التجديد أمر مهم وحيوي تعيشه الإنسانية بشكل
عام، ولا يُعقل أن تظل الأمور ثابتة، فالتجديد أساس الحياة وأساس الوجود، وعدم التجديد
يؤدى إلى الانزواء والتواري والاندثار، وفى عالم الكائنات الحية نجد أن كائنا مثل الديناصور
انقرض من الحياة، والسؤال لماذا انقرض؟ الإجابة عند العلماء أنه لم يتمكن من أن
يطور ويعدل من نفسه وفق الظروف المستجدة, وبقي على جموده, فكان لزاما انقراضه
واندثاره، لعدم قدرته على مسايرة الواقع المتغير والمتطور؛ لكن هناك أيضا الإجابة التي
يمكن أن تأتينا من أصحاب الثبات والجمود، أن الانقراض كان بسبب الإرادة الإلهية، فالإرادة
الإلهية وضعت لها نهاية، فالمشيئة الإلهية هي التي تفسر لنا ذلك الأمر ولا اعتراض
على إرادة الله ومشيئته, وهنا تجد نفسك لا تتحدث ولا تقول أي قول لأن الأمر منتهٍ
ولا يصلح أي جدال أو نقاش، لأنك في تلك الحالة سوف توصف بألف وصف، وربما يباح دمك
لمجرد أنك تكلمت، لذلك عندما تسمع من يقول لك .. قال الله وقال الرسول , يكون
الأمر نهائيا, وينغلق باب العقل والحديث والنقاش.
إن تأمل الواقع العربي
المعاصر يجعلنا ندرك، بل ونتيقن، أنه أصبح من المحال لتلك الأمة أن تبقى بدون الوعي
التاريخي المنفتح على واقع العصر والمنفتح على كل ما تموج به الساحة العالمية من
متغيرات ومفاهيم وقوى وقدرات، وعندما نتأمل واقعنا المعاصر نجد أننا نتخندق
ونتوارى خلف أسوار ومتاريس نظن أنها تحمينا من سطوة الواقع المعاصر، الواقع
المعاصر يحتاج لقدرة على التعامل والمرونة والاعتراف، يحتاج للمرونة الفكرية أي أن
كل شيء نسبي ويحتمل الصواب والخطأ، يحتاج منا الاعتراف بالآخر بما هو عليه وليس
لما نريده أن يكون, وإذا كان هذا الآخر يمتلك القدرة والوسائل والإمكانية، فمن الضروري
أن نجد السبيل والطرق التي تمكننا من أن نتعامل معه, فلابد أن عقلك وسائر القدرات والإمكانيات
قادرة على ذلك، لكن المأساة أنك تتمترس خلف خنادق من التراث ومتاريس المنقول
والعنعنى، وتعتقد وتتخيل وتتصور أنك الأقوى وأنك الأفضل وأنك أفضل منه، بل إنك أفضل
أمة وُجدت على الأرض.
والسؤال هل هذا يُعقل؟
وهل بتلك الطريقة تتمكن الأمة العربية الإسلامية من البقاء؟
وإذا كان هناك من
يقول إن التجديد لا يكون في التراث .. ومن يريد أن يجدد فيكون في بيت أبيه, هو حر
يغيره ويجدده من الطوب اللبِن إلى الطوب الأحمر والمسلح "هو حر" !
والسؤال هل يُعقل أن
يكون كل دور الأجيال تكرار الموروث دون المساس بأي شيء فيه؟ والسؤال هل ما كان في الماضي
وما كان يصلح للماضي هو الصالح لكل زمان, وهل فهم العقل الماضي ينسحب على الفهم
المعاصر والمستقبلي؟ بأي منطق هذا؟ هذا منطق لا يمكن لعاقل أن يحتمله.
