الخميس 28 نوفمبر 2024

فن

العثمانيون في مهب النهضة: الأردنيون والثورة العربية الكبرى

  • 1-11-2020 | 20:31

طباعة

لا بد أن للنهضة العربية جذوراً عميقة، ظلت ضاربة في عقول وقلوب العرب امتداداً من مصر، وليس انتهاء بالأردن وسوريا، إلا أنها وطوال عقود متتالية من وجود الإمبراطورية العثمانية، ظلت تحتاج جسداً يصوغ طموحاتها وآمالها، إلى أن حان العام 1916 فانطلقت الثورة العربية الكبرى، ووجدت لها أصداء في عقول وأحلام العرب.

ولعل الثورة الكبرى، كانت وستبقى، كنايةً عن الشخصية العربية، التي حاولت الإمبراطورية العثمانية طمسها على مر عقودٍ من الحكم، لكنها لم تفلح في ذلك رغم كل شيء، وكان الأردن أحد البلاد العربية التي أسهمت بشكلٍ كبير، في حسم صورة الشخصية العربية خلال القرن العشرين، وذلك عن طريق الشريف الحسين بن علي، الذي سعى لتوحيد العرب الذين جاءوا من كل مكانٍ تقريباً وشاركوا في معركة ضد الإمبراطورية التي كانت تبني الجسور والسكك الحديدية، وتعتنق الدين الإسلامي، وتسمح للناس بممارسة حياتهم في المجتمعات العربية، لكن تحت نير الاضطهاد الممنهج من خلال قوانين تجعل مصلحة إسطنبول في السلم والحرب والتجارة والسياسة والمجتمع والثقافة؛ أهم بكثيرٍ من العرب ومستقبلهم.

ومن الجدير بالذكر، أن الثورة العربية الكبرى، ممثلةً بالشريف الحسين بن علي والعرب، شكلت نموذجاً حقيقياً وعملياً للنزعة العربية إلى القومية والاستقلال، وهي نزعةٌ خالصة، لا علاقة واضحة لها بما يشاع عن التأثر العربي بـ "عصر القوميات" الذي اجتاح أوروبا منذ القرن التاسع عشر، ومثال ذلك ثورات المصريين المحلية ضد الأتراك منذ 1819 وحدث مثلها في بلاد المغرب العربي وليبيا وسوريا والعراق، وقد قُمعت هذه الثورات جميعاً بعنف، وفقاً للمراجع التاريخية عند أسعد داغر في كتابه "ثورة العرب" و"الثورة العربية الكبرى" لقدري قلعجي. إذ يُفرد الكتابان العديد من صفحاتهما، لشؤون القمع والتنكيل التي بات العثمانيون يستخدمونها من أجل طمس الشخصية العربية في جميع المجالات، خاصةً مع حلول الحرب العالمية الأولى.

وبالنظر إلى الأردن، فقد بدأت الثورات مبكرةً، منذ 1838 في مناطق حوران والكورة ومدينة عجلون الأردنية، إذ قاومت تلك الثورات كل المحاولات العثمانية للسيطرة التامة على أراضي الأردن وجزء من بلاد الشام، لكن تم قمعها بشدة، وأعدم عدد من قادتها مثل إسماعيل المجالي، ورباع الشريدة، وثلاثة شيوخ آخرين من مدينة عجلون، وامتدت تلك الثورات المحلية في الأردن بين مد وجزر حتى عام 1910 الذي شهد ثورة "هية الكرك" التي تعد واحدة من أهم الثورات الشعبية آنذاك ضد العثمانيين، إذ كان قوامها أردنيين بدو وفلاحين، رجالاً ونساء، يقودهم شيوخ عشائرهم خاصة الشيخ قدري المجالي إذ حاصروا القوات العثمانية في قلعة الكرك، وقاوموا بأبسط الأدوات من حجارة وعصي وأدوات فلاحة السيطرة العثمانية في جنوب الأردن، وتسببوا في قتل 20 جندياً عثمانياً، كـ ردٍ على نظام الجباية والتجنيد الإجباريين، اللذينِ كلفا الناس في ذلك الحين حياتهم وممتلكاتهم بشكلٍ متكرر؛ تلك الثورة امتدت إلى مدن أردنية أخرى مثل معان، وجرش، والمفرق، ووصف الباحث والمؤرخ السوري منير الريس في كتابه "الكتاب الذهبي للثورات الوطنية في المشرق العربي" ثورة أهل الكرك في 1910 على أنها "إحدى الثورات المجيدة في فجر النهضة العربية"، التي خلدها بسطاء الأردنيين ومثقفوهم وشيوخهم بالشعر والأدب والرقص الشعبي المعروف بالدبكة الأردنية أو (الهية)، وانتقدوا بجرأة قمع العثمانيين لهم، مؤرخينَ لثورةٍ لن تنتهي.

