بعد أن اتسعت الدولة العثمانية رويدًا رويدًا في أوروبا حتى بلغ أقصى اتساع لها عندما وصلت حدودها إلى فيينا، وأصبحت عاصمتها القسطنطينية بعد سقوطها عام 1453ه على يد محمد الفاتح، بدأت تولي وجهها شطر المشرق.
وبالنظر إلى الشرق، فنجد أنه كانت هناك قوتان عظميان، القوة الأولى الدولة الصفوية، وهي شيعية المذهب، وانتهى الصدام بينهما بهزيمة الصفويين في موقعة جالديران سنة 1514م، ودخول العثمانيين إلى عاصمتهم تبريز، وضموا الأناضول الشرقية، واحتلوا شمال العراق سنة 1515م، أما القوة الأخرى وكانت المهيمنة على العالم الإسلامي وهي سنية المذهب، فكانت دولة المماليك ومركز سلطانها في مصر، وتشمل الشام، اليمن، أطراف الجزيرة العربية، العراق الغربية؛ وعندما شعر السلطان الغوري بخطورة الموقف، بادر بالخروج على رأس جيشه إلى شمال سوريا وبالتحديد عند مرج دابق، حيث دارت معركة في أغسطس 1516م، وانتهت بهزيمة الجيش المملوكي، ولقى السلطان الغوري حتفه، وتمكن السلطان سليم العثماني من دخول حلب، وخطبت الجمعة باسمه في مساجدها؛ في الوقت ذاته، عادت فلول الجيش المملوكي إلى القاهرة في محاولة لاستعادة التوازن، ليتولى السلطان طومان باي مقاليد الحكم، ويبدأ في خطة الإعداد لمعركة رد الاعتبار.
وبوصول الجيش العثماني إلى حدود مصر الشرقية، أرسل السلطان سليم من يتفاوض مع طومان باي على تسليم مصر، مقابل تعيينه واليًا تحت الحكم العثماني، الأمر الذي رفضه طومان باي، الذي أصر على المقاومة ورد الاعتبار، ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وتلقى الجيش المملوكي هزيمة حاسمة فاصلة في الريدانية 1517م، ودخل السلطان سليم القاهرة، وتسلم مفاتيح القلعة، وبعد فترة وجيزة من الاختباء، قبض على طومان باي بالبحيرة وحكم عليه بالإعدام شنقًا على باب زويلة، إلا أن كلمات طومان باي الأخيرة تعكس مدى شجاعته وثقته بنفسه في لحظات الموت، حيث قال: (لولا أن دولتنا زالت وأدبرت، ودولتكم جاءت وأقبلت لما استطعت أنت ولا غيرك دخول بلادنا). ومنذ ذلك التاريخ 1517م، وقعت مصر تحت الاحتلال العثماني لما يقرب من 400 عام، حتى عام 1914 مع قيام الحرب العالمية الأولى، وإعلان الحماية البريطانية على مصر.
ويذكر ابن إياس مما رأه من بطش العثمانيين والأهوال التي تعرضت لها مصر والتي وصلت إلى اقتحام الأزهر الشريف، ومسجد ابن طولون، وجامع الحاكم، ومن مظاهر الأهوال الأخرى كما يصفها ابن إياس أيضًا سقوط 10 آلاف من عوام المصريين قتلى في يوم واحد.
أحوال المجتمع المصري:
وإذا نظرنا إلى أحوال المجتمع المصري نجد أنها انعكاس لهذه الطريقة الوحشية في الحكم والتي اعتمدت أساسًا على امتصاص دماء الشعب ونهب أمواله، بل وصل الأمر إلى تفريغه من الموهوبين لخدمة الباب العالي.
فنظام الحكم العثماني، يعكس حالة من الأوتوقراطية الشديدة، فتركزت السلطة في يد الوالي العثماني والمعين من قبل السلطان نائبًا عنه في حكم الولاية، ثم المماليك ممن أبقاهم العثمانيون للاستفادة من خبراتتهم السابقة في تولي بعض الوظائف التنفيذية مثل صناجق (حكام الأقاليم)، الكتخدا، الدفتردار، الروزنامجي، أمير الحج، الخازندار، ولكن كان أرفع المناصب منصب شيخ البلد، الذي كان يتولاه في الغالب زعيم المماليك. أما العنصر الثالث من عناصر الحكم فكانت الحامية العسكرية المكونة من سبعة فرق من الباشبوزق (المرتزقة)، وهي فرق الانكشارية، العُربان،الجمليان، التفكجيان، الجراكسة المتفرقة، الجاويشان، وكانت المهام الموكله إليهم توطيد وترسيخ الحكم العثماني وجمع الضرائب وإرسالها سنويًا إلى خزانة الباب العالي، فضلًا عن مرافقة قافلة الحج.
