الإثنين 1 يوليو 2024

حمار محروس فيّضٌ القصِّ الواقعي.. نبْضٌ السّرد المفصَّل

فن31-10-2020 | 19:08

ثمة عدد من مبدعي القص المنتمي إلى جيل السبعينيات ما زالوا محلقين في فضاء القص الكلاسيكي بقدراته الجمالية والإبداعية ممن لا يزال مهتمًا بشكلانية القص المفصل في إيقاع حركات سردية قائمة في حدّ ذاتها معتمدة على قوائم مشهدية، تكثر فيها استطرادات الراوي في نطاق التداخل الحر والمباشر مع أحداث حكايات ومرويات تتضافر فيما بينها لتشكل واحدًا من نماذج القص الذي يفيض بواقعيته الزمكانية في حالة من أهم حالات الوهج السردي المتدفق تفصيلاً وحيوية ومهارة.


ولا أكون مبالغاً في شيء، إن أشرت إلى أن القاص المخضرم "محمد خليل" واحدًا من أهم قصاصي التفعيل والتداخل مع مشاهد الحياة وتفاعل أبطاله مع أحداثها ووقائعها وهذا ما بدا واضحًا في مجموعته القصصية الأخيرة "حمار محروس" الصادرة عن اتحاد كتاب مصر في طبعتها الأولى عام 2018م


قامت المجموعة على عشرين قصة من ذلك النوع السردي الجميل والمتقن في إحالات إلى مشاهد زمكانية الواقع بألوانه البيضاء والسوداء حيث الراوي المتحرك على محور الضمائر التي تتحرك بحرية في فضاء قصص حمل كثيرًا من النباهة التناولية والذي يؤسس لمنظور سردي تفصيلي كامل ومؤطر في حدود مشاهد راويه الذي أخذنا إلى عازف الريكوردر في ثلاث متواليات سردية كشفت المتوالية الأولى عن ظروف بطله المادية المتعثرة وحزنه على وفاة والده وشغفه بالعزف على الريكوردر مما دفع صديق فى المتوالية السردية الثانية لأن يشغل قدراته في العزف ويقف في أحد الشوارع ويعزف أمام الناس الذين سيستمتعون بفرق ولن يبخلوا عليه.


-ولماذا لا يسخرون منى أو يتندرون يا فالح؟


-ما تقوله يحدث مع الهواة والبهلوانات إنما الموسيقى .. جرب، أهه تقصد وسيلة جديدة للتسول.


في المتوالية الثالثة يختار مكاناً جميلاً قريباً من حديقة عامة، خلع الكاب ووضعه على الأرض، أخرج الريكوردر وراح يعزف ألحاناً في منتهى الروعة والجمال، فوجئ بصبى صغير يقف في مواجهته مشدودًا إلى عزفه، طال جلوسه بالقرب منه أما المارة منهم من يقف ومنهم من يتابع دون اهتمام توقف شاب أنيق ينصت بهدوء أخرج ورقة مالية ورماها في الكاب ومضى ،نظر الصبى في الكاب أكثر من مرة ثم قرر أن ينهى تجربته أخذ الورقة المالية، طوق الصبى بذراعه ومضيا وهو يوجه له بهدوء وحنو بعض الأسئلة بينما كان باقي الأطفال يتبعونهما. ص8.


وفي جانب آخر يتداخل الراوي مع كثير من الأحداث المشهدية يلتقطها في بيت نار الفرن الذي رمى صاحبه المفتش الذي يدقق وزن الأرغفة طعام فقراء هذا البلد وبالاتفاق مع العمال يجر المفتش إلى خناقة تقع بين المفتش وبعض الناس وتدخل العمال مظهرين رغبتهم في فض النزاع أغلق صاحب المخزن باب الفرن وراح العمال يضربونه ، تعالى صراخ المفتش وبينما نجح الناس في تحطيم باب الفرن أصدر صاحب الفرن أوامره أن يرفعوه ويقذفوا به إلى بيت النار فوق الأرغفة. 