وكان لثورة الكرك هذه، أهميتها التاريخية والاجتماعية والسياسية، رغم إخمادها لاحقاً، فقد ظلت نيرانها تلمع من تحت الرماد، منذرةً بوجود مجتمع عربي، مهما تعددت وجوهه، المدنية والقبلية، وتنويعاته في الوطن العربي، فإنه يستشعر محاولات طمس هُويته التاريخية العربية من قبل العثمانيين الذين لم يروا في أيامهم الأخيرة المنطقة العربية إلا منجماً لرجال يتم أخذهم إلى الحرب دون عودة، وأراضٍي يجب أخذ خيراتها ليظل لسكانها الفقر يحصدونه فيقتلهم، إضافة إلى ضعف وتخلف النظام التعليمي العثماني، وعدم احترام اللغة العربية وتراثها، ومحاولات العثمانيين هدم الشخصيات العربية المؤثرة علمياً وسياسياً، وإبقاء الحكام العثمانيين متحكمين في المدن والعواصم العربية وشؤونها، ويتمثل هذا في نفي الشريف الحسين بن علي إلى إسطنبول لأعوام، ممنوعاً عن طموحاته وأحلامه تجاه وطنه العربي الكبير، حتى عاد بعد ثورة الكرك وأقام في الحجاز، ليثور بعد ذلك، ويعلن برصاصةٍ واحدة انطلاقة الثورة العربية الكبرى.

وظهر إلى جانب الشريف الحسين بن علي وابنه الأمير فيصل بن الحسين رحمهما الله وطيب ثراهما، أبطال أردنيون مثل عودة أبو تايه وحمد الجازي، واجتمع هؤلاء لإعادة تعريب الأمة العربية، وكان الهدف للشريف الحسين والأردنيين، إعلاء اللحظة العربية في وقتٍ ما من التاريخ، ضد لحظة عثمانية أخذت تثقل كاهل العرب بما فيها من فساد وضعف، كان يهدد العرب باستعمار غربي وشيك، على حساب إمبراطورية لم تعد قادرة على حماية العرب ولا حتى حماية نفسها، وربما أن النجاة بتركيا بعد عام 1920، وترك الوطن العربي عرضة للاحتلال، الواقع الحي الذي يعبر عن هذه الفكرة بوضوح، فقد عانى العرب بعد ذلك الاحتلال، ولم يكن ذلك يرضي طموح المصريين ولا الأردنيين ولا السوريين أو أي عربي حر.  

لذا، فإن أحد أهم أهداف الثورة العربية الكبرى المضمرة، كان إعطاء فرصة للعرب لقيادة أنفسهم بأنفسهم، وبالتالي، الدفاع عن أنفسهم وأوطانهم ضد أي استعمار، ومهما كلف ذلك من ثمن، ولأن الأردن كان مسرح العمليات الأوسع للثورة العربية الكبرى، فإن هزيمة العثمانيين في معاركهم ضد العرب والأردنيين، كانت بداية نهاية الدولة العثمانية التي أصبحت مفرغة من مضامينها الإسلامية والثقافية التي قامت عليها، وبدت آيلة للسقوط في عصر التطور القومي والاجتماعي في بدايات القرن العشرين، لكنها تقاوم للحفاظ على مساحة واسعة من الأراضي ليس إلا، وغالباً، من أجل الإبقاء على آمالها الإمبراطورية في مفاوضات ربما تسمح لها باقتطاع مساحة أوسع من أجل تركيا المستقبل، لا من أجل وطن عربي حر. 

وفي هذا السياق، يقول المؤرخ الأردني محمد يونس العبادي إن الوسيلة الإعلامية الوحيدة للثورة في ذلك الزمن، وهي صحيفة "القِبلة" ركزت على يوميات الثورة، ووصفتها بأنها نهضة في محاربة "ثالوث الفقر والجهل والمرض" وفي هذه الجملة الأخيرة، دليل على الوضعينِ الأردني والعربي تحت سلطة العثمانيين في سنواتها الأخيرة.

ولعل الفضل في انتهاء الحقبة العثمانية، بينما تحولت حاجزاً بين العرب ومستقبلهم، يعود إلى الثقافة العربية الأصيلة، التي فجر الشريف الحسين بن علي شرارتها، وهي تمثلت برفض الظلم، والفقر، ونظام إحصاء النفوس العثماني الذي انتشر في جنوب الأردن ووسطها، وفي بلاد الشام عامة، حيث كانت كل أسرة تتعرض للاستغلال، من خلال معرفة عدد أفرادها، وما تحصله من أملاك سواء المحاصيل والأراضي، أو الثروة الحيوانية، فيؤخذ أبناؤهم للعسكرية حتى يموتوا في معارك العثمانيين ضد أوروبا، أما محاصيلهم وثرواتهم فتكون لدعم الجيش العثماني، وبطريقةٍ إجبارية، تضع العائلات آنذاك أمام خيارين، إما الرضا بالظلم، أو الموت، واختار العرب أخيراً من خلال الثورة العربية الكبرى، أن يخاطروا بحياتهم، لكن ليس من أجل الآخرين، بل من أجل مستقبلهم، ونهضتهم، وفي النهاية، لا يمكن اليوم، تجاوز كل هذا التاريخ، من أجل محاولاتٍ سطحية للاجتزاء من التاريخ، واستعادة الدولة العثمانية، على أنها تمثل أمجاد العرب الغابرة التي ينبغي استعادتها، إذ أن الاستعمار الذي لحق بالعرب في القرن العشرين، كان سوف يحدث لا محالة، بسبب ما كرسته الدولة العثمانية البائدة، من عزلٍ تاريخي بين العرب وأسباب ازدهارهم، فقرر العرب في زمن الثورة العربية الكبرى، أن يمسكوا بزمام أمورهم، من أجل نهضة عربية منتظرة أياً أتت، وليس من أجل اجترار الاستعمار العثماني وسواه بأي شكلٍ كان.


    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة