الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

الفوات الحضاري.. الثمن الباهظ للعزلة التي فرضها المحتل العثماني على العرب

  • 31-10-2020 | 21:22

طباعة

 "الترويج أن الدولة العثمانية مسؤولة عن التخلف الحضاري للعرب بسبب عزلها الولايات العربية عن الغرب، نتاج للغرور الأوروبي والانهزامية من بعض الأطراف العربية، اللذين غرسا فكرة أن أوروبا محور تقدم أو تخلف الشعوب الأخرى". بهذه المقدمة بدأ تقرير وكالة الأنباء التركية الرسمية (الأناضول)، والمنشور بالعربية تحت عنوان "هل عزل العثمانيون العرب عن أوروبا؟"، بتاريخ 9 يوليو الماضي، تبدو المقدمة كاشفة لهدف التقرير الأساسي، وهو غسل سمعة الدولة العثمانية من جريمتها الأساسية، وهي غلق أبواب الولايات العربية أمام الثورة المعرفية التي جرت في أوروبا، وأصرت إسطنبول على غض الطرف عنها، فكانت النتيجة الفوات الحضاري الذي عانت منه الأقاليم العربية. 


 الصلف العثماني القديم الذي ركل الثورة العلمية التي ضربت أوروبا الغربية قديمًا يعود في صورة التقرير الصادر عن الوكالة التركية الرسمية، فهو يتهم صراحة المتحدثين عن مسؤولية الاحتلال العثماني عن التخلف الحضاري للعرب بـ"العملاء والتابعين لأوروبا"، أو "بعض المختطفين ببريق الحضارة الغربية من المنهزمين العرب الذين يقدسون أوروبا"، ليمضي التقرير في تبرير جرائم العثمانيين بشكل فج يصل إلى إنكار التقدم العلمي الذي صنعته أوروبا بالبناء على المنجز الإسلامي في الأساس، ويتم التركيز على الحجة العثمانية البالية بأنه لولا الغزو العثماني لكان مصير الأقاليم العربية السقوط في يد الاحتلال البرتغالي منذ القرن السادس عشر، على الرغم من أن الحقيقة التي يعرفها أي دارس لتاريخ الفترة، تتمثل في أن البرتغال بإمكانياتها البشرية المحدودة لم تسع للاحتلال المباشر وقتذاك.


 وهنا يعترف كاتب التقرير ومن خلفه تيار العثمانيين الجدد بالعزلة، لكنه يحاول باستماتة الدفاع عنها من منطلق قلب الحقائق، فهو يتحدث عن دوافع عثمانية لحماية الولايات العربية من الاحتكاك بأوروبا، بسبب وجود الأخطار الاستعمارية في المنطقة، لكنها في الحقيقة كذبة لأن الأخطار الاستعمارية على مصر والشام والعراق مثلا لم تظهر إلا مع الغزو الفرنسي لمصر العام 1798، ثم يعود المقال ويرمي بتهمة العزلة على العرب أنفسهم، هكذا يُلخص التقرير بؤس دفاع العثمانيين الجدد عن جريمة العثمانيين قديما في حق المنطقة العربية التي حرمت من التواصل الحضاري مع الثورة المعرفية، على أمل اختراع تاريخ جديد قائم على سردية تنتصر للعثمانيين على حساب حقائق التاريخ ذاته.


 ما جرى حقيقة أن الاحتلال العثماني المسؤول الأول والأخير عن العزلة الحضارية المفروضة على الولايات العربية، وكانت نتيجة ذلك حدوث فوات حضاري لم يستيقظ منه العرب إلا على أعتاب القرن التاسع عشر الميلادي، بعدما حققت أوروبا تراكمًا حضاريًا كشف عن اتساع البون بين الشرق والغرب، ما مكن دول أوروبا الغربية من احتلال الأقاليم العربية طوال ذلك القرن دون صعوبات تذكر، والسبب في ذلك التكلس العثماني والرفض شبه الكامل للمنجز الحضاري الغربي، وربما كان العثمانيون يرفضون، عن وعي، التطور العلمي الحاصل والذي يعيد صياغة تاريخ دول أوروبا الغربية وينقلها من دول على هامش العالم إلى قيادته، بسبب رغبتهم في قيادة شعوب جاهلة قانعة خاضعة، أو ربما سيطر الجمود على العثمانيين بسبب غباء قرارات النخبة الحاكمة التقليدية التي تخشى هبوب ريح التجديد التي قد تدمر شبكة مصالحهم، لكن بغض النظر عن الأسباب والدوافع فالنتيجة واحدة.


