الثلاثاء 14 مايو 2024

كيف سرق العثمانيون العرب

فن1-11-2020 | 20:24

تبدأ علاقة المسلمين العرب بالعثمانيين منذ انتصارهم على المماليك في عام 1516، وتنتهي بهزيمتهم على أيدي قوى أجنبية، ففي مصر كانت النهاية لحظة دخول الفرنسيين مصر بقيادة نابليون بونابرت، عام 1798م، وفي الشمال الإفريقي بدخول فرنسا في عام 1830 للجزائر وتونس والمغرب، وفي ليبيا بدخول الطليان عام 1914، والشام بدخول الفرنسيين والإنجليز عام 1919، ما بين ضم الأقطار العربية للعثمانيين وخروجهم مهزومين ثلاثة قرون. 

ثلاثة قرون جثم المحتل العثماني على جسد الأمة العربية ولم يتركها إلا وقد جرف البنية الاقتصادية والفكرية والثقافية والاجتماعية، وفرغ الأقطار العربية من أي  حراك فكري أو نقدي أو ثوري، كان العثمانيون قبائل محاربة تعرف القتل والسحق وحرق القرى، لا تعرف حضارة ولا فكرا ولا ثقافة، فظنوا أن أفضل طريقة للسيطرة العسكرية على الأقطار العربية عبر إفقارهم ماليا وفكريا، فأصبح من العسير بعد مغادرتهم أن يستقل العرب سياسيا أو اقتصاديا فسقطوا سريعا في أتون الاستعمار الغربي.

تستحق الثلاثمائة عام من الحكم العثماني مزيدا من الدراسات الأكثر عمقا "اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية"، دراسات تتجاوز الانحياز الأيديولوجي المؤيد للعثمانيين، أو المعادي لهم من نظرة شعوبية بحتة، نحتاج إلى دراسات تكشف كيف تم استنزاف الموارد والطاقات وسرقة الإنجازات وامتصاص كل خيرات الوطن العربي لصالح العثمانيين، دراسات تحاول الإجابة عن سؤال لماذا تعمدوا تخريب مقدرات تلك البلاد؟ لماذا تركوا بلادا خرابا لا تقوم لها قائمة، دراسات تتبع نتائج هذا التخريب المتعمد الذي جعلنا نسقط في يد المحتل الغربي بسهولة، ولم ننتصر عليه  إلا بعد أن أصبح لدينا مشروع تحرري قومي.


بداية سلب مقدرات البلاد الاقتصادية 

كانت البداية عندما أُعلن أن السلطان هو المالك لكل الأراضي العثمانية، وأن الولاة هم نوابه في تحصيل الأموال المستحقة له من تلك البلاد، فقد كان للدولة العثمانية نمطُها الخاص في الحكم، المرتكز إلى حد كبير بالعادات والتقاليد التركية، والاقتباس من الدول السابقة كالدولة السلجوقية والبيزنطية، ويعتبر السلطان العثماني هو الحاكم الأعلى للدولة، وتجتمع لديه صلاحيات الحكم كلها: التشريع والتنفيذ والقضاء، ولكنه لم يمارسها بنفسه بل فوض معظمها إلى غيره من الولاة في الأقطار المختلفة؛ فقسموا المجتمع لفئات طبقية فهناك طبقة السلاطين، يليها طبقة البكوات، وبقايا المماليك، وهؤلاء ينعمون بالثروة والنفوذ، ثم الطبقة العامة وهم الأغلبية من الشعب ويعانون الفقر، ثم فرضوا عليهم العزلة، فلم ينفتحوا على الثقافات والشعوب الأخرى، ولم يطالعوا أحدث ما وصل إليه الآخرون من تطور ورقي ونهضة، فعاشت الأقطار العربية التي تحت أيدي العثمانيين  في عزلة ورجعية وتخلف ظللنا نعاني منها قرونًا.


