انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم فى تعامله
مع المرأة من أسس وضعها الله تعالى وخلدها فى كتابه الكريم وطبقها الرسول عمليا؛ أول
تلك الأسس قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً، وقبائل
لتعارفوا إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم إن اللَّه عليم خبير) [الحجرات: ١٣]، فكان أن
سمح للمرأة أن تخرج وتمارس حياتها بكل أشكالها الاقتصادية والاجتماعية وحتى أنه فتح
لها باب المشاركة الحربية وشجعها على الكسب والصدقة لتستقل ماديا وترقى اجتماعياً وجعل
الفضل للتقوى والعمل الصالح. وساوى بين الرجال والنساء فى العمل والجزاء عليه، منطلقاً
من قول الله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أُضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى)
[آل عمران: ١٩٥].
بل أكد على علو مكانتها بالوصية عليها وحسن
صحابتها أماً عندما سأل رجل الرسول صلى الله عليه وسلم: من أحق بصحابته؟ فقال له:
(أمك)، قال: ثم من؟ قال: (ثم أمك)، قال: ثم من؟ قال: (ثم أمك)، قال: ثم من؟ قال: (أبوك).
وأن هذا أمر الله تعالى عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوصيكم بأمهاتكم،
ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب). ونبه الصحابي
الذى أتاه يسأله عن رغبته فى الجهاد إلى أن رعايته لأمه أولى من جهاده لما روى أن جاهمة
أتى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أردت الغزو وجئتك أستشيرك، فقال:
(هل لك من أم؟)، قال: نعم، قال: (الزمها؛ فإن الجنة عند رجليها). ولم يقبل أن يساء
إليها حتى لو كانت على غير دين الإسلام فعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها، قالت:
قدمت على أمى وهى مشركة فى عهد قريش، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت:
يا رسول الله، قدمت على أمى وهى راغبة، أفاصل أمى؟ قال: (نعم، صلى أمك) وأشاد بمن بر
أمه من الصحابة وشجعهم على برها بذكر مكانته فى الجنة جزاء بره بأمه إنه الصحابي الجليل
حارثة بن النعمان، صاحب القدر الكبير الذى كان بارًا بوالديه، فعن أم المؤمنين السيدة
عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “نمت فرأيتني فى
الجنة فسمعت صوت قارئ يقرأ، فقلت: من هذا؟.. قالوا: هذا حارثة بن النعمان. فقال لها
رسول الله صلى الله عليه وآلة وسلم: “كذاك البر، كذاك البر”، وكان أبر الناس بأمه”.
وكان من بر حارثة بأمه كما ذكرت السيدة عائشة رضى الله عنها أنه كان يطعمها بيده، ولم
يستفهمها كلامًا قط تأمر به، حتى يسأل مَن عندها بعد أن يخرج: ماذا قالت أمى؟. وكان
صلى الله عليه وسلم نموذجاً يحتذى فى بره بأمه التى أرضعته حليمة السعدية فلقد كان
رسول الله صلى الله عليه وآله يكرم مرضعته حليمة السعدية، ويتحفها بما يستطيع من مال
أو هدايا.
فعن شيخ من بنى سعد قال: قدمت حليمة بنت
عبد الله على رسول الله مكة، وقد تزوج صلى الله عليه وآله خديجة، فشكت جدب البلاد،
وهلاك الماشية، فكلم رسول الله صلى الله عليه وآله خديجة رضوان الله عليها فيها، فأعطتها
أربعين شاة وبعيراً، وانصرفت إلى أهلها، وكانت المرة الثانية التى التقت فيها النبى
صلى الله عليه وآله يوم حنين. وحذر كثيراً من عقوق الوالدين فقال رسولنا الكريم “كل
الذنوب يؤخر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين”.. “ألا أدلكم
على أكبر الكبائر؟”. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: “الإشراك بالله وعقوق الوالدين”.
