلاث مكة والمدينة والقدس.


لقد تركت السيدة أم كلثوم بصمتها وجمعت صف الأمة العربية والإسلامية بموضوع غنائها، ولقد أضافت شكلا جديدا للإنشاد والقصيدة الصوفية لتعبّرعن الإنسان العادي في خطابه مع ربه وخشوعه وهو يمارس ويمضي في حياته اليومية لتغير بذلك فلسفة الغناء الصوفي في مصر.


    Dr.Randa
    Dr.Radwa