السبت 29 يونيو 2024

الاحتلال العثماني... غُصَّة قديمة في مرآة الأدب والدراما

أخبار1-11-2020 | 20:46

الأدب صوت الجماعة، بمعنى أنه يعبر عن العقل الجمعي لأصحابه في مستوى من مستوياته، كما يعبر عن العقل الجمعي للإنسانية في مستوى آخر، والأدب العربي حين تتردد فيه مقولات معينة أو أفكار معينة بكثافة فإن هذا يعني بشكل حتمي أن تلك هي أقوال العرب أو أفكارهم المركزية أو هذه هي ذهنيتهم، أو على الأقل لنخبتهم، فتشريح الأدب تشريح لعقليتهم، وكذلك كل الأمم أو المجتمعات. 

الأدب القوي لا يتملق أحدا أو يجامل أو يبالغ ويهول بل يصدر عن عفوية تعكس اللاوعي الجمعي وينطق بالحقيقة الصعب قولها دفعة واحدة أو في مرة عابرة، لأن الأدب بشكله التاريخي مقولات متراكمة عبر الزمن. 

ربما يكون اكتشافا بالنسبة للباحث قبل القارئ أن الأدب العربي في الحقبة الأخيرة لا يزال يتجه إلى التعبير عن المرارة القديمة للعرب من الاحتلال العثماني، والحقيقة أن هذه المرارة في بعض الأحيان تكون أكثر ألما لأنها تأتي ابنة لخديعة وحدة الدين، فالاحتلال العثماني الذي جاء نتيجة ضعف دولة المماليك يبدو غريبا جدا وغير منطقي، في مقابل الأشكال الأخرى من الاحتلال المتوقع مثل الاحتلال الفرنسي أو الإنجليزي، فهذه الحروب بين الأديان متجذرة في التاريخ وتعد مسألة متوقعة ومعتادة وابنة عصور قديمة معروف فيها إغارة أمم مختلفة الدين تحديدا على بعضها مثلما اجتاح العرب المسلمون العالم شرقا وغربا في القرنين السابع والثامن الهجريين أو اجتياح أوروبا المسيحية للعالم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأول القرن العشرين، كل هذه الحروب تبدو منطقية حتى في قسوتها وجزء من طبيعة العالم، لكن الغريب ما فعله العثمانيون الأتراك الذين شذوا عن كل الدول العديدة التي حكمت وهي ترفع راية الإسلام، لأن كل الدول والسلاطين الإسلامية لم تكن تغير وتحتل، تضم بلادا يضعف حكامها إلى رايتها ولواء حكمها، نعم لكنها تتخذ الحكام والإداريين من البلاد نفسها وتصطبغ هذه السلطة الوافدة بصبغة البلد الذي تضمه إلى حكمها وهذا ما نجده مع صلاح الدين الكردي أو الأيوبيين حين حكموا مصر أو المماليك وغيرها الكثير من الأمثلة، أما اعتماد دولة مركزية في عاصمة واعتماد إيفاد القوات إلى ولاية والعمل على إخضاعها والجباية منها أو حلب خيراتها فهي المرة الوحيدة التي يمكن رصدها في تاريخ ممالك المسلمين وأنظمة حكمهم كافة، هذا في تقديرنا الشخصي من الناحية التاريخية وبعيدا عن مغالطات أساتذة التاريخ من جماعة الإخوان الإرهابية التي لا تمل المغالطة ولا تعرف غير التدليس في الحقائق التاريخية. 


المهم في قراءتنا انعكاس حال المرارة من الاحتلال العثماني في الآداب والفنون العربية لدى كثير من الكتاب والأدباء وحتى كتاب الدراما كما نجد ذلك متحققا في كل أعمال الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة على سبيل التمثيل. 

يتحقق التعبير عن إحساس المرارة العميقة من العثمانيين الأتراك في أدب كثير من الدول العربية ففي مصر نجدها في رواية مهمة "نوة الكرم" للروائية المصرية نجوى شعبان وهي الرواية الحاصلة على جائزة الدولة التشجيعية في الرواية التاريخية من سنوات بعيدة، ونجدها كذلك في روايات مصرية أخرى، لكن مع التركيز على الأعوام الأخيرة نجد صورة الاحتلال العثماني حاضرة في ثلاث روايات عربية صدرتا العامين الماضيين 2018 و2019 وهي من بلدان عربية مختلفة وتعمل على الحقبة التاريخية نفسها تقريبا، والطريف أنها كانت في قوائم جائزة البوكر العربية للعام الحالي هذه الروايات هي الديوان الإسبرطي للروائي الجزائري عبد الوهاب عيساوي، والثانية رواية آخر أيام الباشا للروائية المصرية رشا عدلي، والثالثة رواية (سفر برلك) للروائي السعودي مقبول العلوي، ووجود ثلاث روايات في عام واحد تقريبا يتجسد فيها مرارة الاحتلال العثماني وسلبيته أمر له دلالة مهمة. 


قسوة الاحتلال العثماني في غالبية هذه الروايات كانت هي السند الأهم الذي اعتمد عليه نابليون والحملات الفرنسية على الدول العربية، فكان المعلن من قادة الحملات الفرنسية وضباطها باستمرار أنهم جاءوا ليخلصوا العرب من تجبر الأتراك وظلمهم وجباياتهم وضرائبهم الظالمة دون أن يصنعوا أي شكل للنهضة أو الاهتمام بأي بلد بعيدا عن حدود دولهم ومدنهم وبخاصة الأستانة. 


