في قريتنا في عمق الصعيد الجواني، مقام لسلطان الزاهدين القطب الصوفي الكبير الشيخ إبراهيم بن أدهم، وكان يقام حوله احتفالٌ يوم السبت من كل أسبوع يأتيه الزوار من بقية القرى، فضلا عن الزيارات الأخرى في المواسم، وخاصة من وقعت عليهم قرعة الحج، تأتى مواكبهم إليه، حيث كان الكثير ممن نالوا فرصة الحج، والتى هي منتهى أحلام البسطاء والدعوة العالقة بالألسنة وتجاوبها القلوب، يحرصون على زيارة مقامات أولياء الله الصالحين في محيطهم قبل السفر، وبعضهم يحملون كسوة للضريح كانت تُحمل على الجِمال، ثم سيارات النقل الصغيرة فيما بعد.
"40 مقامًا في مصر والشام"
وكأي طفل، كنت أحضر هذه الاحتفالات وأسير مع أقرانى وراء مواكب الزوار لنذهب إلى مقام الشيخ إبراهيم على بعد حوالي كيلو متر من بيتنا، لكن صُدمت صدمة كبرى لما عرفت من أبى أن الشيخ إبراهيم بن الأدهم المولود في بلخ "أفغانستان الآن" لم يدفن في قريتنا، بل لم يزرها حيًا، ولعل السلطان إبراهيم بن أدهم، الذي عاش في القرن الثانى الهجرى، لم تطأ قدماه أرض مصر، والمعرف أنه مدفون في مدينة جبلة بسوريا وقبره فيها يُزار.
أخبرنى أبى، الذي لم يكن يعتقد في زيارة الأضرحة مع تبجيله للأولياء الصالحين، أن لإبراهيم بن أدهم 40 ضريحًا في مصر والشام.. كيف؟!
إذن فهناك أضرحة رمزية لكبار الأولياء، ذلك لأنه ليس من شرط أن يكون الضريح فيه جثمان الولي صاحب المقام.
فهناك أضرحة أو مقامات يتم تشييدها بناء على رغبة من الولي نفسه بعد موته، عن طريق ظهوره في الرؤى للصالحين أو عِلية القوم من الحكام والأمراء في العهود التالية له يطلب إنشاءها في بقعة معينة لتكون مزارًا لمحبيه.
"بالطبع لن نناقش هنا مدى صحة، أو التحقق من هذا الزعم، ولكن طرق التدين الشعبي عامة ومعتقداتها الصوفية خاصة، لها مجالات أخرى يمكن أن توسمها بالخرافة، لكن اليقين الذي يحكم معتنقيها أكثر رسوخًا من اليقين الهندسي".
ويتم التعامل فيما بعد مع المقام الذي تم إنشاؤه بناءً على رؤيا مباشرة من الولي، على أنه مقام حقيقي، فيتم الاهتمام به، ويمكن كذلك إقامة احتفالات دينية سواء عامة أو خاصة بالولي وكأنه مدفون به بالفعل، وكذلك يتم التمسح به والدعاء عنده وإقامة حلقات الذكر بجواره أو في ساحته، مع قراءة القرآن، ولاسيما الفاتحة، مع التوسلات وصناديق النذور وتلقى الهدايا والتبرعات مع بقية الطقوس الملازمة بدون أي فروق بينه وبين مقام الدفن الحقيقي.
"ولعل من أشهر أمثلة مقامات الرؤى في مصر وأكبرها، مقام السيدة زينب الذي بنى إثر رؤيا رآها الصوفي الكبير الشيخ على الخواص (متوفى سنة 949هـ)، وأورد تلك القصة تلميذه الشيخ عبد الوهاب الشعراني الملقب بـ"القطب الرباني" (توفي 973هـ).
"سياحة الموتى"
وعن تلك الأضرحة التى تبعد عن أماكن دفن أصحابها من الأولياء بآلاف الأميال، هناك اعتقادٌ مستندًا إلى الآثار الواردة، وإن كانت غير محققة المصدر، لكنه صار من المعتقدات الراسخة لدى كثير من أتباع الطرق الصوفية ويشعرهم بالارتياح تجاه هذه الظاهرة، فيصلح عندهم لتفسير وجود أضرحة لموتى في بلاد لم تطأها أقدامهم وهم أحياء، وهو أن أجساد الصالحين بعد موتهم ودفنهم، تسيح تحت سطح الأرض كما تسيح أرواحهم في السماء، فتستقر الأجساد حيث شاءت في المواضع التى تحبها وتختارها.
