الخميس 23 مايو 2024

الأيديولوجيا والتاريخ: محمد فريد وتاريخ الدولة العثمانية

فن1-11-2020 | 20:53

إن النظرة المثالية للدولة العثمانية كرمز قوة الإسلام ومجده، كانت تتردد في لحظات الترقب وانتظار الجديد؛ إذ نجد هذه النظرة عند أحد كبار الزعماء الوطنيين في مصر في مطلع القرن العشرين، وهو محمد فريد، وخاصةً مع بدايات الانهيار السريع للدولة العثمانية، ومشروع الخلاص الأخير "الجامعة الإسلامية" على يد السلطان عبد الحميد، وارتباط الحزب الوطني في مصر بالانتماء إلى الدولة العثمانية، في محاولة لنزع الشرعية من الاحتلال البريطانى في مصر.

 

في ظل هذه الظروف التاريخية يُصدِر محمد فريد كتابه الشهير "تاريخ الدولة العلية العثمانية"، ومن البداية نُلاحظ قوة التفسير الديني للتاريخ الذي يرتاح إليه الإنسان في فترات الانكسار:

 "بالنسبة لنا معشر المسلمين تاريخ الأمة الإسلامية التفصيلي الذي يرينا كيف أشرق ذلك الدين القويم على قمم تلك الأرض المباركة أرض الحجاز، فأنار معظم القارتين القديمتين آسيا وإفريقيا، وجزءا ما كان قليلاً من أوروبا".

ويشير محمد فريد إلى الإهمال الذي وجهه المؤرخون العرب إلى تاريخ الدولة العثمانية، أو "فرع الخلافة التركية" مقارنةً باهتمامهم بتاريخ الدولة العربية الإسلامية "فرع الخلافة العربية" فيقول:

  "تاريخ هذه الأمة الفاتحة الشريفة قد ينحصر على التوسع في فرعين رئيسيين الخلافة العربية والخلافة التركية وقد طرق الفرع الأول كل مؤرخي الإسلام، وأما الفرع الثاني فكاد القلم العربي أن يكون منه أبعد الأقلام".

وهنا يشير محمد فريد إلى ظاهرة مهمة في أدبيات التاريخ العربي آنذاك، وهي قلة الكتابات عن تاريخ الدولة العثمانية. وفي الحقيقة يرجع ذلك في مصر إلى وصول محمد عليِّ إلى الحكم ومشاكله العديدة مع الدولة العثمانية، ثم إرساء دعائم "ولاية وراثية" لأسرة محمد عليِّ في مصر؛ من هنا كانت معظم الكتابات التاريخية تتحدث عن "محمد عليِّ الكبير" ودوره في إرساء دعائم التمدن في مصر الحديثة، واستخدام التاريخ في إعطاء "مشروعية" لأسرة محمد عليِّ، وبالتالي أصبح تاريخ مصر ينقسم إلى ما قبل محمد عليِّ، وما بعد محمد عليِّ.

ويعتبر نموذج "عليِّ مبارك" خير دليل على ذلك؛ إذ يكاد يصف ما كانت عليه القاهرة، ومصر إجمالاً، وهو ما نفته الأبحاث الحديثة، من تدهور وخراب وإهمال إلى أن أرسل إليها الله محمد عليِّ ليحييها من جديد، بعدما أصبحت عظامًا يدب فيها السوس.

وفي بلاد الشام كانت نزعة القومية العربية في ازدياد شديد منذ نهايات القرن التاسع عشر وتصطدم بشدة مع محاولات "الجامعة الإسلامية" التي أرادت أن تستوعب العرب بداخلها، أو حتى مع محاولات "التتريك" بعد ذلك، هذه المحاولات التي سعت إلى تتريك العرب، وصبغ ما تبقى من ولايات الدولة العثمانية بالصبغة التركية، فضلاً عن سيادة "العنصر التركي" وليس "العثماني" لأول مرة في تاريخ الدولة؛ فقبل ذلك كانت كلمة "تركي" تعادل كلمة "جلف" أو "بدوي" عند العرب، وكان المفضل استخدام لفظ "عثماني" الذي يمثل مختلف أجناس وأعراق الدولة المنتمين "للثقافة العثمانية"، وعلى ذلك كان من الطبيعي قلة الكتابات التاريخية عن الدولة العثمانية في بلاد الشام آنذاك.

