الجمعة 27 سبتمبر 2024

أكاذيب العثمانيين المستمدة من تاريخهم

فن1-11-2020 | 20:39

 المراقب للأكاذيب التاريخية الغزيرة المتنوعة التي يتداولها العثمانيون القدماء والجدد بشأن غزو السلطان "سليم الأول" (1470-1520م) لمصر والشام، ربما يندهش من النطاق الواسع الذي تغطيه حتى لا تكاد تترك حدثا أو واقعة مهما بلغ حجمها دون أن تكتنفها بالصناعة والتزوير، من هذه الأكاذيب الحديث عن تنازل الخليفة العباسي في مصر عن الخلافة لأولاد عثمان، وهو ما لا يتوفر عليه دليل تاريخي واحد خصوصا أنه كان حدثا مثل التنازل عن الخلافة كان يعد عظيما لدى أبناء تلك العصور، ولا يجري دون أن يحضره الفقهاء والعلماء والعظماء وقواد الجند ويتم الإشهاد عليه في محاضر مختومة ممضاة موقعة، فضلا عن أن تنازل الخليفة العباسي عن الخلافة لغير قرشي – وغير عربي أيضا – من الأمور المستبعدة بعد أن استقرت عبر القرون قاعدة أن الخليفة من قريش كقاعدة دينية يحرم المساس بها.

 

من قبيل الكذبات أيضا الحديث عن أن الغزو العثماني للشام ومصر جرى عقب "استغاثة" أهل الشام ومصر بالسلطان سليم الأول ليرفع عنهم ظلم المماليك، وهو ما تكذبه أحداث المقاومة الشعبية للغزو العثماني سواء عن طريق قبائل العربان أو أهل المدن الذين روعتهم مظالم العثمانيين الغزاة، ويذكر منها الكثير المؤرخ المصري "ابن إياس"، ولو كان غزو العثمانيين لمصر جرى باستغاثة أهلها ما أبيحت القاهرة للنهب والهجم والقتل والخطف ثلاثة أيام بمجرد دخول عسكر العثمانيين والانكشارية إليها.

 

من أكاذيب المؤرخين العثمانيين القدماء والجدد كذلك عزوهم غزو "سليم الأول" لسلطنة المماليك في مصر والشام إلى أن المماليك تعاونوا مع الدولة الشيعية في فارس بقيادة "اسماعيل الصفوي" والذي كان في حرب ونزاع مستمرين مع العثمانيين، وهو الأمر الذي تستبعده العلاقات الحسنة بين سلطنة العثمانيين وسلطنة المماليك باستثناء بعض النزاعات المحدودة على حدود المملكتين، وهي نزاعات لم تمنع السلطنتين من التفكير في تجييش حملة عسكرية مشتركة لإغاثة مسلمي الأندلس، وكانت هذه الحملة لتتم لولا النزاع الذي نشب بين أولاد السلطان بايزيد (1447-1512م) فأشغلت العثمانيين عنها، كما تستبعده الكتابات المتبادلة بين السلطانين "قنصوة الغوري" (1441-1516م) و"سليم الأول" وقت غزو العثمانيين لمصر، وتستبعده بالطبع تلك الأسئلة الثلاثة التي وجهها "سليم" إلى مفتيه "علي أفندي الزنبيلي" (1445-1526)  ليحصل عبر الإجابة عنها على فتوى بتكفير المماليك وتكفير أهل مصر والشام قاطبة، ومنها سؤال حول قتال الذين يصكون الشهادتين على العملة وهم يعرفون أن هذه النقود تقع في أيدي النصارى واليهود وأهل الفرق وتحمل في دورات المياه فهل يجوز قتالهم؟!! وكانت الإجابة كما هو معروف: يجوز قتالهم!!

