الأحد 30 يونيو 2024

فن الحرب .. باللون الأحمر

فن31-10-2020 | 19:26

فى العقد الأوَّل من القرن الحادى والعشرين، وفى واحدة من بلدان أوروبا الشرقية، التقى رجلا مخابرات إيرانيان بجماعة إرهابية، وتبادلت المجموعتان حقيبتين، الأولى كانت تحوى سبعة ملايين ونصف المليون دولار أمريكى، والثانية كانت أصغر حجماً، التقطها رجلا المخابرات، وفحصا محتوياتها فى سرعة، ثم أغلقاها، وانطلقا بها مباشرة إلى المطار؛ ليستقلا الطائرة إلى طهران، وهما يشعران أنهما قد فازا بكنز، أريقت من أجله أنهاراً من الدم، على مدى عقود ... فداخل تلك الحقيبة الصغيرة، لم يكن ذلك الكنز سوى قنينة صغيرة تحوى عشرة سنتيمترات مكعبة من سائل أحمر اللون، ثقيل القوام، المفترض أنه ذلك الحُلم، أو الأسطورة التى سعى الملايين خلفها لعقود ... الزئبق الأحمر ..


وقبل أن يسرح بكم الخيال بعيداً، وقبل أن ترسم أذهانكم صوراً، وتروى عقولكم حكايات، لابد وأن نكمل أن رجلى المخابرات الإيرانيين، وخلفهما جهاز مخابراتهما كله قد وقعوا فى هذه العملية ضحايا خطة نصب دولية مبتكرة استندت إلى أسطورة لم تثبت صحتها أبداً حتى لحظة كتابة هذه السطور، على الرغم من كل ما يحاك حولها من قصص وروايات وخيالات ... والواقع أنه هناك ملايين فى أركان العالم الأربعة يؤمنون وبشدة بأنه هناك ما يسمى بالزئبق الأحمر ... ولأنه تحوَّل إلى أسطورة، فالكل ينسب إليه قدرات خرافية، فى العديد من المناحى، من تسخير الجن وجلب الثروات، وحتى صناعة الأسلحة النووية، والسفر إلى مجرات بعيدة ... وككل الأساطير، يصعب كثيراً تحديد متى نشأت، ولا من أين انبعثت ..


ولكن بما أن اسم الزئبق الأحمر هو مرادف لدى الكل للزئبق الفرعونى، يمكننا أن نعود بالقصة إلى أربعينيات القرن العشرين، عندما تم كشف مقبرة القائد الفرعونى آمون – تف – نخت، وهو أحد كبار قادة الجيش المصرى، فى الأسرة السابعة والعشرين، ويقال إنه القائد، الذى صد غزو الفرس لمصر، وأنه عند موته تم تحنيطه بسرعة وداخل تابوته، بسبب وجود اضطرابات سياسية واجتماعية فى تلك الحقبة ... المهم أن الأثرى المصرى زكى سعد، قد عثر أسفل المومياء فى داخل التابوت على زجاجة تحوى سائلاً لزجاً بنى مائل للاحمرار، وتلك الزجاجة لا تزال محفوظة فى وعاء زجاجى، يحوى شعار الجمهورية فى متحف مدينة الأقصر حتى الآن ...


ومنذ كشف تلك الزجاجة، بدأ الحديث عن الزئبق الأحمر الفرعونى، وقدراته المدهشة، والذى يتسع انتشاره يوماً بعد يوم، وتقول وثائق مصلحة الآثار، إن العلماء السوفييت، الذين تواجدوا بكثرة فى مصر فى حقبة الستينيات، قد قاموا بدراسة ذلك السائل حتى جاء عام 1968م، عندما نشر الصحفى الإنجليزى جوين روبرتس تقريراً سرياً، كان قد أعدّه مدير الـ "كى جى بى" السابق بوجينى، والذى صار بعدها وزير خارجية الاتحاد السوفييتى، ملخصه أن السوفييت قد كشفوا فى وكالة دوبنا للأبحاث النووية، مادة تبلغ كثافتها ثلاثة وعشرين جراماً، وهى أعلى درجة كثافة أمام أية مادة أخرى، حيث إن البلوتونيوم النقى ذاته تبلغ كثافته عشرين درجة، مما يعنى أن تلك المادة يمكن استخدامها كبديل فعَّال للبلوتونيوم فى التخصيب النووى، وأن الجرام الواحد منها قد يساوى ثروة ..