أما بالنسبة لبلاد المغرب، فينبغى تذكر السقوط المبكر للجزائر في أيدي الاستعمار الفرنسي منذ عام 1830، ثم سقوط تونس أيضًا تحت الاحتلال الفرنسي في عام 1881، وأن مراكش أو المغرب الأقصى كانت خارج أملاك الدولة العثمانية، أما الحجاز والخليج العربي فإن إسهامهم الحقيقي في الكتابة التاريخية لا يكاد يذكر.

وعودة إلى كتاب محمد فريد "تاريخ الدولة العلية العثمانية"، يوضح فريد منذ البداية الهدف الأساسي لكتابه وهو إبراز الرسالة الإلهية للدولة العثمانية في نجدة الأمة الإسلامية، يقول:

"لكن العناية الصمدانية تداركتهم بلم الشعث ورم الرث ورتق الفتق ورقع الخرق، فأضاءت الأفق الإسلامي بظهور النور العثماني وأمدته بالنصر اللدني والعون الرباني، فقامت الدولة العلية بحياطة هذا الدين، وحماية الشرقيين، ودعت إلى الخير، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، فكانت من المفلحين".

إن هذا المدخل الأسطوري الذي يقدم به فريد للدولة العثمانية لا يمت في الحقيقة بصلة لنشأة الدولة العثمانية وتطورها الطبيعي التاريخي، ولكن يمت بصلة للظروف التاريخية التي يكتب فريد في إطارها تاريخه "تاريخ الدولة العلية"؛ فالدولة العلية في زمن فريد لم تعد في الحقيقة "العلية" وإنما أصبحت "رجل أوروبا المريض" الذي ينتظر الجميع موته، ولكن المشكلة الحقيقية بالنسبة لهم– دول أوروبا– هي تقسيم تركة الدولة "أملاكها" دون الإخلال بمبدأ توازن القوى، هذا المبدأ الذي ساد أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى، وأطال في الحقيقة من عمر الدولة العثمانية.

كما ينبغي تذكر توالي سقوط الولايات العثمانية سواء الأوروبية منها، أو حتى العربية في أيدى الدول الأوروبية، وأهمها سقوط الجزائر وتونس كما ذكرنا، ثم السقوط الكبير لمصر في عام 1882، ثم ولاية طرابلس- ليبيا- في عام 1911 في أيدى الإيطاليين وغيره، والذي كان البداية الطبيعية لسقوط الدولة نفسها بعد ذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

ولا ننسى صراع القوميات داخل الدولة العثمانية ذاتها، ولا سيما الصراع الشهير بين القومية العربية والقومية التركية، والذي سيساعد في نهاية الأمر في إحداث القطيعة التاريخية بين العرب والترك بعد ذلك. من هنا يتحدث فريد ليس بلسان المصري أو حتى العربي، وإنما يركز على الانتماء الإسلامي أو الشرقي، بحكم طبيعة توجه الحزب الوطنى آنذاك، يرى فريد أن:

"أي شرقى مسلمًا كان أو غير مسلم لا تهزه النخوة القومية والحمية الملية إلى المحافظة على بقائها– الدولة العثمانية– سعيًا في بقاء نفسه وتأييدها بكل ما في وسعه".

كما يرى فريد أن كتابه هذا موجهًا إلى الشرقي المسلم لاستلهام التاريخ فكما نجحت الدولة العثمانية في بدايتها ستنجح الآن لا محالة، يقول فريد:

"ونالت– الدولة العثمانية– من العزة والتوفيق ما يجدر بكل شرقى أن يتذكره الآن                                  لتستفزه عوامل الغيرة ودواعي النشاط إلى بذل نفسه ونفيسه في سبيل تقويتها وتعزيز رايتها... لما كان لها ولا يزال لها من الحسنات الحسان على كافة بني الإنسان من غير نظر إلى الأجناس والمذاهب والأديان".

كما يعمل فريد على الإقلال من أهمية الصراعات القومية والطائفية في داخل الدولة العثمانية، هذه الصراعات التي كانت كالسوس تنخر في داخل بنيان الدولة وساعدت على السقوط المريع للدولة من الداخل، فضلاً عن الكثير من النزاعات الحدودية والعرقية حتى بعد سقوطها، يقول فريد:

"وذلك بخلاف الدولة العلية فإن جميع الناس تعيش فيها بغاية الحرية والسلام، وكل المطردوين من الدول الأوروبية يفدون إلى أراضيها فيرتعون بحبوحة الراحة والهناء، آمنين على أنفسهم وأعراضهم".

