الأربعاء 26 يونيو 2024

"خطاب العنف والدم في التراث الإسلامي".. من كتاب خطاب العنف والدم لـ"حسام الحداد"

فن1-11-2020 | 17:09

"الهلال اليوم"، تنشر فصلًا من كتاب "خطاب العنف والدم في الفقه الإسلامي"، للكاتب حسام الحداد، والصادر عن دار ابن رشد للنشر والتوزيع، وجاء الفصل بعنوان "خطاب العنف والدم في التراث الإسلامي"، ونقرأ فيه:


بعد ثورات "الربيع العربي" تراجع "وهج" التنظيمات الإرهابية مثل "القاعدة" التي لم نرى لشعاراتها أي أثر في ساحات وميادين التغيير من القاهرة إلى اليمن. لكن منذ أن قررت بعض الدول الخليجية تسليح الثورتين الليبية والسورية، انتعشت التنظيمات الإرهابية حتى اكتسح خطابها وعنفها الساحة العربية من المحيط إلى الخليج. فما الذي حدث؟ الجواب عن هذا السؤال نجده في مآلات "الربيع العربي"، ونجده أيضا عند من سعى إلى الزج بهذا الربيع إلى متاهات العنف القادم من عمق التاريخ. إنها نفس الجهات التي تريد أن تسير عكس صيرورة التاريخ، سواء كان اسمها "داعش"، أو أنظمة استبدادية تستغل الدين لممارسة عنفها ضد إرادة الشعوب.

وعنف "داعش" الذي أرعب الكثيرين اليوم، ليس جديدا على التراث والتاريخ الإسلاميين،  ففي عهد أبي بكر الصديق، أول خليفة إسلامي، انتشرت ثقافة الإبادات الجماعية، كما تروي ذلك كتب التراث، لمواجهة ما سمي بـ "الردة" عن الدين، فكان يتم رمي المرتدين حتى الموت، أو رميهم في الآبار وطمرهم داخلها أحياء، أو تحريقهم بالنار، يمارس هذا العنف أبطال يمجدهم التاريخ الإسلامي مثل خالد بن الوليد الذي يوصف بـ "سيف الله المسلول"، ولم يسلم منه حتى حفيد النبي محمد، الحسين ابن علي الذي حمل جلادوه رأسه بعد أن فصلوه عن جسده إلى يزيد ابن معاوية،  فكان كلما اتّخذ مجالس الشرب، ويأتي برأس الحسين ويضعه بين يديه ويشرب عليه، كما تعلمنا كتب التراث.

إن الإسلام يعيش اليوم في أزمة حقيقية، والخروج من هذه الأزمة لا يمكن أن يحدث بمجرد ترديد مقولات جاهزة من قبيل بأنه دين يمثل ثقافة التسامح،  فمثل هذه المقولات لا تخفي بين طياتها نفاق من يدفعون بها، وإنما هي مقولات عنصرية تريد أن تضع أصحاب هذا الدين فوق الجميع. ولا يمكن تصور أي مخرج من ثقافة العنف السائدة حاليا دون إحداث قطيعة مع الماضي، والتأسيس لدولة مدنية تقوم على ثقافة المساواة وليس على ثقافة التسامح، وعلى الفصل التام بين الدين والسياسة، وعلى تأسيس دولة القانون. فالعنف يظهر بقوة عندما يختفي القانون.

ومن هنا سوف نناقش في هذا الفصل جذور العنف في الفقه الإسلامي مستشهدين ببعض من تلك الفتاوى التي نطلق عليها في كثير من الأحيان فتاوى الدم.

