الأربعاء 1 مايو 2024

نبي الإنسانية «صلى الله عليه وسلم» وأخلاقه السامية

1-11-2020 | 12:57

لم تبرز على طول التاريخ شخصية مثل شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، بما أحدثه من تغييرات فى التاريخ الإنساني، وعندما نقفُ مع الجوانب الإنسانية في حياة خير البرية صلى الله عليه وسلم؛ نشاهد بحق إنسانيةَ خيرِ إنسان وطئ الثرى، وخير إنسان علَّم الإنسانية القِيَم والأخلاق الإنسانية النابعة عن إنسان وعَى الحياة وبصَّره بها ربُّه سبحانه وتعالى، فكان صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل فى إنسانيَّته: كامل فى شريعته؛ التي تلائم بنى الإنسان، وكامل فى إنسانيته، عندما يتعامل مع زوجاته وأطفاله، وكامل في إنسانيته مع نفسه ومع مشاعره، وكامل فى إنسانيته حتى مع أعدائه وإنسانيته مع الحيوان بل والجماد ـ فقد كانت شخصية النبي صلى الله عليه وسلم مشرقة فى كل الجوانب وبها نواح مختلفة من العظمة وكان فى كل جانب المثل الأعلى والنموذج الفريد، بلغت فيه الإنسانية ذراها وتجسدت فيه (صلى الله عليه وسلم)، معالم الإنسان الكامل.

ولقد تعددت جوانب إنسانيته ورحمته(صلى الله عليه وسلم )،وقد تمثل ذلك بوضوح فى :

إنسانيته– صلى الله عليه وسلم- فى التيسير على أمته:

فالمتأمل في التشريعات التي جاءت على لسان خير خلق الله سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليلمس فيها الجانب الإنساني الذى يقدر إنسانية المسلم ويعرف قدرته وطاقته، لذا جاءت التشريعات تحمل المعنى الإنساني في اليسر والسهولة والرفق والرحمة، فعن أنس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» (متفق عليه).

وتتجلى إنسانيته فى اختياره الأيسر والأسهل ما لم يكن إثما، عن أم المؤمنين عائشة (رضى الله عنها)، قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما، كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فى أمر ينتهك منه، إلا أن تنتهك لله عز وجل حرمة، فينتقم لله عز وجل» (متفق عليه).

فقد أرسى (صلى الله عليه وسلم )، لأمَّته مبدأ اليسر والسهولة الذى يتماشى مع إنسانية المسلم، فعندما رأى حبلًا ممدودًا أمر بحلِّه، وأمر أمَّته ألا تتكلف من العمل إلا ما تُطيق؛ فعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا حبلٌ ممدود بين الساريتينِ، فقال: (ما هذا الحبل؟)، قالوا: هذا حبلٌ لزينبَ، فإذا فَتَرَتْ تعلَّقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حُلُّوه ليُصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعُدْ)(أخرجه البخاري).

وعن أنس بن مالك (رضى الله عنه): جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدهم: أما أنا، فإني أصلى الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطِر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أمَا والله، إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنى أصوم وأُفطِر، وأُصلِّى وأرقد، وأتزوج النساء، فمَن رغِب عن سنتي فليس منى) (أخرجه البخاري ومسلم).

إنسانيته صلى الله عليه وسلم فى مشاعره:

أما عن مشاعره الرقيقة الرقراقة عند الحزن، فقد كانت تدمع عيناه، ويبكى لفراق الأهل والأصحاب بكاءَ رحمةٍ ورفق، لا بكاء ضجر وتسخط.

فلما مات ابنه إبراهيم دمعتْ عيناه، وبكى رحمةً له؛ فعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبَّله وشمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيمُ يجودُ بنفسه، فجعلتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان،‏ فقال له عبدالرحمن بن عوف رضى الله عنه: وأنت يا رسول الله؟! فقال: (يا بن عوف، إنها رحمة)،‏‏ ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)(أخرجه البخارى).

إنسانيته في تعامله مع الأطفال:

لقد ظهرت أَسْمَى معالم الإنسانية فى معاملته صلى الله عليه وسلم للأطفال، فقد كان صلى الله عليه وسلم يخفض لهم جناحَه، ويفهمُ طبيعتهم السِّنِّيَّة، فيداعبهم، ويلاطفهم، ويُقبِّلهم، ويحتضنهم، ويصبر عليهم، ويكره أن يقطع عليهم مرحَهم وسعادتهم، حتى ولو كان بين يدى الله تعالى.