في رواية عبد الوهاب عيساوي يتمثل رفض ظلم الأتراك والثورة عليهم في موقف أهم المناضلين من أجل تحرير الجزائر وهو شخصية "حمة السلاوي" الذي يساوي تماما بين الأتراك والفرنسيين ويختلف في رأيه عن ابن ميار الذي هو من الأعيان وكان متقبلا للأتراك دون الفرنسيين فقط لكون الأتراك مسلمين ولا يعتدون على المساجد، أما حمة السلاوي فهو الممثل للإنسان الجزائري المناضل لتخليص بلاده من كافة أشكال الاستعمار ولا يريد لها إلا أن تكون للجزائريين وحدهم. 

ويتبدى كذلك في هذه الرواية أن نظام الحكم العثماني قبل الاحتلال الفرنسي لم يكن نظاما حقيقيا للإدارة بكل كان تركيز الوالي العثماني على جمع الأموال والذهب والرشاوى من الأعيان، وفي الفترة الأخيرة قبل دخول الفرنسيين مباشرة تغير كثير من الحكام والولاة على الجزائر في مدة صغيرة لأنهم جميعا أهملوا صيانة المدن ولم ينشغلوا هم وجنودهم إلا باستباحة أموال الجزائر وخيراتها، حتى هذه الأحداث حين يتم رصدها من وجهة نظر شخصية ابن ميار وهو الموالي لهم لم ينكر هذه الحقائق.


وكان جنود الأتراك موصوفين في الرواية بأنهم كانوا في غاية الكسل والرذالة والطمع ولا يشغلهم غير النساء والطعام والتدخين، حتى القتال والدفاع عن الجزائر ضد الفرنسيين لم يفلحوا فيه لأنهم لم يكونوا يتدربون، وحافظوا على لسانهم ولم يكونوا في أي وقت جزائريين مثل أهل البلاد ولم يندمجوا فيهم، بل كانت لهم معسكراتهم وأماكنهم الخاصة مثلهم مثل أي قوات وافدة برغم قدم حضورهم أو وجودهم منذ قرون في الجزائر.

في رواية سفر برلك لمقبول العلوي نجد أنها الأكثر تركيزا على مشاكل الحكم التركي الذي تأسس على فكرة التهجير القسري للسكان الأصليين وتغيير معالم المدن ومحوها واستبدال هُويتها وتحويلها إلى الهوية التركية في سرقة واضحة للأرض والتاريخ، فهم بتلك المنهجية في التهجير القسري يسرقون مدنا كاملة، وتقوم الرواية كلها على هذه المحاولة التي قام بها الأتراك من تهجير أهل المدينة المنورة في عام 1915 قبل تأكد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، وكيف أن الأتراك قد نهبوا كثيرا من الآثار والوثائق الدينية والتاريخية والذهب والأموال والنفائس الكثيرة مثل المخطوطات والكتب النادرة وخبأوها في المسجد النبوي بعدما أغلقوه، وأن الأتراك لم ينشئوا سككا حديدية إلا لتسهيل تنفيذ هذا التهجير القسري وتسهيل عمليات النهب، وأنهم مارسوا الدور نفسه تجاه بعد المدن الأخرى مثل دمشق وحلب والقاهرة. 

الجديد والطريف بالنسبة لي ما قرأته لدى الدكتورة خالدة سعيد الشاعرة والناقدة الكبيرة قرينة الشاعر العربي الكبير أدونيس، في كتابها حركية الإبداع الصادر أواخر السبعينيات، حين تشير إلى عنصرية الأتراك وقت احتلالهم لغالبية الدول العربية، وكان رد فعل كثير من الأقطار العربية في مقاومة عنصرية الأتراك مختلفا من بلد إلى آخر وقد كان في بعض البلدان بشكل فني وفي بعضها ديني مثل الجزيرة العربية، أما مصر فكانت ثورتها على الأتراك بشكل فني حسب رأيها وذلك عبر حركة الأحياء والبعث في الشعر العربي بقيادة البارودي وعدد من الشعراء الذين مثلوا تيارا عاد إلى المنابع العباسية أو الجاهلية للشعر العربي القديم وأحيوها في رد على محاولات التتيريك الثقافي أو محاولات الأتراك لنشر ثقافتهم وجعلها هي المهيمنة، في حين أن لبنان سعت بقوة إلى تدريس اللغة العربية في مقاومة للغة التركية التي كانت مفروضة في الدواوين ومؤسسات الدولة بوصفها اللغة الرسمية؛ وفي ليبيا والمغرب العربي وشمال أفريقيا فقد كانت المقاومة عبر التجمعات والروابط السنوسية.

كل هذا تلخيص لرأي الدكتورة خالدة سعيد في كتابها المذكور سالفا، وهو ما يوحي بأنه كانت هناك حركة تتريك وتغليب للثقافة التركية وتجريف واسع للثقافة العربية ولكن يبدو أنها مسكوت عنها في التاريخ.

والحقيقة أن هذه المظاهر للسلب والنهب بكل أشكاله "المادي والمعنوي والثقافي" مرصود في كثير من الأعمال والكتب والدراسات، ونجده لدى أسامة أنور عكاشة في كثير من أعماله مثل مسلسل أرابيسك، وكذلك تصويره لانتهارية الشخصيات التركية أو من بقايا الأتراك وأنهم لم يقدموا شيئا إنسانيا مهمًا حتى الدور التربوي والأخلاقي كانت شخصية الأم من الأتراك لا تؤديه ومثال ذلك شخصية دولت هانم في مسلسل "الشهد والدموع"، وكذلك شخصية نازك السلحدار في مسلسل "ليالي الحلمية"، أما في مسلسل "أرابيسك" فنجد إشارته إلى السرقة الثقافية التي قام بها الأتراك حين سرقوا الآثار المصرية وهربوها كما سرقوا الحرفيين والنحاتين البارعين ونقلوهم قسرا إلى عاصمتهم ليعملوا لديهم.