وعند الحديث عن التراجع الحضاري الذي ضرب العالم العربي وترك أثره بالتوازي مع قرون التحول الأوروبي، يواجهنا سيل من الكتابات التي تتحدث عن نظرية المؤامرة وكراهية الغرب للدولة العثمانية ما أدى إلى تشويه هذه الدولة وتاريخها وهو ما انتقل إلى العرب بالتبعية، أو أن المد القومي العربي عمل على تشويه تاريخ الدولة العثمانية بوصفها قوة احتلال، وهي آراء في مجملها بدت واضحة عند عبد العزيز الشناوي وكتابه الدفاعي "الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها"، وواضح من العنوان الصيغة الجهادية في الدفاع عن العثمانيين بما يحرف دور المؤرخ الموضوعي وينسفه.


   المحاولات التبريرية والدفاعية تفقد أي منطق لها أمام الوقائع والحقائق التاريخية، التي لا يمكن تلوينها بحسب الأغراض، فالعثمانيون عملوا على منع تسرب الأفكار الجديدة إلى الطبقات الوسطى والعامة، أي الجماهير العريضة، عبر تكريس سياسة العزلة وفرضها على المجتمعات العربية فيما لم تعرف النخب المحلية في المجمل حقيقة ما يجرى في أوروبا القريبة من شواطئ الولايات العثمانية، لتعيش في وهم التفوق الإسلامي العسكري القديم، حتى استيقظت على قوات الاحتلال الغربي تدك مصر ثم الجزائر، حتى سقط العالم العربي تحت وطأة الاحتلال الأوروبي الذي حقق نهضة علمية - لا يمكن أن يجادل فيها أحد -  نتج عنها الثورة الصناعية التي حققت التطور الكمي الذي استغلته الدول الأوروبية للسيطرة على العالم، في وقت كان العالم العربي الخاضع للاحتلال العثماني يغط في ثقافة فقهية تتجنب كل ما هو علمي إلا في أضيق الحدود، فلا نسمع عن علماء في الطبيعيات ولا نعرف علماء يقارنون من بعيد أو قريب بشخصيات من حجم كوبرنيكوس وجاليليو جاليلي وفرنسيس بيكون وديكارت ونيوتن مثلًا، كان التطور العلمي الحادث في أوروبا الغربية في حكم المجهول عند العرب الذين فرض عليهم العيش على المدونات الفقهية، وهي التي يتحدث عنها أنصار العثمانية الجديدة باعتبارها المظهر الوحيد للنهضة العلمية المتخيلة، بينما وقفت محاولات أكمل الدين إحسان أوغلو في أبحاثه عن العلوم في الدولة العثمانية، إلى رصد حياة علمية هامشية جدا في مركز الدولة لم تصل إلى الأطراف!


    نجد الاعتراف بواقع تدهور الحياة العلمية في الدولة العثمانية وبالتالي في الولايات العربية، في كتاب الدكتور أحمد عبد الله نجم، "التعليم في الدولة العثمانية.. دراسة لدور المدرسة من ظهور الدولة حتى وفاة السلطان سليمان القانوني"، فالرجل الذي انطلق في مقدمة الكتاب من نفس دفاعي عن العثمانيين، لم يجد مفرًا من الاعتراف بـ "تخلف المدرسة العثمانية عن مواكبة العلوم الجديدة"، ويقول صراحة إن العثمانيين لم يهتموا "بالتقدم العلمي الأوروبي، واكتفوا بشرح وتحشية الكتب الإسلامية القديمة، مما أصاب العلم في الدولة بالتخلف والتأخر، فالدولة العثمانية لم تتناول العلم الغربي كوحدة واحدة، ولم يشغل بال العثمانيين مفهوم العلم وشموليته اللذين أحدثا الانقلاب العلمي في الغرب، أي الوقوف على كل شيء بروح البحث والتساؤل". 


ويُرجع نجم أسباب الانقطاع العثماني عن التقدم العلمي الموجود في الغرب إلى حالة الانكفاء على الذات بعد عصر محمد الفاتح، ما أدى إلى تولد شعور "بعدم الحاجة إلى الآخر والاكتفاء بما لديها، رغم أن هذا كان مناقضًا ومغايرًا لمنهاج الحضارة الإسلامية في التقدم والتطور... فالعثمانيون قابلوا المعارف والمفاهيم العلمية الغربية الجديدة بنوع من التعالي والغرور". وهي سياسة دفع ثمنها العرب بالسقوط في هوة الجمود الحضاري، ما أدى إلى ضعف قدرة المجتمعات العربية فسقطت تباعًا في قبضة الغازي الأوروبي الذي لم يكن ليستطيع أن يحقق انتصاره على المجتمعات العربية إلا بسلاح العلم الذي ألقته الدولة العثمانية من يديها منذ قرون.