وبالنظر إلى نظام الحكم العثماني في مصر، فنجد أن السلطة الفعلية كانت في أيدي الحامية العسكرية الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد وغير مراعين لحقوق أو حرمات الشعب المصري، فقام الجنود العثمانيون بالكثير من الحوادث ضد الشعب المصري من نهب السكان ومهاجمة البيوت للاستيلاء على ما فيها، ومهاجمة الأسواق وخطف أمتعة الناس، فكانوا يسلبون جمال وحمير السائقين التي تنقل المياه إلى المنازل.
ويذكر الجبرتي حادثة لتعسف الجنود الأتراك، حيث شرب أحد جنود الأرناؤؤد شربة عرقسوس لم يدفع ثمنها، مما أدى إلى حدوث شجار أدى إلى تدخل جنود آخرين، وكانت النتيجة موت تسعة أشخاص في شربة عرقسوس!!!
ويروي ابن إياس أيضًا في بدائع الزهور (لم يظهر من آل عثمان ومن عسكره ما يدل على دفاعهم عن الدين الإسلامي، فعسكرهم عندهم قلة دين، يجاهرون بشرب الخمور في الأسواق بين الناس، وعندما جاء رمضان كان غالبهم لا يصوم ولا يصلي في الجوامع ولا صلاة الجمعة إلا قليل منهم، ولم يكن عندهم أدب ولا حشمة).
وإذا انتقلنا إلى الشق الاقتصادي، فقد عانت مصر اقتصاديًا تحت الحكم العثماني بسبب تدهور الزراعة نظرًا لنظام الالتزام الذي اعتمد في المقام الأول على تجميع الضرائب وإرهاق كاهل الفلاح دون الاهتمام بتحقيق تنمية زراعية حقيقية، فأهملت مشروعات الري، وتحولت الأراضي إلى صحراوات.
وكان لاكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح في أواخر الحكم المملوكي، وتحول طريق التجارة إلى المحيط الأطلنطي سببًا في تأثر مصر وخسارتها الكبيرة بعد أن فقدت موردًا اقتصاديًا للدخل من المكوس التي كانت تحصل عليها.
ومن الأسباب التي أدت إلى تأثر الناحية الاقتصادية أيضًا، اضمحلال الصناعة، وقرار السلطان العثماني بنقل الصناع وأصحاب الحرف المهرة إلى الأستانة، أما الوضع الاجتماعي، فكان انعكاسًا لنظام الحكم الأوتوقراطي، فكان المجتمع المصري مجتمعًا طبقيًا، انقسم إلى عدة طبقات كالآتي:
طبقة أرستقراطية: وهي طبقة الأتراك والمماليك.
طبقة وسطى: تشمل كبار الأعيان والتجار وعلماء الأزهر.
الطبقة الدنيا: وتشمل الفلاحين والعمال.
أهل الذمة من اليهود والنصارى.
ومن الملاحظ أيضًا في تلك الفترة فرض القيود العديدة على غير المسلمين من اليهود والنصارى، ومثال على ذلك ما فرض على مسيحيي مصر من لبس ألوان قاتمة (الأزرق- الأسود)، وإظهار الصليب وتعليقه طوال الوقت، وحُرّم عليهم ركوب الخيل وحمل السلاح عدا الرهبان، وعدم شراء واقتناء الجواري والعبيد، السير في جهة اليسار تاركين الجهة اليمنى للمسلمين، لا يسمون أبناءهم بأسماء الأنبياء.
وشملت العديد من القيود أيضًا اليهود، ففي عام 1580م أمر الوالي حسن باشا أن يلبس اليهود قبعات مخروطية حمراء ثم تغيرت إلى اللون الأسود في عهد الشريف محمد باشا في عام 1590م، فضلًا عن قيام اليهود والنصارى بتعليق جرس حول رقبتهم عند دخولهم الحمامات العامة ليعلم أنهم غير مسلمين.
الوضع الثقافي والتعليمي لم يكن بأحسن حال من الأوضاع السابقة، حيث سادت البدع والخرافات، وكان الأزهر والكتاتيب النافذة التعليمية الوحيدة، والتي اقتصر دورها على العلوم النقلية دون العلوم العقلية التي تذكي روح الإبداع والابتكار.
من خلال ما سبق يتضح لنا أن الاحتلال العثماني لمصر أوجد حالة من الركود الاقتصادي والطبقية الاجتماعية، والأوتوقراطية السياسية، والجمود الفكري والثقافي، ثم جاءت الحملة الفرنسية في ظل هذه الأوضاع، فكانت بمثابة الصدمة التي أيقظت المجتمع المصري، وزعزعت العديد من الثوابت الراسخة في عقول المصريين حول نظام الحكم، وأثرت بشكل غير مباشر في تكوين النخبة الوطنية التي لعبت دورًا مهمًا في المراحل التالية في عملية التحول الديمقراطي في وضع الأحداث في مصر.