 

 

التخلي عن قيم الفروسية

 

لا تتسع مساحة المقال لتفنيد مفصل للأكاذيب العثمانية المتنوعة، وإنما يحاول الإجابة عن سؤال عن مصدر هذه الأكاذيب التي ترتبط بتاريخ وحاضر العثمانيين وسبب غزارتها على هذا النحو الذي لا نجده عند الغزاة الآخرين في نفس الفترة، والنتيجة التي يمكن الوصول إليها عبر المراجعة التاريخية أن هذه الأكاذيب من نسيج الاحتلال العثماني نفسه وناتجة عن تحالف عوامل وسمات متجذرة في طبيعته ذاتها، وهي طبيعة تجعل من التزييف والتدليس والخداع استراتيجية لاكتساب القوة وسحق الخصوم، ليس بالمعنى الذي يتعلق بالاستراتيجيات والخطط العسكرية كما في العبارة المأثورة "الحرب خدعة"، ولكن بمعنى التخلى عن كل خلق للحرب والسلم والجوار، والاستهتار بكل قيمة مهما كان شأنها في سبيل تحقيق الأطماع المادية عبر الخداع والخيانة والدهاء، وهو ما يجعل من الكذب مرتكزا رئيسيا من مرتكزات الحرب والاحتلال العثمانيين، كما كان أحد الأسباب الرئيسية للهزيمة القاسية التي نالها المماليك في مصر والشام على أيدي العثمانيين. 

كان المماليك لا يزالون يحملون أخلاقيات الحرب وقيم الفروسية التي امتازت بها نخب الفرسان والملوك والنبلاء في العصور الوسطى الإسلامية، وهو ما نقله الفرسان الصليبيون خلال حروب الفرنجة في الشرق وانتشرت فيما بعد في أوروبا الإقطاعية، تجرد العثمانيون من قيم وأخلاقيات الحرب معا منذ وقت مبكر في تاريخهم القتالي مما كان مفاجئا ومدهشا ومرعبا حتى بمقاييس تلك العصور.

 

لا أخلاقية الحرب

سأل "الحباب بن المنذر" النبي - صلى الله عليه وسلم - في موقعة بدر إن كان موقع المسلمين بتوجيه من الله أم أنها الحرب والمكيدة، قال له النبي إنها الحرب والمكيدة، فكانت المكيدة النزول أسفل الماء وليس أعلاه ليشرب المسلمون ويحرم من ذلك الجيش المهاجم، وأشار "سلمان الفارسي" في موقعة الأحزاب ببناء خندق يحمي المدينة من عصف الجيوش المجتمعة عليها، وهاتان الواقعتان معا تحددان مفهوم المكيدة العسكرية بوصفها أمرا يتعلق بالخطط والاستراتيجيات القتالية والوضع في الميدان، لكنها لا تمس أخلاقيات المحاربين وإلا صارت الحرب نزاعا لا أخلاقي يستوي فيه الحق والباطل، هذا المفهوم الأخلاقي للحرب كان طبقا لكتابات المؤرخين العنصر الأبرز الذي يخلو منه مجمل السلوك الحربي والعسكري لـ"ابن عثمان"، بحسب تعبير المؤرخ المصري "ابن إياس" وكان شاهدًا عيانًا على الغزو العثماني لمصر والشام.

 

في يوميات ربيع الآخر سنة 922هـ من مدونة "بدائع الزهور في وقائع الدهور" يذكر "ابن إياس" فحوى مكاتبات وصلت من "سليم الأول" إلى السلطان "قنصوة الغوري" قال فيها: "أنت والدي وأسألك الدعاء وإني ما زحفت إلا بإذنك (يقصد الخلافات الحدودية بين الدولتين المملوكية والعثمانية).. وأما التجار الذين يجلبون المماليك الجراكسة فإني ما منعتهم إنما هم تضرروا من معاملتكم في الذهب والفضة فامتنعوا من جلب المماليك إليكم، وإن البلاد التي أخذتها أعيدها إليكم وجميع ما يرومه السلطان فعلناه".