وعن عبدالله بن شداد، عن أبيه قال: دُعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاةٍ، فخرج وهو حاملٌ حسنًا أو حسينًا، فوضعه إلى جنبه، فسجد بين ظهرانَى صلاته سجدةً أطال فيها، قال: إني قد رفعت رأسي من بين الناس، فإذا الغلامُ على ظهرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعدتُ رأسى فسجدتُ، فلما سلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له القوم: يا رسول الله، سجدتَ فى صلاتك هذه سجدةً ما كنت تسجدُها، أفكان يُوحَى إليك؟ قال: (لا، ولكنَّ ابنِى ارتَحَلنى، فكرِهتُ أن أُعجِّلَه حتى يقضى حاجته)( أخرجه أحمد والنسائي).

وكان يُقبِّل الأطفال ويمسح على رؤوسهم؛ فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن على، وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لى عشرةً من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (مَن لا يَرْحم لا يُرْحم) (أخرجه مسلم ).

إنسانيته (صلى الله عليه وسلم) فى تعامله مع غير المسلمين:

إنه لشيء رائع حقًّا أن يرحم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك الذين رفضوا عقيدته واعتنقوا غيرها, وأولئك الذين لم يعترفوا بنبوته أصلًا! بل إننا نراه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرحم ويَبَرُّ ويعطف ويحنو على أولئك الذين عذبوه وعذبوا أصحابه, وعلى أولئك الذين مارسوا معه ومع المسلمين أشد أنواع القسوة والعنف!! لقد كانت العلاقة بينه وبين المخالفين له فى الدين -والذين يعيشون معه فى مجتمع واحد- أعلى بكثير من مجرد علاقة سلام ووئام, لقد كانت علاقة «بِرٍّ ورحمة» بكل معانى الكلمة..

ولا نخالف الحقيقة إذا قلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعامل غير المسلمين المحيطين به معاملته لأهله..

وسيرة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحاديثه عامرة بصور ومواقف كثيرة تبين رحمته بغير المسلمين، وتحدثنا كتب السيرة والسنة النبوية عن كثير من تلك المواقف منها:

عَنْ أَنَسٍ رَضِى اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِى يَخْدُمُ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إلى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ للهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ» (رواه البخارى) فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - يستعمل غلامًا يهوديًّا فى الخدمة, ولا يجد غضاضة فى ذلك؛ ليجعل الحياة والتعايش مع أصحاب الديانات الأخرى فى داخل المدينة المنورة حياة طبيعية, ثم يمرض هذا الغلام، فيذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعوده فى بيته!!

إننا يجب أن نقف لنحلل وندرك قيمة هذا الموقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلى سلطة فى المدينة المنورة, والغلام اليهودي لا يعدو أن يكون خادمًا, وعلى غير مِلَّة الإسلام!

أيحدث فى بقعة من بقاع الأرض أن يزور سيدٌ خادمًا له إذا مرض, وخاصة إذا كان على غير دينه؟! كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينسى وظيفته الأولى التى أرسله الله عز وجل من أجلها وهى البلاغ؛ فيدعوه للإسلام, فيسلم الغلام, فيخرج النبي فرحًا بإسلامه, كأنما أسلم أحد أَحَبِّ أهله إليه إن هذه هى الرحمة -حقيقةً- فى أعلى صورها.. وقد استنتج العلماء من ذلك جواز عيادة مرضى غير المسلمين، إذا كانت تأليفًا لقلوبهم، وتقريبا لدين الله إلى نفوسهم.

كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بحسن معاملة المعاهَدين والذميين، وجعل لهم حقوقا تحفظ أشخاصهم، وأهلهم، وأموالهم، ونهى عن ازدرائهم واستنقاصهم، حتى قال - صلى الله عليه وسلم: « أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا. أو انْتَقَصَهُ، أو كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أو أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»» (رواه أبو داود). وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عمر رضى الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ، قَالَ: «مَن ْقَتَلَ مُعَاهَدًا لَم ْيَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنّ َرِيحَهَا لَيُوجَد مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا.» (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ).