أما الابنة فقد كان صلى الله عليه وسلم أرقى أب يعامل بناته منذ اللحظات الأولى لاستقبالهن
فى الدنيا حتى قبل أن يدركن معنى الحياة، كان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسر
ويفرح لمولد بناته، فقد سر واستبشر صلى الله عليه وسلم لمولد ابنته فاطمة رضى الله
عنها، وتوسم فيها البركة واليمن.
وفى هذا درس منه صلى الله عليه وسلم بأن
من رزق البنات وإن كثر عددهن عليه أن يظهر الفرح والسرور، ويشكر الله سبحانه على ما
وهبه من الذرية، وأن يحسن تربيتهن، وأوصى بذلك وحث عليه ببيان ثواب الإحسان إلى البنات.
قال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها
- يعنى الذكور - أدخله الله الجنة). وقال أيضًا: (من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات
أو بنتان أو أختان، فأحسَنَ صحبتهن واتقى الله فيهن، فله الجنة).
ولذلك فاضت عيناه دمعاً على فتاة وأدها
أبوها فى جاهليته قبل الإسلام. وقال له مقولة تدل على حزنه الشديد عليها. فقد روى أن
رجلاً من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم كان لا يزال مغتما بين يدى رسول الله صلى
عليه وسلم: (مالك تكون محزوناً)؟. فقال: يا رسول الله، إن أذنبت ذنباً فى الجاهلية
فأخاف ألا يغفره الله لى وإن أسلمت!. فقال له: (أخبرنى عن ذنبك). فقال: يا رسول الله،
إن كنت، من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لى بنت فتشفعت إلىّ امرأتى أن أتركها فتركتها
حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء فخطبوها، فدخلتنى الحمية ولم يحتمل قلبى أن
أزوجها أو أتركها فى البيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إنى أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا
وكذا فى زيارة أقربائى فابعثيها معى، فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت علىّ
المواثيق بألا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت فى البئر ففطنت الجارية أنى أريد
أن ألقيها فى البئر، فالتزمتنى وجعلت تبكى وتقول: يا أبت! إيش تريد أن تفعل بي! فرحمتها،
ثم نظرت فى البئر فدخلت على الحمية، ثم التزمتنى وجعلت تقول: يا أبت لا تضيع أمانة
أمي، فجعلت مرة أنظر فى البئر ومرة أنظر إليها فأرحمها، حتى غلبنى الشيطان فأخذتها
وألقيتها فى البئر منكوسة، وهى تنادى فى البئر: يا أبت، قتلتني.
فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت. فبكى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال: (لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل فى الجاهلية
لعاقبتك). ولأن البنت أمانة فى بيت والديها ولابد أن تنتقل إلى بيت زوجها يوماً ما،
وقد أوجب لها ديننا الإسلامى الحنيف حق الاستئذان فى الزواج، فلا يحل لوليها أن يعقد
لها على رجل تكرهه، فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: “لا تنكح الأيم حتى تستأمر،
ولا تنكح البكر حتى تستأذن”. قالوا: “يا رسول الله، وكيف إذنها؟”. قال: “أن تسكت”.
فكلمة تستأمر فى حق الثيب تفيد طلب الأمر فلا يعقد عليها إلاَّ بعد طلب أمرها وإذنها
بذلك، وكلمة تستأذن فى حق البكر تعنى طلب إذنها وموافقتها على النكاح، وإذا عقد الأب
لابنته وهى كارهة فالعقد مردود “عن خنساء بنت خدام الأنصارية: أن أباها زوجها وهى ثيب
فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها”.