لذلك لا يهتم هؤلاء بسخرية الساخرين أو عقلانية وواقعية المجادلين، فالمجال مجال تجاوز للواقع وانفلات نحو التحرر من قوانين الظاهر، فلهذا تجدهم لا يكفون عن شد رحالهم لزيارة الأضرحة ليمكثوا فيها حيث شاءوا ومتى أرادوا مستكينين إلى ذلك الاعتقاد العجيب.
"مقام في الكرنك"
كذلك لو كنت قد قمت بزيارة لمعبد الكرنك بمدينة الأقصر وتجولت فيه، فسوف يلفت انتباهك أنه في قلب المعبد، يوجد مبنى صغير متواضع بالطوب اللبن تعلوه قبتان، هذا البناء ليس له أي صلة بالمعبد سوى المكان، ولكنه بنى في وقت كان المعبد مجرد بقايا صروح وأساطين متناثرة بين خرائب مكدسة بلا أسوار تفصلها عما حولها، وكان المعبد العملاق وقت بناء المبنى ذي القبتين، لا يزال مختلطا مع بيوت قرية الكرنك - التى اكتسب منها المعبد مسماه - حتى أن إحدى ساحاته استخدمت كـ "جبانة" للموتى.
وعندما ستسأل عن القبتين ستعرف أنهما تعلوان مقامًا للشيخ ابن دقيق العيد وابنه والأب، وهو أبو الفتح تقي الدين محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري القوصي المتوفي في سنة 702هـ، ذاع صيته وسجل في صفحات التاريخ كعالم جليل من علماء الفقه والحديث، كما أنه شغل منصب قاضي قضاة مصر إبّان العصر المملوكي، وقد بلغ من علو كعب بن دقيق العيد في العلم، أن لقبوه بمجدد المائة السابعة، وكانت نشأته بقوص في جنوب الصعيد، ثم انتقل إلى القاهرة، ومات ودُفن في منطقة مقابر الإمام الشافعي.
ولكن حدث أن شاهد أحد الأهالي رؤيا على أثرها تقرر بناء مقام رمزي للشيخ المدفون في القاهرة، وكذلك ضم ابنه لمقام الرؤيا هذا، مع أن الابن مدفون وقبره يزار في قوص، ولكن لم تجر احتفالات أو موالد للمقامين البسيطين في الكرنك، ربما بسبب بساطة المكان والمبنى، أو لعدم وجود مجال حوله، والأهم من كل ذلك لم تقم تلك الطائفة المعروفة بـ"النقباء"، وهم الذين اختصوا بخدمة الأضرحة، ليجنوا من ورائها مكاسب هائلة، ولذلك لا يتوقفون عن إذاعة الأساطير التى تتحدث عن المعجزات والكرامات عن أصحاب المقامات، ولذلك اقتصرت طقوس الزيارات في مقام ابن دقيق العيد بالكرنك على التبرك بالزيارة لفترة طويلة، ولكن حتى هذه الزيارة، انقطعت تماما الآن بعد أن تم إحاطة حرم معابد الكرنك بسور يفصله عن المناطق الأخرى من حوله.
وقد يتملكك العجب من أن ابن دقيق العيد لم يكن أبدا من أصحاب الطرق الصوفية، ولا كانت له اهتمامات بالأضرحة والمزارات، بل إنه عارض كثيرا من البدع والخرافات التى يأتى بها المتهوسون من المنتسبين للتصوف، لكن العقلية الشعبية لا تعترف بذلك، بل رأينا أضرحة ومزارات وموالد لكثير من فقهاء وعلماء حديث كانوا يعارضون ذلك، مثل الإمام الشافعي في القاهرة، والإمام جلال الدين السيوطي في أسيوط، وغيرهما كثر، فالناس يرون أن أي عالم دين أو فقيه أو عابد متصوف، يستحق البناء على قبره والاحتفال بمولده وشد الرحال إليه للتبرك، مع ذبح الذبائح وإقامة الموائد وحلقات الذكر، فلا جدوى إذن في مناقشتهم حول شخصية وانتماء صاحب المقام ولا موقفه من الصوفية، ولا حتى مدى حجية الادعاء بمقام الرؤية، فلن يكون لها أى تأثير ذا بال في الأوساط الشعبية، بل قد تواجه اتهاما في دينك أو في عقلك إذا تحدثت عن الشيخ صاحب المقام بما يرون أنه لا يليق منك في حقه.
