يعد المكان من بين أهم الأركان التي
تشكل بنية النص الروائي حيث أن بقية عناصر الرواية كالأحداث، الشخصيات والزمن لا
يمكنها أن تقوم إلا بحضور مكان يجمعهم ليكون
النص الروائي أكثر مصداقية، فالمكان هو العمود الفقرى الذي يربط بين أجزاء النص
الروائي ببعضها البعض، والذي يرسم الأشخاص والأحداث المتخيلة في العمق لذلك فهو من
العناصر الأساسية في النص الروائي، إذ في إطاره تدور الأحداث فلا وجود لحدث خارج
هذا المكون السردي.
يذكر باديس فوغالي في كتابه "الزمان والمكان في الشعر
الجاهلي" أن "المكان نكهة فاصلة تولد في الأديب إحساسًا متميزًا يجعله
ينتشي، ويتصهد وجدانيًا كل ما لامس شعوره جانبًا من ذلك المشهد المكانى الغائر في
أعماق ذاكرته".
والمكان في العمل الروائي ينطوي على
نوعين: الأول هو تلك الأماكن المفتوحة وتشمل: المدينة، الشارع، القرية والبحر، أما
النوع الثانى فيعبر عن الأماكن المغلقة وتشمل: البيت، الغرفة والمدرسة. نتناول هنا القرية في السيرة الذاتية
"الأيام" للدكتور طه حسين، الذي يصادف اليوم ذكرى وفاته في مثل هذا اليوم
28 أكتوبر من عام 1973.
الدكتور طه حسين هو أول كاتب للسيرة
الذاتية، حيث صدرت "الأيام" في عام 1929، وهو أحد أهم وأبرز الشخصيات
الأدبية التي مرت على تاريخ الأدب العربي فقد لقب بعميد الأدب العربي، وكان أديبًا
بدرجة وزير فكان وزيرًا للمعارف - وزارة التربية والتعليم- وهو أول من أقر
بمجانية التعليم، حيث يؤكد على ذلك من
خلال مقولته الشهيرة "التعليم حق للجميع كالماء والهواء"، وقد رُشح لنيل
جائزة نوبل في الآداب للمرة الأولى في عام 1964، وتم ترشيحه مرة أخرى لها فى عام
1971، وله العديد من المؤلفات التي تعتبر من أهم كلاسكيات الأدب العربي مثل: في
الشعر الجاهلي، الشيخان، على هامش السيرة، دعاء الكروان، حديث الأربعاء وغيرها من
مئات الكتب التي أثرت على الوسط الثقافي وساعدت في تشكيل هوية الأدب العربي.
إن الإنسان كائن إجتماعي بطبعه لا
يستطيع العيش وحيدًا بمعزل عن الآخرين، فلابد من وجود مكان يستقر به ويتعايش مع أفراد
مجتمعه، ومن بين الأماكن التي استقر بها طه حسين هى "القرية" وقد نلاحظ ندرة الدراسات النقدية حول جماليات
القرية في النصوص الأدبية رغم أنها تحتل مكانًا رفيعًا في جماليات المكان، وقد
تحدث طه حسين عن قريته وما حملته من دلالات ساعدت على تشكيل صورة واضحة لتأثير
البيئة عليه، حيث تعتبر القرية هى الرمز الأكبر للطبيعة ومن بين دلالاتها أنها
تمثل الأرض فمنها يستمد الإنسان طيبته، والأرض هى إحدى عوامل الأمن والطمأنينة فهى
كأصل الإنسان ومنها يستمد جذوره وإنتمائه الأول وتشكيل هويته، فينفتح مشهد السيرة
عند طه حسين على سياج مادي وضع فيه "الفتى" وهو سياج من القصب ولم ينس
أن يذكر أن قصب هذا السياج كان أطول من قامته، فكان عسيرا عليه أن يتخطاه ليرى ما
وراؤه، كما يذكر أن قصب هذا السياج كان مقتربًا كأنما كان متلاطفًا فلم يستطع أن
ينسل من ثناياه.
يبدأ حسين بوصف دلالات المكان فى القرية فيعتبر
وصفه للسياج وصفا نفسيًا مجازيًا، حيث كان يُعبر عن ذاته الأسيرة فى سجن مكاني مرتبط بنشأته الريفية لا يستطيع أن يتخطاه
بسبب قامته القصيرة، وأيضًا بسبب إعاقته البصرية فلذلك يتحول هذا السياج إلى سجن
أبدي فلا يستطيع أن يتخطاه، فقد عجز من خلال وصفه أن يكون كالأرنب
الذي يحسده لقدرته على تجاوزه وعبوره، بينما هو يظل قابعًا أثير آفة العمى التي
طالته منذ أن كان بعمر السادسة، ومن هنا تبدو الإشارة واضحة إلى ما تركته العاهة
في نفسه منذ أن كان طفلاً صغيرًا من أثر ظل لاصقًا بذكرياته.
ويمكن القول بأن العمى – الذي لم
يُعالج في بدايته لقلّة الوعي- ترك أثرًا واضحًا على طه حسين الصبي الصغير وأحكامه
وفلسفته حول الحياة ومقدراتها فينعكس ذلك النص السردي فتبدو اللغة قاسية وتتكشف من
خلالها عقدة "الأنا"، لكن تلك الإصابة المبكرة لم تترك خياله مقيدًا،
بل جال كثيرا بين الخرافات وأوهام الجن والعفاريت وشرورها التي سيطرت على عقله
الصغير، فكان يقضي ليلته خائفًا من خيالاته، وحين يغلبه النوم يستيقظ مجددا ليغوص
مرة أخرى في تلك الأوهام.