    ويذهب أحمد عبد الله نجم إلى أن فشل العثمانيين الحضاري في مواكبة الثورة العلمية في أوروبا الغربية، يرجع أساسًا إلى أن "نظام التعليم الذي أسسه العثمانيون لم يستطع أن يطور بنيته القديمة، التي لم تكن عاجزة فقط عن تقديم اختراعات جديدة تقترب من التطورات المعرفية التي حدثت في أوروبا، بل إنها لم تعد كافية حتى لمتابعة تلك التطورات". لتكون المحصلة ابتعادا كاملا عن العلوم الطبيعية والرياضيات وغيرها، والتركيز على العلوم الدينية من فقه وحديث، وهو نموذج تلقى كل الدعم من العثمانيين، وكانت النتيجة أن تحولت الهندسة والحساب والفلك إلى مجرد علوم مساعدة للفقيه في معرفة اتجاه القبلة ومواقيت الصلاة وبدايات الأهلّة وحساب المواريث الشرعية، فلم تدرس هذه العلوم لذاتها وظلت تابعة لدائرة الفقه واحتلت ذيل قائمة العلوم الجديرة بالدراسة، ولا تحتاج بالتالي إلى إضاعة الوقت في التعمق فيها.


    لم يكن وضع الفلسفة بأحسن حال، فلم نسمع طوال عصور الاحتلال العثماني عن فيلسوف عربي واحد، ولا مفكر بحجم ابن خلدون مثلًا، ويقول حاجي خليفة (المتوفى سنة 1657 ميلاديًا)، في كتابه "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون"، إن سوق الفلسفة تراجع في الدولة العثمانية، قائلًا: "ولما حل أوان الانحطاط؛ ركدت ريح العلوم، وتناقصت بسبب منع بعض المفتين عن تدريس الفلسفة... فاندرست العلوم بأسرها إلا قليلًا من رسومها، وذلك من جملة إمارة انحطاط الدولة [العثمانية]"؛ بل إن أي مراجعة سريعة لمباحث العلوم الطبيعية الهزيلة في عمل حاجي خليفة الموسوعي والمخصص لسرد أسماء الكتب في التراث الإسلامي حتى عصره، سيدرك حجم الركود العلمي الذي عاشته الدولة العثمانية وفرضته بالتالي على المجتمعات العربية.


    نذهب إلى المؤلف التركي عبد الحق عدنان آديوار (المتوفى سنة 1955م)، وكتابه "تاريخ العلم عند الأتراك العثمانيين"، والذي يعترف بما حدث في الدولة العثمانية من تجاهل لروح العلم بعد استعراض الحياة العلمية الضعيفة والتقليدية في الدولة العثمانية بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر الميلاديين، وما كان يجرى في أوروبا من ثورة علمية، فيقول في كلمات لا تنقصها الصراحة: "إن تركيا العثمانية، لم تكن تعرف شيئًا عن تلك الحركة العلمية [في أوروبا]... فالتشريح في تركيا العثمانية كان هو التشريح والفسيولوجيا عند ابن سينا وابن النفيس، والطب كان هو الطب عند جالينوس وابن سينا... أما اكتشاف كوبرنيكوس، الذي هدم النظام كله، فلم تكن تركيا العثمانية على علم به... والخلاصة أن تركيا في تلك الفترة، أقامت في مجال العلوم التجريبية، سدًا منيعًا ضد الغرب، واعتادت قطع أي اتصال به". بل إن الأمور زادت سوءًا فلم تعد النظريات التي وضعها العلماء العرب تفهم على حقيقتها، مثلما فعل العالم العثماني شمس الدين الشيراوني الذي فشل في كتابه "تشريح الأبدان وترجمان الفلاسفة" والمؤلف سنة 1631، في فهم الدورة الدموية الصغرى والتي اكتشفها ابن النفيس قبل ذلك بنحو أربعة قرون، أي أن الحركة العلمية في الدولة العثمانية كانت تسير إلى الخلف!