وفي يوميات رجب سنة 922هـ يروي حادثة "قصّاد من عند سليم شاه" كان أحدهم قاضي عسكر "سليم الأول" وحملوا له رسالة شفوية تقول: "نحن فوض لنا أستاذنا الأمر وقال مهما اختاره السلطان – يقصد "الغوري" – افعلوه ولا تشاوروني". ويتابع المؤرخ: "وكل هذا حيل وخداع حتى يبطل همة السلطان عن القتال ويثني عزمه عن ذلك وقد ظهر ذلك فيما بعد".

 

ويقول في يوميات نفس الشهر: "ومن جملة مخادعة ابن عثمان إلى السلطان أنه أرسل يطلب منه سكرا وحلوى فأرسل إليه السلطان مائة قنطار سكر وحلوى في علب كبار، وكل ذلك حيل منه"، ثم أن قاضي ابن عثمان أحضر فتاوى من علماء بلادهم وقد أفتوا بقتل شاه إسماعيل الصفوي وأن قتاله جائز في الشرع"!!، وبالطبع كان في جعبة "سليم" فتاوى مخفية بتكفير المماليك وأهل مصر والشام وجواز قتالهم في الشرع !! ويكمل"سليم": "السلطان والدي وأسأله الدعاء لكن لا يدخل بيني وبين إسماعيل الصفوي (شاه إيران فيما بعد) فإني ما أرجع عنه حتى أقطع جادرته من على وجه الأرض فلا تدخل بيننا بشيء من أمر الصلح" !! وبالطبع لم يكن "الغوري" مهتما بعقد صلح بين "سليم" و"إسماعيل" لكنه كان مهتما باستطلاع وجهة الجيش العثماني الذي خادعه "سليم" عنها.

 

الأشنع من ذلك ما ارتكبه "سليم الأول" ضد رسل السلام الذين أرسلهم إليه "قنصوة الغوري"، بعد أن أخلع الأخير على رسله الخلع السنية وصرفهم مكرمين، يروي "ابن إياس": "ثم وردت الأخبار بأن سليم شاه ابن عثمان قبض على قاصد السلطان الذي جهزه إلى ابن عثمان ووضعه في الحديد، وكان السلطان أخلع على قاضي عسكر ابن عثمان ووزيره خلعا سنية وأذن لهم بالعودة إلى بلادهم، وكان هذا "عين الغلط" من السلطان الذي أطلق قُصّاد ابن عثمان قبل أن يحضر قاصده ويظهر له من أمر ابن عثمان ما يعتمد عليه"!! حتى بمعايير حروب تلك الأزمنة كان انحطاط الأخلاقيات العسكرية التي أظهرها العثمانيون مربكًا.

 

انتصار مرهون بالخيانة

 

في بداية موقعة "مرج دابق" انتصر الجيش المصري انتصارا ساحقا يعبر عنه "ابن إياس" بقوله: "فقاتلوا قتالا شديدا فهزموا عسكر ابن عثمان وكسروهم كسرة مهولة وأخذوا منهم سبع سناجق (رايات)، فهمّ ابن عثمان بالهرب أو بطلب الأمان، وقد قتل من عسكره فوق العشرة آلاف إنسان، وكانت النُصرة لعسكر مصر أولا"، لكن هزيمة جيش "الغوري" أتت على يد نائب حلب "خاير بك" الذي اعتاد "سليم" على مناداته فيما بعد بلقب "خاين بك"! كان "خاير" بتعبير المؤرخ المصري "موالسا على السلطان في الباطن" فأصدر أمره بتراجع مسيرة الجيش في ذروة القتال وأخذ يلقي بالمنافرة بين كتائبه حتى تم انكساره، ويقول المؤرخ إن السلطان "الغوري" لما تحقق هزيمته بهذه الطريقة: "نزل عليه في الحال خلط فالج أبطل شقته وأرخى حنكه فطلب ماء فأتوه بماء في طاسة ذهب، فشرب منه قليلا، وألفت فرسه على أنه يهرب، فمشى خطوتين وانقلب من فوق الفرس إلى الأرض، ومات من شدة قهره".