أما القصة التي حملت عنوان المجموعة "حمار محروس" فتحيلنا إلى محروس الذي قايض حماره الضعيف الهرم بحمار صغير قوي البنية ولذلك كانت سعادته به لأنه سيكون أسرع إنجازًا لأحماله من الحمار القديم .

ومحروس شخصية غريبة طويل القامة واللسان يطلق عليه خبثاء القرية "العربجي المثقف" يتداخل في السياسة ويعلق بأفكار تغيظ بعض المتعلمين والمثقفين.


جاء الحمار القوي وانتعش محروس وراح يبذخ على أولاده متمنيًا أن يكون أحدهم طبيبًا بيطريًا حتى يرحم زملائه من ميزانية الأطباء البيطريين ومن فرط سعادته كان يغني أثناء سيره ويوزع ابتساماته وتحياته على من يمر أمامه، كما ازدادت حواراته السياسية ويصبح يومًا ليرى الحمار قد سرق فراح يندب ويصرخ وامتلأت القرية بخبر سرقة حمار محروس الغلبان طويل اللسان في السياسة، فهل سرقه المثقفون الذين يغارون منه، أم العيال بتوع المخدرات وتأتي المفارقة. 


عم محروس لقينا الحمار. 


-فين يا ولاد؟ 


- على شط البحر، لكن مدبوح يا عم محروس مافيش إلا الرأس والجلد. 


وفي قصة "رأيت فيما يرى النائم الصاحي" صور مشهدية لحال السوق وغلاء الأسعار وكيف انتصر الليمون الذي ثمن الكيلو منه أربعين جنيها على التفاح الأمريكاني الذي لم يزد على العشرين جنيها وكل ذلك في إحالة ساخرة إلى ذلك الغلاء الذي جعله يعود إلى البيت دون أن يشتري شيئًا مما أجج الخلاف بينه وبين زوجته وعلا الصراخ الذي جلب الجيران وبذكاء القاضي النبيه يدعى أنه خلاف مع زوجته التي تقول: إن ترامب مرسل إلينا من السماء ويساعدنا ويصلح حالنا ويحمينا من الإرهاب أما هو فيرى أن – هيلاري هانم – هي من كانت تستحق الفوز وأن الأمريكان ظلموها والعرب خانوها ودمروا فرحتنا في مساعدتها لنا ويدخلهم في حوار صاخب اختلفوا فيه معهم وشربوا جميعهم شاياً وعصائر وقهوة بنصف ما تبقى من سكر التموين وهما في منتصف الشهر وضحكنا جمعياً حتى كاد بعضهم يستلقون على أقفيتهم من الضحك ويطلبون الغداء. ص52


في القسم الثاني وعنوانه (الفرار إلى الله) يهرع الناس من الضيق والغضب واليأس والإحباط إلى الكافيهات والملاعب والمخدرات وبغتة أبرقت السماء وانشقت عن كائن طائر له شكل إنسان بالغ الفتنة والقوة، هتف بصوت قوي: 


- يا أهل مصر جئت إليكم من عند الله أساعدكم، استجاب الله لندائكم، أرسلني إليكم مفوضًا بالمساعدة في حل مشاكلكم، هللوا وكبروا شاعرين أنّ الله لم يتخل عنهم وسينزل لهم موائد من السماء تكون لهم نجاتًا من عنت التجار ورجال المال والأعمال والبلطجية واللصوص والمرتشين، صاحوا في الملك:


-البركة فيكم يا جلالة الملك، نادى فيهم: 


-أنا مفوض من الله للمساعدة فقط، عليكم التفكير وعلينا التدبير وراح يطلب المساعدة لإصدار قرار بتوزيع الأرض وتتعالى الأصوات نادى الملك فيهم بالهدوء، تبدد صوته في زعيقهم. 