وهنا يقع فريد في أحد أهم الأخطاء التي يقع فيها من يتصدى للتاريخ العثماني، ونقصد بذلك التعميم التاريخي على كل فترات الدولة العثمانية؛ فهذه الدولة عمرت لمدة تقارب الستة قرون، ولا يمكن سحب ظاهرة تاريخية على كل هذه الفترة، فبالفعل كانت الدولة العثمانية في معظم فتراتها ينعم فيها رعاياها على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم بقدر كبير من التسامح ربما لا نجد له نظير في أوروبا آنذاك، كما كانت الدولة العثمانية الملاذ الآمن للأندلسيين المسلمين المطرودين من الأندلس والهاربين أيضًا من التعصب الديني الكاثوليكي هناك، ولم يقتصر الأمر على المسلمين الأندلسيين فحسب، بل شمل أيضًا اليهود الذين فروا بدينهم من التعصب الديني في إسبانيا إلى الدولة العثمانية التي كانت بحق آنذاك، وحتى القرن التاسع عشر، واحة الأمان لكل هذه العناصر. لكن الفترة التي يكتب فيها محمد فريد تاريخه هي فترة أزمات عاصفة في تاريخ الدولة وصراع الأقليات في الدولة العثمانية واستغلال الدول الأوروبية للأقليات، مما أدى إلى تخلي الدولة العثمانية عن تسامحها المعهود، حتى سُمِيَّ عهد السلطان عبد الحميد الثاني– العهد الذي يكتب فيه فريد تاريخه– عهد الاستبداد الحميدي.

وفى رأينا أن ما كتبه محمد فريد لم يكن في الحقيقة تاريخًا للدولة العثمانية، وإنما رسالة أيديولوجية من مفكر شرقي مسلم رأى السقوط الوشيك للدولة فأراد أن يستوحي الماضي لعله يجدى نفعًا في الحاضر المرير، كما لا ننكر الارتباط المهم لمحمد فريد سواء بالخديوي عباس حلمي الثاني، أو السلطان عبد الحميد الثاني ومن هنا كان إهداء فريد تاريخه إلى الأخير قائلاً:

"وقد قصدت بهذه الخدمة أن أقوم بفرض يجب على كل إنسان أداؤه لعرش الخلافة العظمى وملجأ الإسلام في هذا الزمان مولانا أمير المؤمنين السلطان الغازي عبد الحميد الثاني أمد الله في عمره وأيده بنصره".

كما يحرص محمد فريد على تأكيد تبعية مصر للدولة العثمانية، وأيضًا إهداء الكتاب إلى خديوي مصر عباس حلمي الثاني، يقول فريد:

"إنى أبتهل إلى الله بأن يؤكد العروة الوثقى بين جلالته– السلطان عبد الحميد- وولي أمرنا صاحب الحزم والتدبير مولانا الجليل النبيل صاحب الرأي الأصيل والمجد الأثيل رب الحزم والعزم وخديوينا الأفخم عباس باشا حلمي الثاني، حفظه الله وأبقاه إعلاء للوطن وإبقاء لجامعة الملة آمين".

وهنا يظهر التداخل الشديد بين مفهوم الوطن والوطنية ومفهوم الدين والجامعة الإسلامية، وهو التداخل الذي عاشته مصر قبل ثورة 1919، ثم الاستقلال عن الدولة العثمانية بعد ذلك. ولكن على أية حال بقى تأثير محمد فريد والحزب الوطنى والنزعة الإسلامية العثمانية شديدًا في مصر، لا سيما بين أبناء الطبقة الشعبية وأيضًا الطبقة الوسطى الصغيرة، ربما حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية، وانهيار الحلم بالتخلص من الإنجليز على أيدي الدولة العثمانية وحليفتها ألمانيا. ويُعبِر نجيب محفوظ في رائعته الثلاثية عن خيبة أمل هذا التيار بعد فشل دول الوسط في الحرب على لسان فهمي عبد الجواد– أحد شخصيات روايته طالب الحقوق الذي سيصبح بعد ذلك أحد شهداء ثورة 1919– قائلاً:

"غُلب الألمان من كان يتصور هذا! لا أمل بعد اليوم في أن يعود عباس أو محمد فريد، كذلك آمال الخلافة قد ضاعت لا يزال نجم الإنجليز في صعود ونجمنا في أفول فله الأمر".