الإثنين 20 مايو 2024

طفلان يكبران معاً

فن31-10-2020 | 17:34

أبى تزوج أمى "رجاء خليفة" وهى صغيرة جداً. اعترفت لى مرة أنها كانت تحبه، وتعبيراً عن حبها كانت تترك اللعب فى الشارع هاربة إلى بيتها على بُعد أمتار من بيته، عند عودته من نجع حمادى. لم أكن أعرف أن من تربينى طفلة. كانت طفلة تحمل طفلاً.


الاثنان ينتميان إلى عائلة واحدة، والمنزلان مفتوحان على بعضهما رغم الأمتار والمنازل الأخرى التى تفصلهما. تزوجت فى الثالثة عشر، وهذا يعنى أنها تأخرت قليلاً عن جدتى، التى تزوجت فى التاسعة. السنوات الـ13 هى المسافة الزمنية التى تفصلنى عن أمى.


كانت أكبر أخواتها، ومضى جدى غير عابئ كثيراً بحملات تنظيم الأسرة، ليمنح العالم سلالة من الرجال والنساء.


 كنت أحمل خالتى الصغيرة على كتفىّ، وأسير بها فى شوارع القرية. أذهب بها إلى أقرب بقال لأحضر لها العصير والبسكويت، وكنت لا أعدم مقابلة أشخاص مندهشين من المشهد. يسألنى ذلك الشاب الذى وصل بالكاد إلى الأربعين عنها فأقول إنها خالتى، فيفتح عينيه باندهاش عظيم، بينما يمسك بيد حفيده الأول وربما الثانى.. لقد وصل إلى سن الحكمة، ومن الصعب أن يرى نفسه صغيراً.


لم أعرف أن ملامح أمى تعنى أنها صغيرة وأنا فى القرية. الطفل يرى الأم كبيرة، ولكن فى نجع حمادى استطاع المعارف والجيران ومن نتعامل معهم أن يجعلونى أنتبه. كان الدكتور مكرم ظريف معجباً بطاقة تلك الفتاة، التى ترعى أخواتها الأربع، قبل أن يكتشف فى وقت متأخر جداً أنهم أبناؤها، وسينضاف إليهم أحمد الخامس الصغير.

 كان يقول لها عنى "صدر أخيك زى الكمبيوتر ميتحملش التراب، متخلهوش يلعب فى الشارع"، وكانت لا تصحح له المعلومة. الصيدلى أمين نصيف هنتر كان قريباً منا أيضاً. كان يمسك الروشتة ويقرأ جيداً، ويرتسم على وجهه تعبير يعنى أن هناك شيئاً ناقصاً. لم تكن كل الأدوية متاحة، وفى حالات يسافر البعض إلى أسيوط لصرف الروشتة، أو للمرور على أساتذة الجامعة. نصيف كان يغيب فى مخزن صغير ملحق بالصيدلية، ويعود واضعاً معظم الأدوية على المكتب أمامه. يحك أنفه، أو يجفف مقدمة رأسه الأصلع، أو يعدل نظارته الطبية، ثم يقول "سدقينى (صدقينى)، الدواء شاحح، ساعة كمان ابعتيلى أخوكى، أكون اتصرفت". نسير فى شوارع النجع، وأتطلع إليها من أسفل. المرأة الفارعة الطول لا تبدو صغيرة فى نظرى حتى الآن، فمتى فهمت أنها صغيرة جداً على أن تصبح أمى؟


أمى ملأت المنزل بخمسة أطفال، غير إخوتى الذين توفاهم الله قبل أو بعد ولادتهم مباشرة. أراد أبى تسميتى بأيمن، غير أن جدى تدخَّل لحسن الحظ وقال إن اسمى سيكون "الحسن"، لكنهم أسقطوا بالخطأ "ال" من اسمى، لحظة تسجيلى، وهو ما سيحدث مع حسين أخى بعد عامين، وهكذا فإن العالم تآمر على حلم جدى بتسميتنا "الحسن والحسين". حتى مرحلة قريبة كان حسين شديد الشبه بى، وكنت أستخدمه فى مقابلة بعض الرفاق الذين كان صعباً عليهم التفريق بيننا. لم يكن حسين، ثرثاراً بقدرى، لم يكن لسانه يزلُّ بكلمة تكشف شخصيته، ولا أحد يتضايق، وهكذا كانت الخطة تنجح، أستطيع مقابلة الجميع سواء بنفسى أو ببديلى.


كنت أساعد أمى العصبية دائماً فى كل شىء. فى غسل الأطباق، وفى كنس الشقة ومسحها، بعد انتقالنا إلى نجع حمادى. كنت ترزياً أيضاً أخيط الأزرار التى تسقط من القمصان أو الجواكت، وكنت أطبخ، وأشترى كل شىء، ولكن أسوأ ما كانت تفعله معى أنها كانت مترددة. كان الحل الأول أمامها أن أعود إلى الشارع لأستبدل شيئاً لا يعجبها، أحياناً كنا نذهب إلى محل مينيفاتورة وبعد أن يعرض التاجر القماش أمامها، مفرغاً كل الأرفف تقريباً، تتركه، مع أن البضاعة واحدة، فى جميع المحلات. كنت الطفل الأكثر إحراجاً فى العالم.. ومع هذا حينما كانت تغضب منى كنت أشعر بأن العالم انتهى، أو كأنه تحول إلى خراب.. وكانت أفضل لحظات بالنسبة لى حينما ألمس حنانها فى مرضى. لا تنام تقريباً حتى تطمئن علىَّ.. وكان سفرى بعيداً هو الفرصة الأولى لأعرف حجمى العظيم بالنسبة لها، ولأتيقن أيضاً أننا هذان الطفلان اللذان يكبران معاً.