إذا تصورنا ذلك الأمر،
فمعنى ذلك أننا نقرر أن العقول الماضية كانت أفضل في الفهم والإدراك، وأن
المعاصرين لا يمكنهم الوصول إلى مقدرتهم في الفهم والإدراك، معنى ذلك أننا نقبل كل
ما وضعوه بوصفه أنه الصحيح والحقيقي والذي لا ينبغي لنا أن نخرج عنه معناه، أننا سلمنا
باستاتيكية الذهن المعاصر، وعليه أن يتقبل كل ما وصل إليه من فكر السابقين
واعتباره الأفضل الذي لا يمكن للمعاصرين أن يصلوا لمثله، وتلك طامة كبرى، وهذا الأمر
يفسر لنا كل الكتب التي تتحدث فيما هو ديني وتراثي, فنجده مجرد نقل عن السابقين
وعن الأولين وعن فلان وعن فلان عنعنات لا أكثر، ونجدهم يصفون أنفسهم بأنهم علماء
!! أمر غريب علماء في أي شيء؟ مجرد نقل وترديد عن فلان بن فلان وعن ...إلخ، فأي
علم هذا ؟ لا أدري؛ ورغم ذلك تجدهم يعيشون في حالة من الارتياح والتضخم على اعتبار
أنهم أفضل من كل ما هو معاصر، لأنهم وحدهم من يمتلكون اليقين والحقيقة، فالمطلق
لديهم وعلمهم العنعنى لديهم، وما عدا ذلك فلا قيمة له.
ونذكر هنا موقف
المستشار أحمد عبده ماهر من الأزهر ومناهجه، فهو يرى أن مناهج الأزهر تحض على
التطرف، وفى حوار له يرى أن داعش والأزهر صنوان لهدف واحد, ألا وهو تأصيل الفكر
التراثي: إقصاء وازدراء المخالف والكراهية والعنصرية ضد الأديان الأخرى وضد
المرأة، الأزهر لا يستحي أن يدرّس دمويته في كتبه ومناهجه، هدم الكنائس وقتل المرتد
وقتل تارك الصلاة وقتل الأسرى وأخذ السبايا، الأزهر يدرس وداعش يطبق.
ومن بين الأمثلة التي
يوردها ماهر على (شذوذ المناهج الدراسية للأزهر) على حد تعبيره – كتاب: "الإقناع
في حل ألفاظ أبى شجاع" (الذي يدرس في ثانوي أزهري) وكتاب: "الاختيار
لتعليل المختار", وكتاب : "الروض المربع في شرح زاد المستنقع".
ونذكر بعض الآراء
والفتاوى والمواقف للمتسلفة، وفيها نجد أن الأمر يحتاج لإعادة النظر وبيان كم هم
يمثلون خطرا على المجتمع, ومن هنا نحتاج إلى التجديد.
·
يجب إعادة الرِق لعلاج الفقر والعزوبية !
·
لحوم الجن حلال !
·
التداوى ببول الإبل والحجامات سنة مؤكدة !
· السيدة خديجة - رضي
الله عنها – خدعت أباها بإسكاره بخمور لتتزوج برسول الله (صلى الله عليه وسلم) !
·
يجوز للزوج مضاجعة (جماع) زوجته الميتة قبل دفنها بست
ساعات !
·
النقاب للنساء فرض !
·
لا يجوز السلام على الكافر – ولو كتابيا من اليهود
والنصارى.
·
القول بعدم تكفير اليهود والنصارى كفر.
·
الأرض ثابتة لا تدور .
وهناك
الكثير والكثير، ولكن تلك أمثلة سريعة لنرى كيف يتم التفكير, ثم تجدهم لا يؤمنون
بالتجديد والتحديث.
إعادة
التفكير .. أمر ضروري :
نحن في حاجة إلى إعادة
التفكير فيما نحن فيه، علينا أن نقوم بإعادة بناء وإعادة الرؤية والتقويم في كل
القديم, أقصد التراث، علينا أن نعيد بناء الرؤية تجاه علوم النقل وعلوم العقل،
علينا أن نسأل أنفسنا هل نحن في المكان الصحيح .. وهل نحن في مكانة علمية محترمة
ومقدرة، أم أننا في حالة تخلف بيّن نقتات على علوم الآخرين.