    ومن الأمور التي ساعدت على فرض العزلة الحضارية على المجتمعات العربية بفعل التخلف والجهل العثماني، واقعة هدم مرصد إسطنبول العام 1580 ميلاديًا، ثم واقعة إنشاء المطبعة العثمانية العام 1729، أي بعد اختراع المطبعة وانتشارها في أوروبا الغربية بنحو ثلاثة قرون، فقد كانت حركة الطباعة شديدة البطء فيها، فلم يتجاوز عدد الكتب التي تم ترجمتها في عصر مؤسسها إبراهيم متفرقة (المتوفى سنة 1745 ميلاديًا) سبعة عشر كتابًا، ولم يتجاوز عدد الكتب التي طبعتها المطبعة حتى العام 1830م الـ 97 كتابًا في طبعات محدودة جدًا، وتدور معظمها في فلك العلوم الدينية.


    ويخلص عبد الحق آديوار إلى أن الدولة العثمانية ظلت حتى قرب نهاية القرن الثامن عشر لا تعرف إلا بعض القشور عن الثورة العلمية في أوروبا الغربية، وكانت الدولة "لا تزال مختنقة بدخان القرون الوسطى في الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية". 


    هذا الوضع المأساوي للعلوم الطبيعية والرياضيات في قلب الدولة العثمانية كانت نتيجته الطبيعية شيوع الثقافة التقليدية في الأطراف حيث الولايات العربية، التي عاشت على هامش الفعل التاريخي، ولم تدرك ما كان يدور في العالم، فلا معرفة بالثورة المعرفية التي اكتسحت الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم، فالمتاح هو العلوم الفقهية وما يتحلق حولها من علوم مكملة، ولا يوجد - رغم المحاولات المستميتة من دعاة العثمانية الجديدة لاختراع تاريخ غير موجود - علماء في هذه العلوم على نفس الدرجة التي نعرفها في الأقاليم العربية قبل الاحتلال العثماني، ولا يعني هذا أن تلك العلوم اختفت تمامًا في الأقاليم العربية بل كانت في مرتبة متأخرة جدًا، وهي بطبيعة الحال وفية لما وصل إليه التطور على يد العلماء المسلمين في الحقبة قبل العثمانية من ناحية، ومعزولة عما تحقق في أوروبا من تطورات وثورات علمية بنيت على منجز المسلمين ما قبل العثمانيين من ناحية أخرى.


    كان الاحتلال العثماني صاحب الفضل الأول في حدوث هذه الفجوة، والذي وقف موقفًا صلبًا وجامدًا أمام العلم الغربي، ربما ذلك بسبب اعتقاد العثمانيين أنهم لا يحتاجون إلى هذا العلم في إطار شعورهم بالتفوق العسكري خلال القرن السادس عشر، فرفضوا المنجز الغربي، وأصروا على الاحتفاظ بالمنظمة القديمة التي ترتكز على علوم الشريعة وتجعل العلوم الطبيعية على الهامش، ساعدهم في ذلك التحالف مع رجال الدين ممثلي الرجعية، وهو اختيار عثماني دفعت الشعوب العربية ثمنه غاليًا، بعدما أبعدت عن الحكم بشكل كامل، ولم تشارك في تقرير مصيرها أبدًا، فمثلا الريف المصري كان يعيش في شقاء مطلق وبعد كامل عن أبسط المعارف، كما رصد يوسف الشربيني في كتابه "هز القحوف بشرح قصيدة أبي شادوف". 


    ولم يتدارك العثمانيون خطأهم التاريخي إلا في القرن التاسع عشر، عندما هرولوا لنقل العلوم من أوروبا الغربية، فكان هذا القرن عبارة عن سلسلة من اللهاث لمحاولة اللحاق بأوروبا الغربية لكن كان الأوان فات، بعدما ضيع العثمانيون، بغباء منقطع النظير، كل الفرص التي أتيحت لهم قبل قرون للمشاركة في صناعة الثورة المعرفية التي غيرت مصير أوروبا الغربية والعالم من بعدها. 


    نتفق مع المؤرخ عماد أبو غازي فيما توصل إليه في كتابه "1517.. الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك"، من أن "خطورة الاحتلال العثماني تكمن في أنه وقع في لحظة كان (نظام عالمي جديد) يتشكل فيها، فحال ذلك الاحتلال دون انخراطنا في ذلك النظام وأعاق مساهمتنا في صياغته، وعندما أفقنا من الصدمة حاولنا أن نستعيد دورنا، كان الزمن قد سبقنا، ومقدرات الأمور قد خرجت من أيدينا". 


كان الفوات الحضاري لمصر والعالم العربي الثمن الباهظ للعزلة الحضارية والعلمية التي فرضها المحتل العثماني على المجتمعات العربية لأكثر من ثلاثة قرون، فخلال هذه المدة لا نسمع عن منجز علمي واحد شاركت به الدولة العثمانية في النهضة العلمية.


    الاكثر قراءة