من هنا علم الكل بأمر تلك المادة، وبالزجاجة الموجودة منها فى مصر، وتبلبلت أذهان العديدين، مما حدا بالرئيس جمال عبد الناصر آنذاك إلى إيقاف الأبحاث حول تلك المادة، على الرغم من أن تقرير بوجينى لم يربط صراحة بين المادة المكتشفة، عالية الكثافة، وبين الزجاجة الموجودة فى مصر، والتى أكدَّت تقارير الباحثين السوفييت، أنها لا تحوى أى زئبق على الإطلاق، بل على بعض المواد المستخدمة فى تحنيط القائد الفرعونى آمون – تف – نخت، ووصفوا محتوياتها بدقة بأنها تتكوَّن من ملح النطرون، ونشارة الخشب، وصمغ الراتنج، وبعض الدهون العطرية، وألياف الكتان، والزنتلينا، وبسبب أن التوابيت الفرعونية تغلق بإحكام، حدثت عملية تفاعل عبر آلاف السنين، نتج عنها لزوجة السائل، ولونه المائل للاحمرار ... وعلى الرغم من ذلك، انتشرت شائعة أو أسطورة الزئبق الأحمر الفرعونى على نطاق واسع للغاية، ولم تتوقَّف أو تتراجع حتى لحظة كتابة هذه السطور، بل صارت أعمق فى العقول، وأكثر انغماساً فى الأحلام، بعد أن صدَّق الملايين أنها تستخدم فى تسخير الجن، الذى يمكنه أن يحقق لهم كل أمنياتهم، ويرشدهم إلى كل خفى من كنوز الأرض ..


وفى عام 1995م، نشرت الصحف المصرية عمن أطلق على نفسه لقب المشعوذ التائب، وهو حامد آدم، الذى قال، أثناء التحقيقات التى أجريت معه، أمام النيابة بالنص: "هذه حقيقة وليست خيالاً، وأن الجان يطلب من كل مشعوذ أن يحضر له الزئبق الأحمر، الذى يتغذى عليه، ويطيل فى عمره"... وقال أيضاً: إن الزئبق الأحمر لا يكون له أى تأثير على الجان، إلا إذا حصل عليه عبر بشرى فقط، فإذا ما أحضر البشرى له الزئبق الأحمر أغدق عليه الملايين، وأموالاً لا حصر لها، ولقد نجح ذلك المشعوذ فى خداع المئات، وحصل منهم على أموال طائلة، دون أن يسأل أحدهم نفسه، لماذا يحتاج إلى أموالهم، لو أن الجن يغدق عليه الملايين كما يقول ؟!...


بعدها بسنوات، حدثت قضية نصب أخرى، كادت تسيء إلى العلاقات المصرية السعودية، عندما سمع طالب ثانوى من أحد المشايخ، عن قصة الزئبق الأحمر، وكان والده يعمل فى المملكة العربية السعودية، فاتفق مع أستاذه للكيمياء على تركيب مادة ذات لزوجة كبيرة، وتميل إلى الحُمرة، ولقد نجح فى بيع كمية منها بالفعل، قبل أن يكشف المشترون الخدعة، فتم القبض على الطالب ومدرس الكيمياء، ومحاكمتهما بتهمة النصب والاحتيال ... وربما كانت تلك المادة اللزجة هى نفسها التى خدعت رجلي المخابرات الإيرانية، كما ذكرنا فى بداية الموضوع ..


تلك الحادثة وقعت فى تسعينيات القرن العشرين، ولكن العديدين لا يزالون يسعون خلف الزئبق الأحمر، ويحلمون بامتلاكه، وينصبون باسمه أيضاً؛ والأسطورة ليست بسبب وهم تسخير الجن فحسب، ولكن لها جذور علمية أيضاً، فأحد العلماء الروس الآن، يقول الكثير عن الزئبق الأحمر، ويصفه بـ "أيوديد الزئبق"، أو "أيودات الزئبق"، وعلى الرغم من أنه لا يمتلك فمتوجراما واحدا منه، أو يجرى عليه ولو تجربة واحدة، أو حتى يراه بالعين المجرَّدة، إلا أنه يؤكِّد أنه باستخدام الزئبق الأحمر يمكن صنع قنبلة نووية، تبلغ عشرة أضعاف قوة تفجير قنبلة هيروشيما، فى حجم برتقالة !!... ولا أحد يدرى من أين جاء ذلك العالم بكل هذه الثقة التى دفعت الكثير من الدول، وحتى التنظيمات الإرهابية، للسعى خلف ذلك الزئبق الأحمر المزعوم، والتقاتل للحصول عليه، وإراقة أنهار الدم من أجله ..