وتأكيدًا على ذاته المعقدة يمكننا أن
نرى التعمد الواضح لعميد الأدب العربي وهو يكتب سيرته الذاتية "الأيام"
أن يستخدم أسلوب التعتيم في كل شيء، فاستخدم
ضمير الغائب للحديث عن ذاته، ولم يقم بتحديد الزمان والمكان، حتى في الشخصيات
المحورية فلم يطلق عليها أسماء، فقد كان يستخدم مثلا لفظ "الصبي" للدلالة
على نفسه صغيرًا، و"صاحبنا" كإشارة إليه عندما بدأ في دراسته بالأزهر
الشريف، أما "سيدنا" فعبر بها عن الشيخ الذي كان يعلمه القرآن الكريم
ولم يذكر اسمه قط، بل إكتفى بـ"سيدنا" للتعريف به. ربما يكون السبب وراء
ذلك الغموض هو تأثر طه حسين بشعراء الجاهلية الأولى الذين كانوا يكتبون أشعارهم
بضمير الغائب، وذلك في دلالة واضحة على إنكار الذات، أو ربما محاولته للهروب من
الواقع والإنفصال عن مجتمع القرية الذي تسبب له في نكبته الأولى وهو ما زال
صغيرًا بعد "العمى".
كان طه حسين ناقمًا على البيئة
الريفية بأكملها، فقد كانت سببًا واضحًا في إصابته، وفي موت أخته الصغرى، ففي
القرية هناك دائما من يتعرض لمثل تلك الحوادث نتيجة الجهل وعدم توفر إمكانيات طبية
مجهزة، حيث شكوى الطفل لا يُعترف بها، وإذا ما تفاقم الوضع فاستدعاء "حلاق
القرية" للمداواة هو أول ما يخطر على البال وهو ما حدث مع طه حسين.
يواصل طه حسين سخطه على تلك البيئة
الريفية التي تفيض جهلًا، تلك القرية التي تجعل من الخرافة نهجًا، حيث يبدأ في الحديث عن
أحد تلك الأمكنة التي كان يرتادها في القرية والتي كانت سببًا في تأكيد رؤيته حول
تلك البيئة فيقول: "تتسع دائرة الغضب والضيق على كل ما يتصل بهذه البيئة"
لتتحول مفرداته في الكتابة إلى شيء من القسوة حين يتحول للحديث عن "سيدنا"، و"الكُتّاب" حد أنه وصف شخصه – سيدنا - بالكذاب والغشاش والأثر، كما شبه
صوته بصوت الحمار.
أما العريف، ذلك الرجل الذي يُساعد سيدنا يكرهه الرجل لأنه مكار داهية، سارق
عابث، وأنهما متباغضان، ومضطران لأن يتعاونا على كره ومضض، ثم يسوق عقدًا بينهما
قائمًا على أن يساعد العريف سيدنا فى إدارة الكتاب والتحفيظ مقابل ربع النقد الذي يأتى للكتاب، فنقمته على القرية دائما ما
كانت مرتبطة بشخوص أهل القرية الذين يحملون دلالات المكان من السذاجة، الجهل، الطيبة،
الخداع والمكر فى حين آخر، لذا نجد أن طه حسين قد استغرقه الوصف وإزدرائه للكتاب
وأهله فيقول: "حتى إن كان العصر أقبل عليه أًحابه، ورفاقه منصرفهم من الكتاب،
فيقصون عليه ما كان فى الكتاب وهو يلهو يعبث بهم وبكتابهم وبسيدنا والعريف"، يظهر هنا استطراد طه حسين فى الحديث عن ذكرياته
لتلك الأمكنة وخاصة في التفاصيل الكثيرة عن كتاب قريته، فقد كان يعانى من قسوة أبيه الذي يحثه على حفظ
القرآن بالرغم من ظروفه المرضيه وقسوة "سيدنا" عليه إلا أنه دائمًا ساخطًا
ناقمًا، يراه لا يصلح لتلك المهمة فيقول عن رحلة حفظ القرآن: "لا يعرف كيف
حفظ القرآن ولا يذكر كيف بدأه ولا كيف أعاده" وهنا يتماهى طه حسين مع الجو
المبهم وإعاقته البصرية التى منعته من أن يختبر الحياة بهيئتها الحقيقية لا تلك
الرؤية المشوشة المحفوظة في ذاكرته منذ أن كان بصيرًا قبل أن يفقده نتيجة جهل
المكان.
لكن ذلك الشعور بالنقمة والسخط على
بيئته كان حافزًا له للخروج من ظلمة القرية إلى جامعة "فؤاد الأول" والأزهر
الشريف الذي حمل قدر كبير من سخطه ونقمته عليه، ثم أخيرًا رحلته إلى فرنسا حيث
الفروق الشاسعة بين ماهية تلك الأمكنة ودلالاتها وأثرها على فلسفته وإنتاجه الأدبي، حيث قسوته فى وصف الشخصيات التي نشأت معه في بيئته القروية البسيطة بـ"الجهل،
التخلف وإدعاء التدين".
كتاب "الأيام" للدكتور طه حسين كان بمثابه
ثورة على قيود المجتمع وأنساقه والسلطة
الأبوية التي قوّضت حركته في بعض الأوقات وثبطت من عزيمته وهزمته معنويًا فى مواقف
كثيرة .