في قريتنا الصغيرة "خلوة سنهرة" التابعة لمركز طوخ بمحافظة القليوبية، درجنا على هذا الحدث الذي لا نمل سماعه، ولا يمل هو من تكراره علينا كل عام ذلك الجندي المصري الأصيل، العريف مجند محمد سيد حسين عايد، أمانة يذكرنا بها كل عام في يوم النصر، لا يفتأ يذكرها، سمعناها في الحقل مرارا وقت الحصاد تحت شجرتنا العجوز، وفي البيت حسبما يتفق، في كل مرة نسمعها نحن الأبناء نجد للسماع لذته وكأننا نسمعها لأول مرة، يحكيها وعينه تذرف دمعا، يجتر الذكريات، يخاف أن يواتيه الأجل دون أن نعيها جيدا ونتدارسها مع أبنائنا من بعده، أمانة جندي وعرفان بالجميل لقائده الشهيد، الحكاية حكاية بطل، حكاية سبع شرقاوي ومنين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه، كلام قالوه ناس وياما بكره ناس يقولوه، القول على سبع لكن سبع شرقاوي، الاسم أحمد ولكن نأبه شرقاوي، حكايته يادي العجب فيها العقول بتوه، ومنين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه، كان أول المدرسة، كان أشطرالشطار.
بطلنا هو القائد الشهيد أحمد حسن إبراهيم، بداية الحكاية رؤيا رأتها والدته وهى تحمل به جنينا فى أحشائها، فقد رأت ثلاث عشرة نجمة تسجد للرسول -صلى الله عليه وسلم- بين السماء والأرض، وما إن استيقظت أسرعت إلى زوجها الشيخ الأزهري تقص رؤياها عليه، فأسرع بدوره إلى مكتبته العامرة، وعكف طوال اليوم يبحث عن تفسير لهذه الرؤيا، وفى النهاية أخبرها بأن الذى فى أحشائها سيموت شهيداً، وهكذا استمرت الأسرة تردد هذه الرؤيا قبل ولادته، وطيلة حياته، والأغرب من هذا أن المجموعة ٧٣ مؤرخين علمت تفسير بقية هذه الرؤيا بعد موته فقد أخبرهم أحد زملائه بعد عودته من ميدان القتال أنه قبل استشهاده أسقط ثلاث عشرة طائرة وهى طائرات محلقة بين السماء والأرض وشعارها نجمة، نعم..نجمة داود!
ولد البطل أحمد حسن في الأول من أكتوبرعام 1939م بقرية بيشة قايد –الزقازيق - محافظة الشرقية, وتوفى والده وهو فى الرابعة عشرة من عمره، وبحكم كونه الأخ الأكبرلإخوته أكسبه ذلك جدية في حياته وتحملا للمسئولية.
حصل على أعلى الدرجات بالمدرسة الثانوية العسكرية بالزقازيق، فالتحق بكلية الطب ودرس بها لمدة عامين، ثم تركها ليلتحق بالكلية الحربية وتخرج فيها عام 1962م، وبعد تخرجه التحق بمدرسة المدفعية الجوية وجاء ترتيبه الرابع على الدفعة بتقدير “جيد جدا”، ثم سافر إلى الاتحاد السوفييتى للتدريب على صواريخ سام ( 6 ) وبعدما عاد من السفر بعد عامين، تولى قيادة إحدى كتائب الدفاع الجوى.
فى حرب أكتوبر كانت كتيبته تحتل أول المواقع على قناة السويس عند موقع يسمى الزراير، وحينما صدرت الأوامر بإطلاق النار كان أول من أطلق الصواريخ، وأول من أسقط طائرة للعدو فى هذه الحرب، وأظهر بطلنا مهارة فائقة في صيد الطائرات، حيث تمكن فى الفترة من 6 أكتوبر وحتى استشهاده في 18 أكتوبر من تدمير ( 13 ) طائرة كما تمكن من إسقاط أربع طائرات فانتوم، منها طائرتان بصاروخ واحد، كانت تتجه لضرب اللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني الميداني في حرب أكتوبر، وكانت تلك الكتيبة شعلة من النشاط والمثابرة في ميدان القتال لدرجة جعلت قائد الجيش الثاني يرسل إشارته للواء جميل طه قائد لواء الدفاع الجوي، الذي تتبعه تلك الكتيبة بأن يذهب مندوبا عنه آمرا إياه أن يقبل رأس كل رجالها وخاصة قائدها أحمد حسن.