"أصحاب العلامات"
بمجرد دخولك ذلك المسجد ذي البناء المتواضع وكأنه زاوية بالقرية الصغيرة التى تقع شمالي مدينة نجع حمادي، ستجد خلفك شاهد قبر صغيرًا مكسوًا بقماش أخضر في غرفة صغيرة جدا حتى تبدو وكأنها تجويف في جدار المسجد، وإذا سألت عنه فستسمع من يجيبك قائلا "إنه قبر الشيخ عبد الرحيم القنائي".. كيف هذا؟!
فعلى بعد أكثر من 75 كيلومترًا جنوبًا يقع مسجد وضريح القطب الصوفي الكبير سيدى عبد الرحيم في جامع ضخم وهو أهم معالم المدينة، فما الذي أتى به إلى هنا؟!
يشير أحدهم إلى القبر قائلا في اقتضاب "هو عَلَم هنا" أي أنه أظهر علامة.
إذن فهناك طريقة أخرى لإنشاء الأضرحة هو "العلامة" وهذه العلامة تكون بحدوث أمر خارق، أو على الأقل، غير معتاد حدوثه ليفهم منه أنه علامة من الولي بإنشاء مقام له كأن يأتى في هيئة هاتف في الصحو أو في المنام يأمر متلقيه بأن يذهب إلى مكان ما وهناك يجد علامة ما فيرفع حولها المقام.
قد يجد العلامة حَجَرًا غريبا مثبتًا في المكان لم يكن موجودا من قبل، أو نبتة لم يرها أحد، أو أي أمر غير معتاد، وهنا لابد من تلبية رغبة الولي الذي سينسب إليه المقام الجديد، ولابد من بناء مقام على العلامة إجلالا للولى واحترام موضع علامته، ويحسب الناس ذلك نوعا من التكريم للمكان، وأصحابه يتيهون بها بين البلدان المجاورة لهم؛ ومنها إحدى القرى على شاطئ النيل، كانت علامة أحد الأولياء فيها أن جاءت عبر البحر - يقصدون بالبحر نهر النيل الذي لا يزال كثيرٌ من المصريين يطلقون عليه هذا المسمى - كتلة هائلة من الطين عائمة وعليها نخلة صغيرة، لتستقر في مكان ما، وكانت هذه العلامة كافية ليتيقن أحد أهالي القرية بأنه فهم رسالة الولى الذي يمكن أن يتصل به عن طريق الرؤيا أو الهاتف أو حتى مجرد الخاطر.
لذلك تجد في القرى المصرية، سواء في الصعيد أم الوجه البحري أو في أي مكان في مصر في المجتمعات العتيقة، مقامات صغيرة أو كبيرة لأقطاب كانوا كبارًا أو صغارًا أو مشهورين أو مجهولين، لا يحوي أي منها رفات صاحبه أو أي رفات أخرى، أو حتى ما يدل على أن هذا المكان كان مقبرة، وكثيرا ما تم حفر مواضع في الأضرحة والمقامات لأي أسباب، كتوسيع الطرق أو إعادة البناء أو لنقل المقام لأي سبب، فإذا به خالٍ من الجثث والرفات.