كما تجلّت رحمته صلى الله عليه وسلم أيضًا فى ذلك الموقف العظيم، يوم فتح مكة وتمكين الله تعالى له، حينما أعلنها صريحةً واضحةً: «اليوم يوم المرحمة» (أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ). وأصدر عفوه العام عن قريش التى لم تدّخر وسعًا فى إلحاق الأذى بالمسلمين، فقابل الإساءة بالإحسان، والأذيّة بحسن المعاملة.

لقد تعددت مظاهر إنسانيته ورحمته (صلى الله عليه وسلم) بغير المسلمين، وشفقته عليهم، ورغبته فى هدايتهم، ولا أدل على ذلك مما حدث يوم الطائف، والذى كان من أشد الأيام صعوبة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقد كذبه أهل الطائف إلى الحد الذى حدا بأمين وحى السماء جبريل (عليه السلام) أن ينزل بأمر من ربه (سبحانه وتعالى) ومعه ملك الجبال مُستأمرًا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى أن يُوقع بهم العذاب، فيجيب الرحمة المهداة (صلى الله عليه وسلم) قائلًا: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» (متفق عليه)، ولما قيل له (صلى الله عليه وسلم): ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قال: «إِنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» (أخرجه مسلم).

وكذلك تجلت إنسانيته ورحمته (صلى الله عليه وسلم) بالجاهلين والعصاة من أمته: فكان يأخذ بأيديهم ويبين لهم سوء فعلهم برفق ولين، وحكمة وموعظة لا تقلل من شأنهم أو تَنْتَقِصُ من أقدارهم، فقد صحّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِى المَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): «دَعُوهُ، وَأَهْـريقُـوا عَـلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أو سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» (أخرجه البخاري)، وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِى، قال: بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّى مَعَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِى الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمَّاهُ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصْمِتُونَنِى لَكِنِّى سَكَـتُّ، فَلَمَّـا صَلَّى رَسُـولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، فَبِـأَبِى هُوَ وَأُمِّـى، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِى وَلاَ ضَرَبَنِى، وَلاَ شَتَمَنِى، قال: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إِنَّمَا هِى التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» (أخرجه مسلم).

إنسانيته ورحمته بالحيوان والجماد:

إن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم تجاوزت الجنس البشرى حتى شملت الحيوان والجماد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشى بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذى كان بلغ منى، فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم امسكه بكفيه حتى رقى، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له» قالوا: يا رسول الله وإن لنا فى هذه البهائم لأجرا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «في كل كبد رطبة أجر» (متفق عليه).

بهذه القاعدة العامة «فى كل كبد رطبة أجر» سبق النبي صلى الله عليه وسلم جميع المنظمات والهيئات التي تعنى بالدفاع عن حقوق الحيوان والرفق به، سبقها النبي صلى الله عليه وسلم بمئات السنين يوم قال: «عذبت امرأة فى هرة، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هى تركتها تأكل من خشاش الأرض» (متفق عليه).

والنبي صلى الله عليه وسلم يقصد بهذا تعليم أصحابه الرفق بالحيوان والإحسان إليه، ويبين لهم أن قتل الحيوان غير المأذون في قتله، أو التسبب فى قتله يمكن أن يكون سببا في دخول النار والعياذ بالله، وهذا أمر لا تعرفه القوانين الوضعية التي يحكم بها الناس اليوم.

وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من قتل الحيوان بلا هدف، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها، إلا سأله الله عنها يوم القيامة»، قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: «حقها أن يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها فيرمى به» (رواه النسائي).

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان عند ذبح الذبائح؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته» (رواه مسلم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا» (متفق عليه) أى لا تتخذوا الحيوان الحى هدفا ترمونه بسهامكم، لأن هذا مناف للرحمة التي ينبغي على المؤمن أن يتحلى بها.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع الظلم والقهر حتى عن الحيوان ويهتم بذلك أشد الاهتمام، فقد دخل النبى صلى الله عليه وسلم بستانا لرجل من الأنصار، وإذ فى البستان جمل، فلما رأى النبى صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه.