وقبل الخوض في النماذج أو الشهادات لابد لنا من تقديم بعض التعريفات التي في اختلاف مدلولات ألفاظها ينتج العنف والعنف المضاد، حيث نقوم بتقديم تعريفات للمصطلحات التي سوف تضيء جزء ليس بالقليل من كيفية التحول من التسامح والسلام إلى العنف والإرهاب ومنها "الفقه، الشريعة، الدين، التدين، الجهاد، الإرهاب، الناسخ والمنسوخ وعمله في الفقه الإسلامي وخطورة هذا العمل من خلال تناول أية السيف، ثم يقدم نقدم بعض نماذج العنف في التراث الإسلامي مستشهدين ببعض الفقهاء وآرائهم التي غيرت كثيرا في شكل الإسلام وتم اتخاذ هذه الآراء الفقهية على اعتبار أنها الدين بما تمثله من تطرف وإرهاب لتلك الجماعات العاملة اليوم تحت راية الإسلام، ومن بين هؤلاء الفقهاء الإمام أحمد بن حنبل، ابن حزم، البغدادي، الطحاوي، ابن تيمية، ابن القيم، ابن حجر الهيتمي، واخيرا محمد بن عبد الوهاب، وقبل كل هذا سوف يقدم الباحث نبذة عن أول خلاف سياسي أدى إلى تفرقة الأمة حتى يوم الدين وهو الخلاف الذي نشب بين على ومعاوية وادى الى ما يعرف بالتحكيم الذي قسم الأمة إلى سنة وشيعة.


الفقه والشريعة:

الفقه:

تعريف الفقه في اللغة:

تأتي كلمة الفقه في عرف اللغة العربية بمعنى الفهم مطلقا، سواء كان الفهم دقيقا أم غيره، وسواء كان غرض المتكلم أم غيره، والدليل على ذلك قوله تعالى على لسان شعيب "ما نفقه كثيرا مما تقول" (1) وقوله تعالى في شأن الكفار "فما لهؤلاء لا يكادون يفقهون حديثا" (2)

وتأتي كلمة الفقه بمعنى الفهم للأشياء الدقيقة فقط، فلا يصلح أن يقول الإنسان فهمت ان هذا ماء وهذا جماد.

كما يراد بكلمة الفقه في اللغة فوق ما سبق فهم غرض المتكلم من كلامه.

تعريف الفقه اصطلاحا:

عرف الفقه بأنه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، ويراد هنا مطلق الإدراك الشامل للتصور والتصديق، والمراد بالأحكام: النسب التامة بين الطرفين التي هي ثبوت المحمول للموضوع أو نفيه عنه، كقولنا الصلاة واجبة، الزنا حرام.

الشرعية: أي المنسوبة للشرع وهي ما كانت مأخوذة من أدلة الشرع الكتاب والسنة.

العلمية: أي المنسوبة إلى العمل، بأن يكون الموضوع فيها عملا من أعمال المكلف والمحمول حكم فقهي، كقولنا الزكاة واجبة، والمراد بالأعمال هنا: أفعال الجوارح الظاهرة كالصلاة والباطنة غير الاعتقادية كالنية. (3)

وبهذا يكون تعريف الفقه لُغة هوَ الفهم، فيُقال فَقِهَ فُلان أي فهم، وأفقه فُلاناً أي أفهمه، ويُقال فقهَ الشيخُ المسألة أي عقِلَها وفهمها وعرف المُراد منها، وقد وصفَ الله سُبحانهُ تعالى تسبيحَ كُلّ شيءٍ له وبأننا لا نفهُم هذا التسبيح بقولهِ: ( ولكن لا تفقهونَ تسبيحهُم) أي لا نفهم هذا التسبيح.

وتعريف الفقه اصطلاحاً يقع على نوعين أو يُفسّرُ اصطلاحاً على أمرين، وهُما أن يُقصد بهِ معرفة الأحكام الشرعيّة المُتعلّقة بأعمال المُكلّفين وأقوالهم، والمُكتسبة من أدلّتها التفصيليّة، وهذه الأدلّة التفصيليّة هيَ القُرآن الكريم والسُنّة النبويّة وما يتعلّق بهما من إجماع واجتهاد، فهذهِ المعرفة للأحكام الفقهيّة تكون بالفهم الصحيح لمصادر التشريع الرئيسيّة، وهيَ كلامُ الله تعالى الذي لا يأتيهِ الباطل من بينِ يديهِ ولا من خلفه وهوَ القُرآن الكريم، وأيضاً سُنّةُ النبيّ مُحمّد عليهِ الصلاةُ والسلام، وهيَ كُلّ ما وردَ عنهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير أو صفة، وكذلك اجتهاد أصحاب العلم من الصحابة والتابعين والعُلماء، وإجماع الأمّة بعُلمائها على حُكمٍ من الأحكام. أمّا المعنى الآخر للفقه فالمقصود بهِ الأحكام الشرعيّة نفسها، أي أنَّ أحكامَ الصلاة وأحكامَ الصيام والزكاة والحجّ والبيوع والمُعاملات بشتّى أنواعها هيَ فقه، فكُلّ هذهِ الأحكام وغيرها يُقصد بها أيضاً فقه، ففي الأمر الأوّل أنتَ تعرف الأحكام الشرعيّة وفهمها وهذا فقهٌ، والحُكم نفسهُ هوَ أيضاً فقه.


