كانت القاهرة قبل قدوم العثمانلية عامرة بأبنيتها الفخمة وتراثها المعمارى، ما حرض المصريين على المباهاة بها، كانت يد الصنايعي والحرفي المصري أوضح وأجل، بقي منها ما لم تطله يد الحرق والنهب والهدم على يد الأتراك، نراها بوضوح في المساجد والبوابات والمنازل والخانات والأسبلة والأضرحة، كل هذا ما كان للعثمانلية أن يتركونه دون أن يبنون لأنفسهم حاضرة تنافس حاضر الخلافة وحاضرات أوروبا التي لم يستطيعوا بناءها بأيدي الترك.
ومن هنا أدرك سليم الأول أهمية أن ينقل المصريين لصناعة تلك الحاضرة العريقة ليبنوا له حاضرته، وبهذا أقدم على جريمة عانت منها مصر ما يقرب من ثلاثة قرون.
كان الجنود العثمانيون ينقضون على منازلهم أو ورشهم وأماكن عملهم، ثم يشحنوهم داخل سفن كالتي ينقل بها الإسبان والبرتغاليين عبيد أفريقيا إلى القارة الأمريكية، وبمجرد أن تمتلئ تلك السفن، يرسلونهم أفواجًا إلى إسطنبول، فأخذوا البنائين والنجارين والنحاسين والمرخمين والقبانيين والحدادين والوراقين والمبلطين والنحاتين، وغيرهم من أصحاب الحرف المهرة، وأصحاب الفنون، حتى عدهم ابن إياس بخمسين مهنة خلت منها مصر عقب تلك المصيبة، ما أدى إلى انهيار الصناعة والبناء في مصر طيلة عقود وقرون وجودهم في أرض المحروسة.
واتفق المؤرخون على نقل عمال وصناع ثلاث وخمسين مهنة بالقوة إلى الأستانة، وأن الدولة العثمانية بهؤلاء الصناع المصريين بدأت نهضة كل الفنون التركية المعروفة، فبهم أضحت الدولة العثمانية إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، وحينما تحررت مصر عام 1805 سقطت تلك الإمبراطورية وأضحت رجل أوروبا المريض الذي لا حول له ولا قوة، ولأن حاضرته لم تكن صنيع يديه، تهاوت بنفس السرعة التي بناها فيها الحرفي والصنايعي المصري، وإن كانت بصمات المبدعين الحرفيين المصريين لا تزال موجودة وتميز الحضارة التركية.
وبداية فقد كان اكتشاف البارود واستخدام المدافع سببا فى تنامى القوة العسكرية العثمانية وتفوقها على كل جيرانها وهو ما أغراها بغزو جيرانها المسالمين الآمنين، رغم أن ديارهم تعتبر حسب النظرية الإسلامية الكلاسيكية ديار الإسلام وليست دار الحرب أو الكفر ، بل إنهم هم الذين علموا الأتراك الإسلام ونقلوه إليهم، لكن الأطماع الاستعمارية التركية ورغباتهم فى السلب والنهب سولت لهم غزو الشرق وخصوصا مصر، وفى البدء كانت موقعة مرج دابق قرب حلب فى سوريا فى 24 أغسطس 1516 م حيث خرج العثمانيون بجيش ضخم عدته 125 مقاتلا مزودين بـ 300 مدفع وعدد كبير من حملة البنادق يقودهم السلطان العثمانى سليم الأول، بينما كان جيش المماليك لا يزيد على 25000 جندي (بينهم 5000 جندى أتوا من مصر) تحت قيادة السلطان قانصوة الغورى، واستبسل جنود المماليك وهاجموا الجنود العثمانيين بضراوة حتى اضطربت صفوفهم وتكبدوا خسائر فادحة جعلت السلطان العثمانى يفكر فى عقد اتفاقية هدنة، واستطاع العثمانيون تحويل دفة المعركة بفضل المدفعية وخيانة قائد الميسرة (خائر بك) والى حلب الذي انحاز فجأه للجيش العثمانى، بل وأعلن أن السلطان قانصوة الغوري قد لقى مصرعه، فاهتز جند المماليك وانهارت معنوياتهم وبدأوا فى الهرب، وانفك الجيش وحقق العثمانيون انتصارا سهلا وقتلوا أعدادا هائلة من المماليك كان من بينهم السلطان قانصوة الغورى أثناء محاولته الانسحاب.