إن الرؤية الحقيقية
والصحية والصحيحة أن الأمة العربية الإسلامية في حالة من التخلف بل والانحطاط،
ورغم ذلك نجد من يتشدق بالقديم والتمسك بالقديم حتى لا يكلف نفسه النظر ويسأل هل هذا
القديم يصلح لمتطلبات العصر أم لا؟
إننا في حاجة إلى إعادة
النظر ونحتاج نهضة جديدة تعتمد على إعادة النظر في هذا الكم الهائل من التراث، وأنا
لا أقول برفض التراث كما يحلو للبعض أن يقول .. فهناك من يقول علينا بإلغاء التراث
وأن ننخرط فيما هو معاصر, ونسير في ركب الحضارة الغربية، أنا لا أتفق بشكل كامل مع
هذا الرأي، لكن في الوقت نفسه لا يمكن أن نركن إلى فكر القدماء ونرفض أي تجديد، بل
نقوم بتقديس ذلك القديم تحت مقولة إن التراث هو الهُوية الحقيقية لنا، هذا كلام
غير معقول، وعلينا أن نفهم أن فكرة الهُوية فكرة متفاعلة وليست بالشيء الجاهز الذي
نشتريه أو بضاعة نمتلكها, ولكنها أمر يتكون ويتحدد ويتبلور وفق التفاعل والتبادل
والجدال مع كل ما هو قائم, إن الهُوية الحقيقية تتحدد وفق ما نقدمه للبشرية، ولن
يكون لنا هُوية طالما أننا نعيش على استهلاك منتج الآخرين والأخذ منهم دون أية إضافة.
وعلينا أن نشير إلى أمر
مهم ينبغي أن نلتفت إليه إذا كنا نريد الفهم، إن التراث لا يعنى النص والوقوف عند
النص والتعبد والتقديس للنص, إنما المقصود فهم البشر لذلك النص في زمان ما, وفى
مكان ما، وكيفية استخدام ذلك الفهم وكيف وُظف وكيف تمكن ذلك النص من حل المشكلات
والمتعارضات والمتناقضات، وفى الوقت نفسه كيف لذلك النص أيضا أنه أوجد المشكلات والمتعارضات،
بل والنزاعات والحروب؛ أيضا ذلك النص في زمن ما .. ومكان ما .. لا يعنى أنه أمر
جامد ومحفوظ وأنه في تلك اللحظة اكتسب كل كيانه الذي لا يمكن تغييره أو تبديله أو
معارضته، فالتراث حصيلة فهم وإدراك لمجتمع في مكان معين وزمن معين، وما كان ليس حتما ولا ضرورة أن يكون، ومن العته الذهني
أن نتخيل أن ما قد كان يمكن أن يكون، لأن ذلك ضد طبيعة الحياة والوجود والإنسان.
موقفنا من التراث تأملي،
وهل نأخذ العبرة من السابقين، كيف تمكنوا أن يواجهوا مشكلاتهم وكيفية حلها، الأمر
نفسه: هل من الممكن أن نجد في التراث ما نتمكن به من مواجهة واقعنا المعاصر بما
يتوافق لما هو قائم وليس انسحابا من القائم والآني للعودة إلى الماضي والذي كان؟
إن التراث عملية
ثقافية مرنة مرهونة بظروف العصر والمكان, أما الظن أن التراث أمر محفوظ داخل خزانة
حديدية وعليها حارس نطلب منه مثلا موقف التراث من المسألة الخاصة بكذا، فيخرجها
لنا لننفذها فهذا عته ذهني، مما يؤسف له أن هناك من يظن ذلك، ومن ثم لا يؤمن بالتجديد
ولا بالحداثة ولا بأي شيء, وتلك هي المأساة.