الشريعة:

تعريف و معنى شريعة في معجم المعاني الجامع

    شَريعة: (اسم)

       الجمع : شرائِعُ

       الشَّرِيعةُ : ما شرعَه الله لعباده من العقائد والأحكام

       الشَّرِيعةُ : طريقة ومنهج

       الشَّرِيعةُ : مورد الماءِ الذي يُسْتَقَى منه بلا رِشاء

       الشَّرِيعةُ : العَتَبة

       لوحا الشَّريعة : اللوحان اللذان كُتِبت عليهما الوصايا العشر

       شَرِيعَةُ الغَابِ : قَانُونُ البَقَاءِ لِلأَقْوَى

ولقد ورد لفظ الشريعة في القرآن مرة واحدة "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها" (4) ثم ورد فعل له واشتقاق ثلاث مرات:

"شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.." (5)، وقال تعالى "لكل جعلنا شرعة ومنهاجا" (6) وأخيرا "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" (7)

ومن خلال الآيات القرآنية والمعنى اللغوي يتبين أن لفظ الشريعة إنما يعني في اللغة مورد الماء أو مدخله، وهو منهاج الشيء أو الطريق إليه، وهذا هو المعنى الذي قصد في القرآن "ثم جعلناك على شريعة من الأمر" إنما تعني، ثم جعلناك على منهاج من الدين أو طريق له، وكذا في باقي الآيات.

فلفظ الشريعة لا يعني في اللغة ولا في الاستعمال القرآني معنى التشريع أو القانون، وعندما نص القرآن على تقنين شيء لم يأت بمفرده شريعة أو أحد مشتقاتها بل وردت الأحكام بلفظ الأمر "قل أمر ربي بالقسط" (8) أو الفرض "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون" (9)

فقد استعمل لفظ الشريعة في الإسلام أولا بمعناه الذي يفيد أن شريعة الإسلام هي سبيل الإسلام ومنهاجه.

ثم نقل بعد ذلك إلى كل أحكام الدين، فأصبحت الشريعة تعني ما ورد في القرآن من سبل للدين ونظم للعبادات وتشريعات للجزاءات أو للمعاملات.

ثم أصبح أخيرا يعني أحكام الدين ونظم العبادات وتشريعات الجزاءات والمعاملات، وما جاء في السنة النبوية، وما تضمنته آراء الفقهاء و تفاسير المفسرين ونظرات الشراح و تعاليم رجال الدين (10)، من هنا حصل الخلط المفاهيمي بين الفقه والشريعة فقد أصبح فقه الفقهاء وآرائهم هي الشريعة، ومن هنا اختلف الاسلام والاسلاميين وكان للخلاف السياسي الأول حضورا لا بأس به في هذا الصدد، والذي وقع بين معاوية وعلي في واقعة التحكيم الشهيرة التي احتكموا فيها إلى كتاب الله ولكل فهمه للكتاب والذي عبر عنه الإمام علي رضي الله عنه بأن القرآن بين دفتي كتاب لا ينطق بل ينطق به رجال، ونستعير هنا مقولته المؤكدة على اختلاف الفهم والتأويل الذي كان بسببه افتراق الأمة والتي قال فيها لبني أمية وعلى رأسهم معاوية "كنا حاربناكم من قبل على تنزيله واليوم نحاربكم على تأويله"، هذا الخلط الدائم بين المفاهيم لهو الذي يحدث دوما التطرف والعنف كما سوف يبين الباحث في هذه الورقة.


الدين والتدين:

من بين المصطلحات التي تحدث فرقة ايضا بسبب عدم تدقيقها مصطلحي الدين والتدين حيث ندخل ما هو تديني أو ممارسة دينية أو فهما خاصا لشخص ما إلى إطار الدين المقدس الذي لا يجب أن نحيد عنه ونطبقه كما قال أو كما فعل فتصبح الفتوى وهي من الرأي القابل للصواب أو الخطأ، تصبح دينا وجب علينا اتباعه.