انتزع العثماني الأراضي من أصحابها وملاكها الحقيقيين، ومنحها لمن يريد، فقد بدأ سلسلة من الإجراءات، إضعاف متعمد للقوة الاقتصادية في الأقطار العربية لصالح الخزينة في إسطنبول، قسموا الأراضي إلى المقاطعات فكل عدة قرى متقاربة تكون مقاطعة، عليها عامل يعد مسئولا عن المال الميري المقرر عليها، وهذه المقاطعات قسمت أراضيها لثلاثة أقسام، أراضي الالتزام وأراضي الرزق وأراضي الطلاق، أما أراضي الالتزام فهي (أراضي الفلاحة وأراضي الوسية) أما أراضي الفلاحة هي ما يقوم المزارعون بزراعتها ودفع الضرائب المستحقة عليها، وكانت الدولة تمنح الفلاح حق الانتفاع بالأرض من خلال (عقد الطابو) وهو بمثابة إجارة متجددة مشروطة بدوام زراعة الأرض وسميت بالتزام لأن العثمانيين باعوا حق جمع هذه الضرائب لشخص سمي ملتزما لأنه يلتزم أمام الوالي، بدفع قيمة الضرائب المستحقة على ناحيته مقدما ويسمح له بجمعها بالقوة من الفلاحين فأرهقوا الناس بالضرائب وحصلوا من الناس أكثر مما دفعوه للسلطان، والقسم الثاني من أراضي الالتزام "الأوسية" ومفردها الوسية، وهي مساحة من الأرض صالحة للزراعة توهب للملتزم له ولأبنائه ومعفاة من الضرائب ويقوم الفلاحون بزراعتها للملتزم بالسخرة بدون مقابل، حتى صارت عبئا من الأعباء الملقاة على عاتق الفلاحين، فقد اتبع الموظفون أساليب غير مشروعة لزيادة متحصلاتهم من الفلاحين وتعسفوا في معاملاتهم، قام المفتشون في كثير من المقاطعات بزيادة تقدير الضرائب عما هو مخصص له، مما أدى إلى كثير من الفوضى وإرهاق الفلاحين حتى اضطروا إلى ترك أراضيهم دون زراعة فتدهورت الزراعة في كثير من المناطق.

القسم الثاني من الأراضي وهي أراضي الرزق وهي ما أنعم بها السلطان على بعض الناس  وأصبح حق الانتفاع بها ينتقل بالميراث، أما القسم الأخير فهي أراضي الطلاق أو التلاق وهي الأراضي التي خصصت لمراعي خيل الباشا والبكوات من المماليك  في مصر.

حرص العثمانيون على ترسيخ التخلف في أقطارنا العربية عبر توطين الفقر والجهل والمرض، ففرضوا الضرائب الباهظة على المواطنين مما أدى إلى إفقارهم بشكل ممنهج، والضرائب وقتها ليست كالضرائب المعروفة اليوم في علم المالية الحديث، ولكن يقصد بها كل ما تفرضه الدولة على الرعية من تكاليف مالية، سواء كانت تحويلات أو ضرائب أو رسوما ، وهو ما يسمى بالمال الميري، وهو مال واجب السداد ومتعدد الأشكال ويتم تحصيله بالقوة إذا لزم الأمر. 

تفنن العثمانيون في فرض الرسوم والضرائب على البسطاء فحصلوا مقابل الأرض الزراعية من الفلاحين تحت اسم( رسم الجفت) و(الإسبنج)، و(الديموس) وفرضوا ضرائب على الأراضي غير الصالحة للزراعة والمعطلة اسمها ضريبة (جفت بوزان) وحصلوا ضريبة من الرجال القادرين على العمل ولا يعملون اسمها (رسم البَناك) حصلوها من الشباب المقيم في القرية مع القدرة على العمل وليس لديه حيازة (جفت كامل) كما حصلوا رسوما من الشباب العازب وحصلوا ضرائب على العبيد الهاربة أو الماشية الضالة اسمها رسم (الآبق والضال) يدفعها المالك، وحصلوا الجزية من غير المسلمين وحصلوا رسوما على الخنازير اسمها ضريبة (رسم الخنزير- الخنازير) وحصلوا الزكاة من المسلمين تارة باسم "رسم الأغنام" أو "العشر" أو زكاة المحاصيل التي تراوحت من 10% الى 50 % من المنتج، وحصلوا من التجار رسم "الجمارك" ورسوم "العبور من فوق الكباري" كما فرضوا الرسوم العرفية التي يقررها السلطان أو الوالي على الناس مقابل الخدمات التي يحصلون عليها  مثل ضريبة الزواج على الفلاحين وهي بنسب متفاوتة يحصلها أهل العرف أي المأذون، كما حصلوا رسوما أخرى ليس لها ضابط ولا قانون مثل رسوم العوارض الديوانية أي الضرائب التي تفرضها الدولة في أوقات الطوارئ والأزمات والكوارث الطبيعية، أما رسوم (إعانة جهادية)، و(بدل النزول)، فهي في أوقات الحروب تتمثل في تحصيل مؤن الجيش من طعام الجنود وعلف الدواب، وتجبى عادة من المناطق الواقعة حول طريق الجيش، أما المناطق البعيدة فكانت الضريبة تجبى منها نقداً.

