السبت 29 يونيو 2024

السيد ياسين.. سيد الباحثين (ملف)

فن30-10-2020 | 14:09

في حي راغب باشا أحد الأحياء الفقيرة في الإسكندرية وفي مثل هذا اليوم 30 أكتوبر من عام 1930، ولد السيد ياسين، المفكر المصري الذي ستموج حياته بغليان فكري غير مسبوق، سيكون نتاجه الفكري والأدبي تراثا يبقى لأجيال القادمة.  

في بداية حياته اهتم السيد ياسين بالأدب، وكان مولعاً بالشاعر والأديب الأمريكي "ت.س.إيليوت"، واستطاع أن يجمع حوله مجموعة من محبي الأدب، والذين كانوا يجتمعون في منزله بحى راغب لمناقشة الأعمال الأدبية، ومن باب الأدب خاض السيد ياسين طريقه إلى الفكر والفلسفة، فسرعان ما تحولت كتاباته الأدبية إلى خواطر وتأملات وتفكير. 

 وفي عام 1950 شهدت حياة السيد ياسين تحولاً خطيرا، حيث انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، ورغم المسار الخطير الذي اتخذه، إلا أنها مكنته من الإطلاع على جانب فكري لم يطلع عليه كثير من نظرائه، فدرس القرآن الكريم، والحديث، وطالع عدداً من كتابات المعاصرين، أمثال أبى الحسن الندوي، والشيخ الغزالي، وتعرف حينها على معلم أزهري ضرير، سرعان ما نمت صداقتهما حتى صار قارئه، فقرأ كل المقررات الأزهرية، ثم تخرج من مدرسة الدعاة خطيبا معتمداً، وبدأ في ممارسة الخطابة في الإسكندرية. سرعان ما بدأ الجفاء بينه وبين الإخوان المسلمين التي انشق عنها راحلًا بلا عودة، إذ بدأ في النضوج فكرياً، وتميزت تلك المرحلة من حياته بكثرة الإطلاع، كما انضم إلى كلية الحقوق، وسرعان ما اكتشف عالم طه حسين، وانكب على دراسة الحقوق التي يقول إنه دخلها بالصدفة، بعد أن نجح بمعجزة في الثانوية العامة، وتأثر بكتابات الدكتور حسن صادق المرصفاوي أستاذ القانون الجنائي، ذلك الرجل الذي تعرف من خلاله على أصول البحث العلمي، وساعده في كتابة أول بحث له تم توزيعه على جمعية الأبحاث الجنائية. 

الفترة التي قضاها السيد ياسين في بدايات شبابه عضواً بجماعة الإخوان، كشفت له زيف تلك الجماعة، التي أمضى بقية حياته محارباً لها بقلمه وفكره ودراساته وأبحاثه، ابتسم الحظ للسيد ياسين الذي لم يشأ أن يُصبح محاميا، حين أعلن المعهد القومي للبحوث عن حاجته إلى باحثين من خريجي الحقوق والآداب، واستطاع السيد ياسين اجتياز الاختبارات ليكون الأول على 300 شخص تقدموا للاختبارات، وهو المركز الذي سيمضي فيه 18 عاما.  

سافر السيد ياسين إلى فرنسا لإعداد رسالة الدكتوراه في القانون، لكنه ملّ من القانون بعد عام ونصف، ليجد نفسه راغبا في دراسة علم الاجتماع، ذلك العلم الذي قال إنه جذبه بشدة حتى قال لنفسه "فلتذهب الدكتوراه إلى الجحيم"، ليبدأ السيد ياسين رحلته الطويلة في علم الاجتماع السياسي. 

 عاد ياسين إلى القاهرة عام 1967، ليجد النكسة والهزيمة في انتظاره، وعاش مع كل المصريين تلك اللحظات العصيبة، لكنها كانت حافزا له لدراسة المجتمع الإسرائيلي بشكل علمي، فانضم إلى معهد  الدراسات الفلسطينية والصهيونية بجريدة الأهرام عام 1968، وفي عام 1975 أصبح هذا المعهد مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وكان السيد ياسين رئيسه منذ تأسيسه وحتى عام 1994.