 

فأتى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح على رأسه، فسكن، ثم قال: «من رب هذا الجمل؟» فجاء شاب من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «ألا تتقى الله فى هذه البهيمة التى ملكك الله إياها؟ فإنه شكى إلى أنك تجيعه وتدئبه» (رواه أبوداود).

وللجماد نصيب من الرحمة المحمدية، فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صنع له المنبر، صاحت النخلة التي كان يخطب عليها صياح الصبى، فنزل النبى صلى الله عليه وسلم من على المنبر، فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبى، فقال صلى الله عليه وسلم: «بكت على ما كانت تسمع من الذكر» (أخرجه البخاري)، وكان الحسن البصرى إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه..

لذا فإننا نؤكد وبشدة أنه لا يمكننا أن نجد فى التاريخ الإنساني منذ نشوئه وحتى الآن مثل تاريخ النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ودعوته وجهاده فى نشر المكارم والحث عليها، ونجاحه الباهر فى إيصال الإسلام إلى مختلف البقاع فى مدة قصيرة وهذا الأمر لم يحدث له مثيل فى التاريخ الإنساني.

فسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليست مجرد تاريخ نقرأه لننال الثواب ونفتخر بعظمته ونجعله مجرد قصة تاريخية نستلذ بها، بل أن هذا التاريخ العظيم هو تجربة حيّة تزخر بالمفاهيم والبصائر والحقائق التى يمكن لأى إنسان أن يستمد منها طاقة كبرى يدّخرها فى نفسه تقوده نحو التقدم والرقي، شريطة أن يفهم بعمق القوانين التى قامت عليها دعوة الإسلام بوصفها خاتمة الرسالات السماوية.

ولعل فى شهادة وأقوال المستشرقين عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم خير شاهد ودليل على عظمة شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وإنسانيته فمن تلك الشهادات والأقوال:

يقول الكاتب الروسي الكبير تولستوي:

(ومما لا ريب فيه أن النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) كان من عظماء الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخرًا إنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح إلى السكينة والسلام، وتؤثر عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقى والمدنية، وهذا عمل عظيم لا يقوم به إلاّ شخص اُوتى قوّة، ورجل مثل هذا لجدير بالاحترام والإجلال).

ويقول الكاتب الكبير برنارد شو:

(إني أكنُّ كل تقدير لدين محمد (صلى الله عليه وسلم)، لحيويته العجيبة فهو الدين الوحيد الذى يبدو لى أن له طاقة هائلة لملاءمة أوجه الحياة المتغيرة وصالح لكل العصور. لقد درستُ حياة هذا الرجل العجيب، وفى رأيى أنه يجب أن يسمى منقذ البشرية).

نعم إنه منقذ البشرية ودينه دين الحياة والسعادة، يقول تعالى فى كتابه الحكيم: (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد). (سورة إبراهيم:١).

ويقول البروفسور كاراديفو فى كتابه المحمدية:

(إن محمدًا كان هو النبي الملهم والمؤسس ولم يستطع أحد أن ينازعه المكانة العالية التى كان عليها، ومع ذلك فإنه لم ينظر إلى نفسه كرجل من عنصر آخر، أو من طبقة أخرى غير طبقات بقية المسلمين..، إن شعور المساواة والإخاء الذى أسسه محمد (صلى الله عليه وسلم) بين أعضاء الكتلة الإسلامية، كان يطبّق عمليًا حتى على النبى نفسه).

وكلما تأملنا فى سيرة وشمائل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نجد الكمال فى أخلاقه، والسمو فى تعاملاته، فكمالات خُلُقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ آية كبرى على صدقه وفضله، وعلم من أعلام نبوته ورسالته، وقد مدحه الله ـ عز وجل ـ بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:٤)، ومن الكمال الخُلُقى الذى تحلى به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمته التى شملت الصغار والكبار، والمؤمنين والكفار.

فالله عز وجل كما بعث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعلم والهدى والبراهين العقلية والسمعية، فإنه أرسله - أيضا- بالإحسان إلى الناس، والرحمة بهم، وبالصبر على أذاهم هدى ورحمة للعالمين.

لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها رحمة، فهو رحمة، وشريعته رحمة، وسيرته رحمة، وسنته رحمة، وصدق الله ـ عز وجل ـ القائل عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الأنبياء:١٠٧).