وحدث ذات مرة أن قام أهالي قرية "زاوية الشيخ نابت" في شمال محافظة الجيزة، بطلب الفتوى من دار الإفتاء المصرية لتجيز لهم نقل رفات الشيخ نابت لاحتياجهم إلى توسعة الطريق الذي يعترضه المقام، فصدرت الفتوى الشرعية بجواز ذلك مع تحقق شروط معينة أهمها الحرص عند نقل الرفات، لأن الشريعة الإسلامية تعطى حرمة للميت - أيا كان - وبالفعل تم إحضار المتخصصين في حفر القبور واتخاذ إجراءات نقل الرفات إلى مقبرة أخرى، ولكنهم ظلوا يحفرون حتى ظهرت المياه الجوفية على عمق كبير دون أن يجدوا أي أثر لجثة أو حتى بقايا لعظام، وظل الحفر حتى تم التيقن من أن أحدا لم يدفن هنا، لا الشيخ نابت ولا غيره من الناس.
الأمر تكرر كثيرًا في مناطق كثيرة، ولا ثمة تفسير إلا أن يكون المقام مقام رؤيا أو علامة، ولكن لا تستبعد أن يكون خديعة من المتاجرين بمشاعر البسطاء ممن يلوذون بأهل الله يرتجون البركة لاعتقادهم بطهارة المكان لمجرد اقترانه بأولياء الله الصالحين أو آل بيت النبي المطهرين الكرام.
"لغز الأربعين"
هناك شيخٌ له عدد هائل من الأضرحة في مصر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، تراه في القرى والمدن، وتسمّت باسمه الطرق والوديان، وصار علامة للدروب والركبان، فما من قرية أو مركز أو محافظة، إلا ويمكن أن تجد فيها ضريحًا يسمى باسم "الشيخ الأربعين".
ومع كثرة أضرحته وشهرتها، إلا أنه لا توجد أي معلومات موثقة أو شافية عن حقيقة شخصية هذا أو "هؤلاء" الأربعين، وغاية ما ورد عنهم القول إنهم كانوا 40 رجلا صالحا تفرقوا في أرجاء البلاد، ولكن لا يوجد أي معلومات موثقة أو شبه موثقة عنهم، والعجيب أنك لو أحصيت عدد الأضرحة لربما وجدتها أكثر بكثير من أربعين بأنحاء مصر، فأنت تجده في قلب القاهرة وبالتحديد في منطقة أم الغلام بحي الجمالية، وكذلك في باب الشعرية، وفي الدلتا والصعيد، بل وفي سيناء تجده بين جبال سانت كاترين، ما يصعب على الحصر، ولعل أشهر هذه الأضرحة الأربعينية في السويس، حيث مقام سيدي عبد الله الأربعين، وهو أشهرها وأكبرها، وإليه ينسب أحد أكبر وأشهر أحيائها.
وقد تذهل عندما أحدثك بأن الباحث السورى المتخصص في العلوم السياسية د. محمد إسماعيل مرعي، أخبرنى أن هناك شيخا بنفس الاسم بإحدى المدن السورية وربما في بلاد أخرى، ولا ندرى، وربما تتسع عيناك من العجب، إذ أنبئك بأنى عاينت بنفسي قصرًا أثريًا في مدينة أصفهان الإيرانية اسمه "قصر الأربعين"! غير أنه لم تُحل مجهولية هذا الشيخ اسمًا وجسمًا وتاريخًا، دون تقديس المصريين لأضرحته ومقاماته في كل مكان لمجرد أنه يحمل وصف ولي!
وهناك رأيٌ بأنه هو أوزوريس الذي قطّع أخوه ست جسده إلى أربعين قطعة ودفن كل قطعة في موضع بعيد عن الآخر في مصر، فقدس المصريون هذه المواضع واحتفى كل مكان بأنه يحوى قطعة من القطع الأربعين لأوزوريس، وهذا الرأي يميل إليه الكاتب والأديب الراحل جمال الغيطانى، ولكن ليس هناك ما يعضّد هذا الرأي مع وجاهته التى تستند إلى تمسك المصريين بتقاليد تراثهم الممتد الجذور في أعماق الزمن وخاصة المتصل بالمعتقدات والطقوس الدينية ويعيش في الذاكرة المتوارثة للمجتمع المصري مهما بدا من تقلبات وتحولات، إلا أنه يختبئ في الجينات التاريخية التى تتناقل في المجتمع عبر العهود كتناقل الجينات الوراثية عبر الأجيال.