الجمعة 31 مايو 2024

أمي..الشجرة التي أظلتنا

فن31-10-2020 | 19:19

عندما أكتب عنها.. حقيقة يعجز القلم.. فمن أين أبدأ وماذا أقول، لأنه من المحال أن يعبر اللفظ عن كل معاني العطاء، فأمي هي الوتد الصامد أمام كل صعوبات الحياة.

تداعت الدنيا من حولنا مرارا، ولم يكن ثمة أمل، وكاد اليأس يمزق شملنا ويمحو كل أمل في مستقبل يحنو علينا، فكانت تنظر إلينا، إلى نبتتها الصغيرة، تحوطها بذراعيها ولسان حالها يقول: "ربنا كبير..بكره أحلى".

لا تعرف القراءة والكتابة، إلا أنها عرفت للعلم قيمته، فأثناء عملها في البيت وفي غيابنا، إذا رأت ورقة ملقاة، كانت تحتفظ بها لحين عودتنا، وتسأل: هل هي مهمة أم لا؟ فعلمتنا قيمة الورقة وقيمة الكلمة.

كانت أسرتنا تتكون منها وأبي وخمسة أطفال، مع ضيق ذات اليد، وبحكمتها التي حباها الله بها، كانت كأحسن خبير اقتصاد، فكل مليم كان بحساب، وما حيلتها وملاليمنا قليلة.

علمتنا القناعة، وألا ننشغل بما في يد غيرنا، فنحن دائما أحسن حالا من آخرين، وألا نأكل لقمة في بيت أحد، مهما كان من ذوي قربانا.

علمتنا احترام المعلم، فهو لا يخطئ في نظرها أبدا، والويل لمن يشكو منه أحد المعلمين، وكانت تتابع تحصيلنا أولا بأول، لا خروج بعد صلاة العشاء، ترقبنا أثناء استذكارنا دروسنا، ومحال أن تغفل عيناها عنا، وكانت كلمتها المحفزة لنا التي لا تمل ترديدها "مسكة القلم أحسن من مسكة الفأس، لا تنظر لزميلك فلان فعندهم أرض فإذا فشل فعنده أرضه يزرعها أما انت فلا".

كان طموحها وهي الفلاحة البسيطة أبعد ما يكون لنا، كانت ترى فينا حاضرها ومستقبلها، أذكر يوما في طفولتي، أن رأيت بعض أكواب وأطباق قليلة –لم تستعمل من قبل- كانت تحتفظ بها في مكان خاص، فسألتها: لم لا نأكل ونشرب فيها، فكانت إجابتها حروفا من نور لن أنساها ما حييت: "دول لما تكبروا وتدخلوا الجامعة تاكلوا فيهم مع زمايلكم"...يا الله..ما لهذه المرأة العجيبة، من أين لها بهذا الحلم والطموح الغريب، ومن كانت في ظروفنا تسعى لتعليم أبنائها صنعة ينتفعون بها.

  عندما كنت أذهب للامتحان في الجامعة، كانت دعوتها لا تفارقني حتى أعود إليها: "ربنا ينور طريقك انت واللي زيك".

    في إحدى الندوات جاءت جلستي بجانب "ريم" ابنة عمنا "خيري شلبي" مؤلف مسلسل الوتد، فمازحتها: "تعرفي يا ريم إن إحنا قرايب، عمنا الله يرحمه كتب عن أمي فاطمة تعلبة مسلسل الوتد"، فضحكت وقالت "يا مصطفى هوا انت من شباس عمير بلد فاطمة تعلبة" قلت لها "لأ ولكن أمي هي فاطمة تعلبة في نصها الحلو طبعا"، ولم لا؟!..وهي التي جمعتنا حولها صغارا وكبارا، ومن المستحيل أن يعلو صوت صغيرنا على كبيرنا، في حضرتها وفي غيابها، أذكر مرة هاتفني أخي الكبير" حسين" وكنت مع أصدقاء لي، فلاحظ أحدهم أنني طيلة المكالمة لا أناديه باسمه بل "يا باشمهندس" فسألني متعجبا، فقلت له: "هكذا علمتني أمي".

عندما عملت في الصحافة، وبدأت أظهر على شاشات التليفزيون، كان أكثر شخص يهمني رأيه هي أمي، سألتها يوما: "بتحسي بإيه وانت شايفاني في التليفزيون"، فأمتعتني إجابتها: "بحس إن تعبي ما رحش هدر وإن ربنا كبير".

أسمعها قبل صلاة الفجر وهي تدعو لنا، فأدخل منحنيا على يديها أقبلها، فتأتيني ابتسامتها بنكهة الصباح الباكر واللبن الحليب.

كانت وأبي –رحمه الله- يبذلان جهدهما لإسعادنا، فكانت نعم السند له طيلة حياته وبعد مماته، مخلصة وفية، وكان نعم الأب، يحمل بداخله طيبة تحوي العالم كله، علمنا حب الآخرين، ومعنى الفداء والتضحية، كان من أبطال حرب أكتوبر المجيدة، كل عام كان يوم 6أكتوبر عيدا خاصا في بيتنا، يحكي لنا فيه عن استشهاد قائد كتيبته البطل أحمد حسن، ومن عجائب القدر وما يدل على قرب هذا الرجل من ربه، أنني في عام وفاته كنت أجري حوارا صحافيا مع أحد أبطال حرب أكتوبر، فالتقيت مصادفة مع "نهلة" ابنة الشهيد أحمد حسن، فأخبرتها بأن أبي كان أحد أفراد تلك الكتيبة وكان حاضرا لحظة استشهاده، وحينها هاتفت أبي وعرفته إليها فكانت من أسعد لحظات حياته –رحمه الله- وتمت استضافتهما -أبي ونهلة- في  القناة الأولى والثانية من التليفزيون المصري، ليتحدثا عن هذا اليوم العظيم، وبعدها بفترة وجيزة مات أبي تاركا جرحا ينزف بداخلنا، وفي يوم العزاء هاتفتني نهلة وكانت لا تعلم فوجدتني أبكي وعندما عرفت فقدت بموته أبا عزيزا عليها، نعم فقد كان أبي كذلك-رحمه الله.