في القسم الثالث وعنوانه (الملك يفرد جناحيه ويطير) ومن على باب السماء الأولى: يارب حاولت دون جدوى، يارب الأثرياء لا يريدون التنازل عن شيء، مما يملكون، توقف الملك عن الكلام وقال: يا رب أنت الواحد الأحد لك الأمر، أنت الأدرى بشؤون خلقك، ماذا أفعل يا رب؟ 


في القسم الرابع وعنوانه "الديك الطائر يصيح على الفلاح" توقظه زوجته من حلمه تدعوه إلى الصلاة كأنها تسحبه من عالم مسكون بالعفاريت الإنسانية، فركت عيني بأصابعي، كنت أنتظر أمر الله بالإصلاح، تهيأت للخروج إلى المسجد، أرعدت السماء وأبرقت هطلت أمطار غزيرة جداً، عبرت الشارع إلى المسجد الكائن أسفل إحدى العمارات أبوابه ما تزال مغلقة..  ص64


وفي "رشا في القطار" صورة مشهدية للشاعرة التي استقلت القطار إلى الصعيد لتشارك في ندوة حول يوم اليتيم في القطار تشاهد طفلاً صغيراً يوزع الحلوى على الركاب ويعود لجمعها وجمع ما يجود به الركاب عليه يستوقفها منظره تدعوه وتمنحه مبلغًا من المال ينزل في محطة تالية بدأت عجلات القطار تتحرك، ركض حتى وصل إلى النافذة التي تجلس جوارها وسألها بصوت عال اسمك إيه يا طنط؟ 


بصوت هامس بعد أن أخرجت بعض رأسها من النافذة: ماما رشا يا سعد. ص69 


ومثل هذه المشهدية الإنسانية القائمة على التأصيل والتفصيل نراها متجسدة في قمة إنسانيتها في قصة "كل يوم جمعه" ص72 كما تأخذنا قصة "عيش وبصل" إلى أصالة الإنسان المصري الفلاح البسيط الذي رمى من شباك القطار الذي يستقله جمال عبد الناصر بصرة أفزعت الرئيس وحرسه ومرافقيه ولما فتحوها وجدوا فيها رغيف خبز وبصلة كبيرة، يكتمون مشاعر متباينة لكن الرسالة كانت وصلت للرئيس.  ص76


لم تخل قصة من قصص هذه المجموعة المتميزة من حس إنساني ووطني في إحالات واضحة المعالم إلى التأصيل والتفصيل في بنيات القصص من خلال: 


1- قوة اللغة في تحريك دلالات القص والإشارة إلى نباهته. 


2- مستويات الرمز التي توزعت ما بين نقد لاذع وسخرية سوداء لما خلفته المواقف والأحداث في سلبيات اجتماعية وسياسية واقتصادية.


3-مهارة تحريك الشخصيات سواء على مسرح الأحداث أو على مستوى نوازع كل شخصية وهي تفرد ما يتأزم في داخلها سواء في حالة الرضا والقبول أو الرفض.


4-اتساع المساحة المكانية للقصص المتوزعة على أماكن مختلفة حيث يمثل المكان بنية أساسية في النصوص والزمان يظهر ويختفي على حسب رؤية السارد ولكنه يمثل صورة مادية أحياناً ومعنوية أحيانًا.

يشير ذلك كله إلى قاص مخضرم ما زالت بصماته الإبداعية صاحبة حضور متألق في الحراك القصصي العربي المعاصر التي تشير إلى حرفية في السرد ومكنه في التناول وخبرة في توظيف الأحداث وعظمة في مسك خيوط القصص وانتباه واع إلى مداخل القص سواء على مستوى السرد أو الحوار أو الحبكة التي تنبض على دراما التأصيل والتفصيل في أعلى مستوى من مستويات براعات الصياغات الفنية العالية المستوى في كل شكل من أشكال التنازل الفني والتقني والموضوعي.