ففى جنوب إفريقيا، انتبه لص سيارات إلى وجود سيارة حديثة متوقفة إلى جانبى الطريق، وإحدى نوافذها مفتوحة، وبسرعة، كان ينطلق بها مبتعداً فى طريقه إلى ورشة سيارات مسروقة، لبيعها وتفكيكها، مقابل بضع مئات من الراند، وهو العملة المستخدمة هناك، ولكن قبل أن تتم الصفقة، وعندما تم فتح حقيبة السيارة، فوجئ البائع والمشترى بجثة ممزقة تماماً داخل حقيبة، ومطلية باللون الأحمر، وكانت صدمة رهيبة لكليهما، والجثة كانت لعالم إنجليزى قضى عدة سنوات من عمره فى البحث عن الزئبق الأحمر واختبار خواصه، وربما لهذا السبب أساساً سافر إلى جنوب إفريقيا، حيث تكثر مناجم الماس والبلوتونيوم، وأشيع أيامها أن الرجل قد قتل لأنه حصل بالفعل على عينة من الزئبق الأحمر، ورفض بيعها، ولكن الشائعة لم تخبرنا من فعلها، وأين هى عينة ذلك الزئبق المزعوم الآن ؟!... ومن أفاد منها ؟!... والحكايات والألاعيب لا تنتهى فى هذا المجال، فلو تصفَّحت شبكة الإنترنت، ستجد عشرات من أفلام الفيديو والمقالات، التى تشرح كيفية استخراج الزئبق الأحمر، من ماكينات حياكة سنجر القديمة، وسيدفعك هذا إلى تساؤل لم يدر أبداً بخلد من سقطوا ضحية هذا، وهو كيف يمكن أن تحوى ماكينة قديمة ولو جراماً واحداً من الزئبق الأحمر الذى يساوى عدة آلاف من الدولارات بثمن بخس كهذا ؟! .. ووراء ما حدث، فى إحدى الدول العربية قصة طريفة نوعاً ما، وتعدّ حالة من الاحتيال الذى لا يعاقب عليه القانون، ففى تلك الدولة، لاحظ مدير مبيعات الشركة أنه لديه مخزونا كبيرا من ماكينات الحياكة القديمة، التى لم يعد يطلبها أو يقبل عليها أحد، بعد أن أنتجت الشركة طرازات أحدث وأكثر تطوراً، وبينما يمر فى قسم الصيانة والإصلاح، لاحظ أن الماكينة تحوى نوعاً من الزيوت، التى تعمل على تليين الحركة، له لزوجة كبيرة، ولون يميل إلى الحُمرة، فتفتق ذهنه عن لعبة خبيثة، وبدأ فى إشاعة أن تلك الماكينات القديمة، تحوى الزئبق الأحمر، وخلال أسبوع واحد فقط تهافت الآلاف على شراء الماكينات القديمة، مما أدهش الباعة، وأدّى إلى رفع سعرها، ونفاد كل الكمية، التى تملأ المخازن، وأكاد أجزم هنا، أن تلك الماكينات لم تستخدم للحياكة مرة واحدة، وإنما تم تفكيكها، وتمزيق أوصالها، بُغية الحصول على قطرات الزئبق الأحمر المزعوم داخلها، وأكاد أجزم أيضاً، بأن حالة الإحباط والغضب التى أصابت ضحايا تلك الخدعة، جعلتهم ساخطين بشدة، على مطلق الشائعة، ولكنهم لا يزالون يواصلون البحث، فى نهم وإصرار، عن الزئبق الأحمر، الذى صار شبيهاً بإكسير الحياة، أو نبع الخلود، الذى ورد فى أسطورة جلجامش ..


المدهش أن الأسطورة قد تعاظمت حتى سقطت دول وأنظمة كبيرة فيها، وبخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتى، فى بداية تسعينيات القرن العشرين، عندما أشيع (أيضاً)، أن العلماء الروس، قد نجحوا فى تهريب كميات من الزئبق الأحمر، وسيقومون بعرضها للبيع، مع طرق الإفادة منها ... هنا تهافتت أنظمة عديدة على العرض، وبدأ مزاد غير معلن، لمن يدفع أكثر، ثمناً لجرام الزئبق الأحمر ..


ولأن بعض العلماء السوفييت الفعليين، كانوا وراء اللعبة، إما بإرادتهم وطمعهم، أو مدفوعين من أجهزة مخابراتهم، فقد اكتسبوا مصداقية كبيرة لدى المشترين، الذين دفعوا الملايين لشراء كيماويات لزجة باللون الأحمر؛ ويعود عدد الضحايا الكبير لخدعة الزئبق الأحمر إلى أمرين ... أوَّلهما الانتشار الكبير والطويل لموضوع الزئبق الأحمر وقدراته فوق الطبيعية، إلى درجة منحه مصداقية زائفة، صار التشكيك فيها صعباً ... وثانيهما حُلم القوة والسيطرة لدى كل الأنظمة والتنظيمات وحتى الكيانات الإرهابية، وكثير من بسطاء الناس، الطامحين إلى الثروة والقوة، دون بذل جهد كبير لبلوغهما ..


ثمانون عاماً، منذ اكتشاف تلك الزجاجة، أسفل مومياء القائد آمون – تف – نخت، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، تكبر وتتعاظم أسطورة الزئبق الأحمر الفرعونى، وامتزج فيها الخيال بالحلم بالخداع بالكذب، ليشترك كل هذا فى صنع وصياغة واحدة، من أكبر وأشهر وأقوى أساطير الزمن الحديث ... أسطورة ذلك المعدن السائل، الذى طالما بهر الناس، منذ آلاف السنين، ولا يزال يبهرهم ولكن هذه المرّة ... باللون الأحمر.