كل هذه الضرائب تقع على عاتق الفلاحين وهم عصب الدولة، وما يقدمونه للمجتمع من الأقوات التي لو توقفت لحدثت المجاعات، لكن العثمانيين كانوا يعلمون أن استقرار الأوضاع المالية والاقتصادية في المجتمع قد يؤدي إلى رفعة في الثقافة والعلم ومن ثم يمكن أن يناطحوا دولة السلطان، بل كان الأكثر سوءا وإمعانا في إذلال السكان الأصليين للأقطار العربية أنهم كانوا يستخدمون فرقا عسكرية تساعد الملتزم في جباية الضرائب وهي فرق السباهية، وهم جنود فرسان عثمانيون على درجات، ويعتبرون هم "فئة سلاح الفرسان الثقيلة" في الجيش العثماني، وكانوا يقيمون في الأراضي التي يضمها الجيش العثماني، وكانوا يُعفون من كل التكاليف مقابل الدفاع عن أهل تلك المناطق، هؤلاء الجنود ارتكبوا الفظائع والجرائم التي يندى لها الجبين، والتي لم يرتكبها أي من الغزاة في أي عصر، ارتكبها العثمانيون وهم يخدرون الشعوب أنهم حماة الدين والدين من أفعالهم براء.

لعل كتاب( كشف الكربة في رفع الطلبة) لمحمد بن أبي بكر السرور البكري الصديقي ما ينقل بوضوح الخراب الذي تم على أيدي العثمانيين في مصر فيقول : " وقد كانت مصر قبل الآن قد اختل أمرها وضاقت معيشة أهلها وكثر شرها وخربت قراها وضعف فلاحوها وانفصمت عراها، وانقلبت أحوالها، وخست أموالها، ونقصت غلاها، خلافا لما أراد الله تعالى لها في القدم من نقلها من الوجود إلى العدم، وخراب البلاد، وهلاك العباد، وجلاء الفلاحين، وازدراء الشرع المبين، وقد اتسع الخرق وازداد الحرق، وأصل ذلك كله قيام طائفة من الجند المكتوبين، في بلاد الأرياف مع كشاف الأقاليم، فأظهروا العناد وسعوا في الأرض الفساد، وأحدثوا شيئا سموه الطلبة من الفلاحين والمزارعين في ساير الأقاليم وعلى العمالين، والبطالين، وصاروا يضاعفونها في كل سنة من السنين، إلى أن زادت على الأموال المقاطعات، بل عمت وطمت، ولم يقدر أحد على المرافعات، وغير ذلك من الأمور الشنيعة والأفعال المنكرة  من الزنا واللواط جهارا وافتضاض الأبكار نهارا، وحصل منهم غاية الحيف  مع الفسق بنساء الفلاحين، وأنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه ولا يأتمرون بأمر ولاتهم ولا يمتثلون وصار لهم أسمطة وأطعمة غالية المقدار تحمل إلى خيامهم ليل نهار، صار أرذل الجند وأقلهم، مقلدا بالسيوف المسقطة.

إن سياسة إفقار الشعوب العربية رغم بشاعتها لكنها لا تقارن بسياسة تجهيلهم التي ربما في وقت لاحق نتناولها بالتفصيل،  ليس من باب المبالغة في القول إن ما ورد في الأسطر السابقة لا يعد إلا قطرة في بحر رذائل العثمانيين التي ابتليت بها البلاد العربية، لهذا أدعو المفكرين والكتاب والباحثين لمزيد من الدراسات حول تلك الفترة دون السقوط في فخ الأيديولوجية، بل دراسات اجتماعية تاريخية جادة تكشف عمق الأثر السلبي لفترة العثمانيين في تاريخ العرب.


    Dr.Radwa
    Egypt Air