وبعد تزويج البنات تأتى معاملة الأحفاد
التى تدل على محبة البنات بمحبة أبنائها، فقد كان يذهب صلى الله عليه وسلم إلى بيت
فاطمة ليس له قصد سوى تقبيل الحسن ومعانقته. وقد كان هذا مسلكه صلى الله عليه وسلم
فى مجالسه الخاصة والعامة، فقد قبّل يومًا الحسن بن عليّ، وعنده الأقرع بن حابس التميمى
جالس، فقال الأقرع: إنى لى عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا. فنظر إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم قال: “من لا يرحم لا يرحم”. وجاء أعرابى إلى النبى صلى الله
عليه وسلم فقال: تقبّلون الصبيان؟ فما نقبّلهم. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: “أو
أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة”. ودخل الحسن المسجد والنبى صلى الله عليه وسلم
يصلى وقد سجد، فركب على ظهره، فأبطأ فى سجوده حتى نزل الحسن، فلما فرغ قال له بعض أصحابه:
يا رسول الله، قد أطلت سجودك. قال: “إن ابنى ارتحلنى فكرهت أن أعجله”.
أما الزوجة فكان له صلى الله عليه وسلم
معاملة خاصة معهن وقد عد الرسول صلى الله عليه وسلم خير مرب ومعلم فى تعامله مع زوجاته،
فكان يعاملهن برفق ومودة وعدل وحلم. وكان صلى الله عليه وسلم خير الناس لأهله، وخيرهم
لأمته من طيب كلامه وحسن معاشرة زوجاته بالإكرام والاحترام، حيث قال: (خيركم خيركم
لأهله، وأنا خيركم لأهلى)، ومن مظاهر رفقه صلى الله عليه وسلم على نسائه: تدليلهن وملاطفتهن
ومداعبتهن، وقبول الغيرة منهن. كما أن الحلم من الخصال التى يحبها الله تعالى؛ ففى
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال للأشج - أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين
يحبهما الله: الحلم، والأناة). ولنا فى رسول الله أسوة حسنة، حيث كان يطبق مبدأ الحلم
مع زوجاته، فلم يكن يغضب منهن لنفسه؛ إنما يكون غضبه إذا كان الخطأ منهن فى حقٍّ من
حقوق الله. وبصورة عامة فإن المرأة كان لها مكانة كبيرة عند الرسول صلى الله عليه وسلم،
ولذا كان ينظر لاحتياجاتهن ويلبيها عند سؤالها وبغير سؤال أحياناً. ومن ذلك أنه خصص
صلى الله عليه وسلم للنساء يومًا يعلمهن فيه أمور الدين. وأنه يوصى بالنساء فى آخر
وصية له فى حجة الوداع، فيقول: (ألا واستوصوا بالنساء خيرًا). ومنها كذلك الإقرار بأن
المرأة لا تقل مسؤولية عن الرجل أمام الله؛ فعن سالم بن عبدالله عن عبدالله بن عمر
رضى الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع ومسؤول عن رعيته،
فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع فى أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة فى
بيت زوجها راعية وهى مسؤولة عن رعيتها، والخادم فى مال سيده راعٍ وهو مسؤول عن رعيته).
كما أنه كان يدعو إلى الرفق بالنساء فى قوله صلى الله عليه وسلم لأنجشة: (يا أنجشة،
رويدك سوقًا بالقوارير).
وهذا تشبيه بديع يوحى بجمال نظرة النبى
صلى الله عليه وسلم وعمقها لهذا الجنس اللطيف، فالمعلوم أن القارورة تتخذ غالبًا من
الزجاج؛ ومن ثم فهى سهلة الكسر، وبالتالى يكون القاسم المشترك بين المرأة والقارورة
هو سهولة كسرها، كذلك فإن القارورة لا تظهر إلا ما مُلئت به من مادة (جميلة أو قبيحة)،
فكذلك الزوجة مهما ملأها الزوج بشيء من المعانى، فاضت به وأظهرته فى شتى صور علاقتها
معه.
قال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له أنثى
فلم يئدها ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها - يعنى الذكور - أدخله الله الجنة). وقال
أيضًا: (من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان، فأحسَنَ صحبتهن واتقى
الله فيهن، فله الجنة).
ولذلك فاضت عيناه دمعاً على فتاة وأدها
أبوها فى جاهليته قبل الإسلام. وقال له مقولة تدل على حزنه الشديد عليها