ويرى عبد الجواد ياسين في كتابه المعنون "الدين والتدين" أن التدين أدى إلى تضخيم الدين بحيث صار ما هو اجتماعي أكبر مما هو مطلق في منطوق البنية الدينية التي تعمم على مكوناتها، تلقائيا، صفة القداسة المؤيدة، على اعتبار أن الدين يقدم ذاته كحقيقة مطلقة قادمة من خارج الاجتماع.

كما يقول عبد الجواد ياسين في كتابه، إن هناك الدين وهو الأخلاق الكلية العامة التي تخاطب البشر جميعا وهي جوهر الدين وكل الأديان ويعبر عنها في الإسلام الآيات الواردة في القرآن المكي، أما الآيات الواردة في القرآن المدني فهي آيات التشريع وهي تشرع لجماعة متحركة بالوقائع والأحداث ومن ثم فالنص بالضرورة يتضمن بعدا اجتماعيا له علاقة بالواقع الذي يجيب عن أسئلته. فالكاتب يرى أن النص التشريعي في الحالة المدنية له بعد اجتماعي يجيب عنه، وله واقع اجتماعي يتحرك فيه، ومن جهة أخرى هي لحظة الواقع الاجتماعي الذي يتجادل النص معه. هو يذهب إلى أن النص يتم تحميله مع التطور التاريخي للجماعة باجتهاد الجماعة في حركتها ومسيرتها وتحولاتها وتعقيداتها، وهو يرى أن ذلك هو التدين – أي إضافة رؤية الجماعة للدين، ويشرح كيف أن المؤسسة الدينية في الخبرة السنية ممثلة في الإمام الشافعي قد أسست لما يطلق عليه الرؤية السنية للنص والتشريع بحيث قطعت بشكل يكاد يكون كليا مع الواقع الجاهلي الذي اشتغل عليه النص القرآني وعالجه. إذ يسوق القاضي عبدالجواد ياسين أمثلة متعددة على معالجة النص القرآني للواقع الجاهلي، كما في حالات الزواج مثلا وكيف كان حوار النص القرآني بالأساس مع هذا الواقع، وبالطبع ضرب حالات متعددة مثل الجهاد وكيف أن الذهاب من جانب الفقه الإسلامي السني إلى أن آيات الجهاد تتجاوز ذلك الواقع إلى استنتاجات تفضى- كما يذهب– إلى مواجهة العالم كله وقتاله! عبدالجواد ياسين وهو يناقش علاقة التشريع بالنص كان متحررا بكل ما تعنيه الكلمة من عبء أي قيود مذهبية أو فكرية أو أيديولوجية، وهذه مسألة تعز في واقعنا المعاصر، لقد كان منحازًا فقط للانتصار للأخلاق الكلية العامة في الدين الإسلامي التي تحترم العدل والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية لأبعد مدى. التدين في الخبرة السنية– وفق عبدالجواد ياسين- حيث أضاف على الدين حمولة اجتماعية ظنها من جاء بعدهم من المسلمين دينا وهي تدين، أي أن التدين هو ميراث رؤية الجماعة لذاتها وللنص بعد اكتماله ومن هنا فهو يرى أن العقل السلفي تأسس مع رؤية الفقهاء القدامى للنص بعد اكتماله وإغلاقه بهذا الاكتمال ولأن الواقع متحرك فإن الجماعة خاصة الفقهاء والسلطة يسعون لفتح النص من خلال تأويله بما يتسق والمستجدات الجديدة. سوف نرى اليوم تحميلا هائلا للدين من خلال استدعاء التدين في عصر قديم، وهو ما يحتاج منا لموقف جديد يؤسس لعلاقة بين النص والواقع والتشريع بحيث تمنحنا كمسلمين معاصرين فرصة العودة لقيم النص الديني مع التخفيف من آثار التدين القديم وحمولته على الدين. لكل أمة تدينها، أي فهمها للدين، ولكل عصر تدينه، وهو ما يحتاج منا لاجتهاد جديد نبنى به تديننا المعاصر حول العلاقة مع العالم والعلاقة مع الإنسان والعلاقة مع التنمية والنهوض من التخلف، والعلاقة مع النظم السياسية، والقدرة على تقديم إجابات تديننا عن أسئلة عصرنا. 

    الاكثر قراءة