بعد أن ترك إدارة مركز الأهرام، عمل السيد ياسين متفرغا بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وأصدر ياسين عدد من المؤلفات الهامة في علم الاجتماع، من بينها "أسس البحث الاجتماعي، ودراسات في السلوك الإجرامي، والشخصية العربية بين تصور الذات ومفهوم الآخر، ومصر بين الأزمة والنهضة، وتحليل مفهوم الفكر القومي، السياسة الجنائية المعاصرة"، وغيرها من المؤلفات الهامة. 

خلال المسيرة الطويلة نال السيد ياسين العديد من الجوائز والأوسمة، من بينها وسام الاستحقاق الأردني من الطبقة الأولى عام 1992، ووسام العلوم والفنون والآداب عام 1995، وجائزة أفضل كتاب في مجال الفكر من معرض القاهرة الدولي للكتاب 1995، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافة عام 1996، وفي 1996، منحت الدولة جائزتها التقديرية في العلوم الاجتماعية للسيد ياسين.

كما شغل السيد ياسين عضوية المجلس الأعلى للثقافة، وظلت مقالاته تزين جريدة الأهرام العريقة بشكل أسبوعي، وعدد آخر من الجرائد وشهدت فترة التسعينات والألفينات مقالات مدوية من السيد ياسين، يحذر فيها من خطر الفكر الإخواني الذي عرفه ودرسه. 

وضع المفكر الراحل الشروط الواجب توافرها في الدول الديمقراطية محددا مكانة العرب من تلك الشروط، فقد كان من المهمومين بقضايا السياسة والفلسفة، وقال: "إن أسس الديمقراطية التي تمثل منظومة متكاملة تتألف من مفردات أساسية، إن لم تتوفر لا يمكن القول أنها النظام السياسي ديموقراطي"، جاء أول تلك المبادئ "السيادة للشعب"، وهو تعريف بديهي ومشهور للديمقراطية لكن العالم العربي ابتلي بالجماعات الإسلامية التي وقفت تجاه المبدأ لتعلي من مبدأ "الحاكمية"، وفي ذلك الإطار ترى بعض الجماعات الإسلامية أن لفظ المشرع الذي يستخدم في القانون الوضعي والفقه الدستوري ويقصد به الهيئات المنوط بها عملية التشريع بحكم الدستور والقانون مسألة ضد الدين، ولذلك نشأ صراع بين أصحاب الدولة المدنية وأنصار الدولة الدينية.  

بينما كان الأساس الثاني أن تتشكل الحكومات بناء على رضا المحكومين، فإن الأنظمة التي تقوم على أسس الاستبداد والسلطوية تستدعي قيام الشعوب ضدها لازالها عن المشهد، مما يدخل البلاد في نفق الحروب الأهلية عندما يمتنع النظام عن الاحتكام للديمقراطية، وإنه في حالات عديدة وفي مجتمعات عربية متعددة مثل الأردن والمغرب والجزائر، قامت هبّات جماهيرية شعبية اتسمت بالعنف الشديد في بعض الأحيان ضد الحكومات.  

يأتي الأساس الثالث في رضاء النخب السياسية بالتنازل عن الامتيازات الطبقية التي تتحصل عليها عند الوصول للحكم لتحقيق مبدأ المساواة الشعبية، وتُعتبر ضرورة احترام حقوق الأقليات من أهم الأسس الديمقراطية، وإذا نظرنا للفكر السياسي العربي في هذا المجال سنكتشف أنه فشل فشلا ذريعًا في صياغة نظرية قومية عامة للتعامل مع الأقليات غير العربية في المجتمع العربي. ذلك أنه لدينا أقوام غير عرب، مثل الأكراد في العراق، والمارونيين في لبنان، والبربر في المغرب، والجنوبيين المسيحيين في جنوب السودان. ولذلك تحتاج إقامة النظام الديموقراطي إلى حوار فكري فعال بين أنصار مختلف التيارات الإيديولوجية في المجتمع العربي للوصول إلى توافق حول هذه المسائل الأساسية. 

رحل سيد الباحثين والمفكر الكبير السيد ياسين عن عالمنا صباح يوم الأحد 19 مارس عام 2017، بعد أن ترك إرثًا ثقافيًا ومعرفيًا وفلسفيًا كبيرًا أثرى المكتبة العربية.

    الاكثر قراءة