وهكذا دخل العثمانيون سوريا ليبدأوا التجهيز لغزو مصر والقضاء نهائيا على دولة المماليك التى حكمت مصر والشام، فكانت معركة الريدانية في 22 يناير 1517، حيث زحف سليم الأول صوب مصر على رأس جيش قوامه 125 ألف جندى مزودين بمئات المدافع والبنادق، وأثناء اجتيازهم صحراء سيناء كان أهاليها البواسل يكبدونهم خسائر فادحة كاد الوزير الاعظم يكون من بينها، أما جيش مصر فقد تكون من 90 ألف جندي (نصفهم من الأهالى) يقودهم السلطان المملوكى الجديد طومان باى، وقد استقدم قوة مدفعية كاملة قوامها 200 مدفع مع مدفعين من الفرنجة، كما وضعت الحواجز في طريق الخيول، وكانت خطة الجيش المصري تقوم على مباغتة العثمانيين، وكاد النصر يكون حليفا لجيش مصر لولا أن الخيانة حولت دفة المعركة مرة أخرى حيث تمكن خاير بك والى حلب الذى انضم للعثمانيين من تأمين خيانة صديقه القديم " جانبر دى الغزالى " والذى أخبر السلطان العثماني بتفاصيل خطة الجيش المصري، والمكان المزمع للاشتباك وحفرت فيه الخنادق وأقيمت الدُشم للمدافع، ومرة أخرى حسمت الخيانة المعركة، وفقد جيش مصر 25 ألف جندى و فر طومان باى ودخل العثمانيون القاهرة، وعلى الفور انطلق جنود الخلافة الإسلامية المزعومة فى عمليات سلب ونهب مسعورة عمّت أنحاء البلاد وطالت كل شىء، حتى أن الجنود الأتراك اقتحموا البيوت ونهبوا ما فيها من منقول وثابت حتى الأخشاب والسقوف والمشاكي والكراسى النحاسية والبلاط والرخام والمشربيات والشمعدانات. ويروى المؤرخ المصري" ابن إياس " فى كتابه بدائع الزهور أن الجنود الأتراك اتجهوا إلى الطحانين فأخذوا البغال والخيول، كما أخذوا جمال السقايين ونهبوا كل ما فى شون القمح من غلال، ثم صاروا يأخذون دجاج الفلاحين وإوَزّهم، وحتى أبواب بيوتهم وخشب السقوف، ثم صاروا يخطفون العمائم ويعرّون الناس، وأرسل السلطان واحدا من أكثر رجاله توحشا وهو المملوكى الخائن "جانبر دى الغزالى " إلى الشرقية، فوصل إلى نواحي التل والزمرونين و الزنكلون ونهب ما فيها من أبقار وأغنام وإوَزّ ودجاج، وقام بأسر الصبيان و سبي الفتيات بزعم أنهم أبناء كفار، وراح يبيعهم في القاهرة بأبخس الأثمان، وسارع المصريون لشرائهم من سوق العبيد ثم يهبونهم لأهاليهم.
ويكمل ابن إياس أن الجند العثمانية طفشت فى العوام والغلمان ولعبت فيهم بالسيف، وراح الصالح بالطالح، وصارت جثث مرمية من باب زويلة إلى الرميلة إلى الصليبة فوق العشرة آلاف إنسان في يوم واحد، ثم أحرقوا جامع شيخان فاحترق الإيوان والقبة، أما الوالي الذي ولاّه سليم حكم مصر فكان يصحو من نومه مخمورا فيحكم فى الناس بالعسف والظلم، وأورد ابن إياس أن أول ما فعله كبير جند الخلافة الإسلامية سليم الأول، فكان نقل العمال المهرة بالإكراه من مصر إلى الأستانة، وبهذا قام بتجريف 53 صناعة انتهت جميعها من مصر فى لحظات، وبهم بدأت كل الفنون والعمارة التركية والتى لا تزال قائمة إلى الآن، ليقضى هؤلاء العمال والصناع حياتهم في المنفى بعيدا عن أسرهم وذويهم الذين ذاقوا مرارة الحاجة بعد أن فقدوا عائلهم، كما أعلن سليم الأول نفسه المالك الوحيد لجميع أراضى مصر، لتكون السرقة بالجملة ليتميز عن جنوده الذين يسرقون بالقطاعى، وسرعان ما تدهورت الحياة الاقتصادية المصرية وانهارت تماما، وفيما عانى المصريون الفقر والجوع فقد أطلق الأتراك يد الولاة ليزيدوا من بؤس المصريين بفرض ضرائب باهظة على الفلاحين