 

ولما دخل "سليم الأول" حلب منتصرا زين له "خاير بك" المدينة لكن رموزا أخرى للخيانة أسفرت: "التف عليه الخواجا إبراهيم السمرقندي والخواجا يونس العادلي والعجمي الشتقشي، وكان هؤلاء من أخصاء الغوري (!!)، وكانوا مع ابن عثمان في الباطن ويكاتبونه بأحوال السلطان وما يقع من أخبار المملكة، فلما فقد السلطان أظهروا عين المحبة لابن عثمان، وصاروا يحطون على الغوري ويذكرون أفعاله الشنيعة إلى ابن عثمان، وصاروا من جماعته ونسوا إحسان الغوري إليهم".

 

 

 

 

سلاح الجواسيس

يعد هذا السلاح الأهم بين أسلحة الجيش العثماني ولولاه ما نجح في اجتياح جيش "الغوري" في "مرج دابق" ولا من احتلال مصر فيما بعد، والفاصل بين الموقعتين كان في الكثير منه حرب سلاح الجواسيس، فمنذ شوال 922هـ يورد "ابن إياس" الأنباء الكاذبة التي كان يرسلها العثمانيون باستمرار إلى مصر بعد أن قاد مقاومتها القائد البطل "طومان باي"، عشرات الجواسيس يدخلون مصر في هيئة الفارين من الأسر ليخبروا بأن: "ابن عثمان منذ دخل الشام تلاشى أمره، ووقع الوخم في عسكره فصار يموت كل يوم منهم جماعة، وعز عندهم وجود الأقوات من الغلال والعلف" و"أن عسكر ابن عثمان مختلف عليه وقد وقع بينه وبين خاير بك نائب حلب وربما أشاعوا قتله".

وفي خبر دال على مدى تعويل العثمانيين على سلاح الجواسيس في حروبهم يذكر "ابن إياس" واقعة إرسال خمسة عشر قاصدا تمكنوا عبر رشوة العربان من سلوك طرق صحراوية مجهولة: "فما شعر بهم أهل مصر إلا وهم في وسط المدينة، فلما صدفوهم قبضوا عليهم، فبينما هم على ذلك فرأوا ثلاثة أنفار من الأروام الذين في خان الخليلي قد أتوا إليهم وسلموا عليهم و"باسوا" أيديهم، فقبض عليهم المماليك وقالوا لهم: من أين علمتوا أن هذا القاصد يجيء اليوم حتى أتيتم إليه ما أنتم إلا جواسيس من عند ابن عثمان"!

وفي يوميات ذي القعدة سنة 922هـ يروي المؤرخ أن "عبدالبر ابن محاسن" أحد جواسيس العثمانيين عندما قبض عليه ومثل بين يدي "طومان باي": "شرع يطنب في أوصاف ابن عثمان وفي تزايد عظمته، فمن جملة ما حكى أنه لما دخل إلى حلب قطع في يوم واحد ثمانمائة رأس من جماعة أهل مصر، من جملتهم خليفة سيدي أحمد البدوي وآخرون من الأعيان ممن تخلفوا بحلب، وأخبر أن عسكر ابن عثمان فوق ستين ألف مقاتل، وأنه خطب باسمه من بغداد إلى الشام على المنابر" و"أخبر ابن عثمان ينحجب عن عسكره أيامًا لا يظهر فيها، ففي هذه المدة يفتك عسكره في المدينة ويتجاهرون بأنواع المعاصي والفسوق، وأنهم لا يصومون في شهر رمضان ويشربون فيه الخمر والبوظة، ويستعملون فيه الحشيش والشخيب، ويفعلون الفاحشة بالصبيان المُردة، وأن ابن عثمان لا يصلي صلاة الجمعة إلا قليلا". تلك الصورة التي قصد بها أن تفت في ثبات المصريين كانت الصورة التى انكشفت واقعيتها بعد الهزيمة.