في يوم 18 أكتوبر 1973، وأثناء ثغرة الدفرسوار حاول إنقاذ منصة الصواريخ التى وقعت في حفرة، فنال الشهادة عندما انفجرت دانة بقرب الدبابة التي تسحب المنصة، ما جعل الجندي الذي يقودها يتحرك بها للأمام في قفزة غير مقصودة ومعها المنصة وبينهما البطل الذي سقط شهيدا لتوه، وما زالت الطريقة التى أنقذ بها منصة الصواريخ يتم تدريسها حتى الآن، بعدما رفض إحراقها كما جاءت الأوامر حتى لا تقع بيد العدو، وقبل استشهاده بساعات أنقذ ثلاثة جنود وضابطا قد فقدوا في الصحراء لمدة ثلاثة أيام أثناء الانسحاب وظل يبحث عنهم بنفسه إلى أن عاد بهم جميعاً سالمين، وكان أبي -رحمه الله- أحد هؤلاء الجنود الذين حفظوا الجميل لهذا القائد العظيم، والذين شهدوا لحظة استشهاده، وكتيبته هي الكتيبة الوحيدة في سلاح الدفاع الجوى التى لم يعد قائدها من الحرب، وكان آخر ما نطق به الشهيد لأقرب ضابط منه قبل أن تصعد روحه إلى بارئها: "أبلغوا أمى وإخوتى وأولادي نهلة وخالدا أن يسامحوني لأنى نسيتهم وتذكرت مصر".
بعداستشهاده كرمته القوات المسلحة بمنحه رتبة ( مقدم ) ومنحه وسام النجمة العسكري, وتم إطلاق اسمه على الدفعة 27 التى تخرجت في سبتمبر 1999، من كلية الدفاع الجوى وأطلق اسمه على أحد الأبنية التعليمية فيها, كما تم إطلاق اسمه على مدرسة بمسقط رأسه بالزقازيق.
في سبتمبر من عام 2012، كنت أجري حوارا مع اللواء "أيمن حب الدين" أحد قادة الدفاع الجوي في حرب أكتوبر، وفي نهاية الحوار أخبرته أن أبي كان أحد أبطال الدفاع الجوي، وكان من رجال البطل الشهيد أحمد حسن، فابتسم لي وقال: لك عندي مفاجأة! وأشار لسيدة كانت تجلس إلى صديقي وأستاذي الكاتب الصحفي محمد الشافعي يتحادثان، وأخبرني أنها "نهلة" ابنة البطل الشهيد، فأسرعت إليها وتعارفنا، واتصلت حينها بأبي وعرفته إليها...سبحان الله! بعد هذا الزمن الطويل يتعرف الجندي الأمين الذي حمل الرسالة ويذكرها لأبنائه عاما بعد عام، إلى ابنة قائده، ويتم الإعداد للقاء تليفزيوني يجمع بينهما على القناة الأولى وآخر على القناة الثانية، ليحكي الجندي قصته مع قائده ولكن هذه المرة ليس لأبنائه فحسب، بل لكل العالم، وكأنها النهاية لهذا الجندي الأمين، فقد داهمه المرض فجأة، ولم نكتشف الأمر إلا بعد تطوره، حينها ابتسم الأب مستقبلا إرادة الله بسعة صدر، ونحسبه عند الله شهيدا، بعد هذا اللقاء العجيب في إبريل التالي له، ليلحق بقائده البطل، رحم الله الشهيدين العريف مجند محمد سيد حسين عايد، والقائد البطل أحمد حسن إبراهيم.