يعوضون ما دفعوه لسليم الأول وأعضاء ديوانه مقابل التعيين في منصب الوالى، وبهذا انهارت الزراعة هى الأخرى، وبانهيار الصناعة والزراعة انهارت التجارة بالتبعية، وبالطبع وما عدا كبار الملاك، فقد عجز المواطن البسيط عن دفع الضرائب وهو ما عرضه لهمجية ووحشية جنود الانكشارية الذين كانوا مسئولين عن جمع الضرائب، وباعتبار الأتراك أجلافا ليس لديهم سوى الجيش ولم يكونوا أصحاب حضارة، فهم لم يكتفوا بتهجير الحرفيين والصناع إلى الأستانة، بل عمدوا لسرقة الحضارة العريقة التى بنيت فى عهد الدولة العباسية ووريثتها المملوكية، فقام سليم الأول بنهب وسرقة الكتب من المدارس والمساجد مثل مؤلفات السخاوي والمقريزى، بل إن الأتراك ألغوا كافة أشكال التعليم فى مصر ليفرضوا عليها التخلف لتبقى ولاية تركية، ورغم أن الأزهر قد نجا إلا أنه أصابه التدهور والانحلال وقل عدد المدرسين بسبب توقف السلطة الحاكمة عن الإنفاق عليهم، ولولا مساعدات الأهالي لانتهى الأزهر نهائيا، وطبعا ضعف مستوى العلماء والباحثين، أما عن حالة الأمن فى البلاد فقد أصبح الخوف يحكم المدينة، وكانت حياة المواطن لا قيمة لها ويمكن أن يقتله عسكر الانكشارية فى أي لحظة، كما يمكن اختطاف أي امرأة واغتصابها علنا حتى داخل المساجد، وذلك فى عهد الخلافة المسماة بـ الإسلامية، بل ان الجنود الأتراك كانوا يهاجمون الأسر الثرية ويقتلون الزوج ويتزوجون أرملته بالإكراه قبل أن تنتهى شهور العدة، وأحيانا قبل أن تبدأ.
ويروى ابن إياس أن أحد القضاة لم يجز لأحد العثمانية الزواج من امرأة لم تنقض عدتها فشكاه فأحضر ذلك القاضى وبطحه وضربه ضربا مُبرّحا، ثم كشفوا رأسه وألبسوه عليه كرشا من كروش البقر بروثه، وأركبوه على حمار بالمقلوب وطافوا به فى شوارع القاهرة، وأصدر سليم أمرا بألا يعقد قاضٍ مصري عقدا لعثمانى.
وخلال قرنين من حكم تلك الخلافة ( الإسلامية ) فإن مصر لم تفقد فقط اقتصادها وأمنها وحضارتها .. بل فقدت أيضا شعبها، حيث انخفض عدد سكانها من تسعة ملايين عند بدء الغزو إلى 2 مليون فقط كنتيجة للاستعباد الذي فرضه الأتراك على المصريين، والمجاعات التى صنعوها، والقوانين الهمجية التي فرضوها ومنها فرض ضريبة على الزواج تقدر بأربعة أشرفية، فامتنع الزواج وبطلت سنة النكاح على حد قول ابن إياس، وقد جرى كل هذا الإجرام المتوحش باسم الإسلام والزعم بإقامة الخلافة الإسلامية، حيث اُقتيد الخليفة العباسى المتوكل إلى إسطنبول وأجبر على التنازل عن الخلافة لسليم الأول.
ويورد ابن إياس مشهد عودة سليم الأول إلى إسطنبول قائلا : إن ابن عثمان قد خرج من مصر وبصحبته ألف جمل محملة بما لم يره آباؤه ولا أجداده من الذهب والفضة والتحف والسلاح والصينى والنحاس والرخام والخيول والبغال والحمير، وأضاف ابن إياس، أن ما نهبه وزراء سليم وعسكره لا يعد ولا يحصى .
هذا هو الاستعمار التركى الذي يجعل الصهاينة يشعرون بالفخر ويجعل للتتار أندادا، هذا هو الإجرام الذي تطالب جماعة الإخوان الإرهابية استعادته لحكم مصر، والتعاون معه على هدم الدول العربية بداية من العراق وسوريا وصولا إلى ليبيا، فلقد نجح الأتراك في استنساخ تنظيم دولي كبير من أبناء خاير بك والى حلب الخائن، ولما نجح الأتراك في استنساخه ليصبح لدينا في النهاية 400000 خاير بك يجاهرون برغبتهم فى استعادة الكلاب المسعورة لتفرض علينا الذل والاستعباد كما فرضوه على الذين من قبلنا.