رغم قرب مرور مائة عام على نهاية حكم العثمانيين للعالم العربي والذي استمر لنحو أربعة قرون ما زالت تلك الحقبة من التاريخ تثير جدلاً واسعاً، وزاد من زخم هذا الجدل في الآونة الأخيرة خطابات وسياسات الهيمنة والتوسع الإقليمي للرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان التي تستهدف إعادة إنتاج العثمانية في العالم العربي الذي يعتبره مجرد امتداداً للتواجد التاريخي العثماني في المنطقة في الماضي. الاستدعاء التركي لفكرة حق التدخل في شؤون الدول العربية التي كانت في حيازة الإمبراطورية العثمانية صاحبه حملة للترويج لماضي عثماني ناصع متخيل مما يستلزم كشف الآثار السلبية لحكم العثمانين للعالم العربي والتي من أهمها على الإطلاق ضرب حصار استراتيجي أوقف ساعة العرب الحضارية لقرون. فكما يوضح الدكتور عماد أبو غازي في كتابه «1517 الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك» الأثر السلبي الخطير للاحتلال العثماني لمصر والمشرق العربي عموما في تجميد الأوضاع الاجتماعية والحضارية لعدة قرون، وفوق ذلك استنزف موارد مصر والمشرق العربي الاقتصادية لصالح الخزانة العثمانية وفي لحظة نجح الغرب فيها في الانتقال إلى عصر جديد، بينما بقي المشرق في ظل الحكم العثماني ثابتًا في مكانه.
فلقد سعى العثمانيون منذ بداية حكمهم للعرب في ضرب حصار استراتيجي ذي ثلاث مستويات على العرب :
عزل العرب عن العالم
من اليوم الأول لحكمهم سعى العثمانيون لعزل العرب عن العالم وعن أوروبا على وجه الخصوص وزاد من معاناتهم تجاهل السلطة المركزية في إسطنبول لتحديث بلدانهم، فقد كانت تلك السلطة لا تهتم إلا بالحروب المتوالية والغزو المستمر وتحصيل الجبايات منهم. وفي ظل هذه الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة كان العرب حتى القرن التاسع عشر ومع كل حركات التحديث والتطور التي تعيشها أوروبا يعيشون عزلة ثقافية وحضارية قد تصل إلى درجة الحصار الحضاري الاستراتيجي عليهم، فكانوا لا يعلمون بمدى التقدم العلمي والمعرفي الذي أحرزه الأوروبيون في الناحية المقابلة لهم من شاطئ البحر المتوسط. فكان من نتائج ذلك الحصار الحضاري عليهم أن دخلت بلدانهم عصرا من أشد العصور تخلفا وانحطاطا على المستوى الفكري والعلمي والأدبي.
ولا شيء يمكنه تلخيص نتائج ذلك الحصار كموقف المؤرخ الشهير عبدالرحمن الجبرتي (1753 - 1825) عندما وقف مشدوها منبهرا أمام تجربة أجراها بعض علماء الحملة الفرنسية أمامه، ولم يجد ما يقوله في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» إلا: «ولهم فيه العلم أمور وأحوال وتراكيب غريبة، ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا».
فرض العثمانيون ذلك الحصار، بحجة حماية العرب من الاستعمار الأوروبى، رغم أنهم هم أنفسهم من منحوا التسهيلات للدول الأوروبية والتى تحولت إلى امتيازات مهَّدت للهجمة الاستعمارية على الدول العربية بعد ذلك. وعندما دخلت الحملة الفرنسية مصر عام 1798م، لم يفعل العثمانيون شيئا يذكر، وعندما سيطرت فرنسا على الجزائر عام 1830 وعلى تونس عام 1881 لم تتحرك الدولة العثمانية بل إنها باعت ليبيا إلى إيطاليا في إطار معاهدة "أوشي" عام 1912م.
لم تحمي تلك العزلة العرب من الغزو الأوروبي لهم كما يدعي البعض ولكنها تسببت فقط فى عزلة العرب عن التطور الحضارى العالمي بغلق العثمانيون معابر التجارة العالمية من السويس إلى الإسكندرية ثم أوروبا بحجة الخوف على الأماكن المقدسة مكة والمدينة، لتفرغ البضاعة فى ميناء عدن وتنقل على مراكب محلية لتستكمل طريقها لمصر والشام. ولم يكتشف العرب هذه العزلة أو ذلك الحصار إلا مع مدافع أولى أمواج الغرب الاستعمارية وهي الحملة الفرنسية على مصر كما يؤكد الكثير من المؤرخين.
عزل العرب عن مركز الحكم
يتفق معظم المؤرخين أن بلاد العرب لم تشهد أي مظهر من مظاهر الحداثة طوال حكم العثمانيين، سواء في البناء الاقتصادي أو الاجتماعي ومن ثم الثقافي والحضاري، يجعل المجتمع يشعر بأي شيء مختلف عما كان عليه الحال من قبل في حين أن مركز الحكم العثماني كان يشهد بعض مظاهر الحداثة الخجولة. فكانت الأستانة أول بلد شرقى يعرف المطابع الحديثة عام 1551م فى عهد السلطان سليمان الأول القانونى (1520- 1566م). فعلى سبيل المثال لم يُدخل العثمانيون الطباعة إلى مصر طوال حكمهم، وكان أول عهد مصر بها مع بداية الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م. كان من نتائج تأخر دخول المطابع شيوع الاعتقاد فى السحر والخرافات، وقلة ظهور العلماء وانحطاط اللغة العربية نتيجة استخدام اللغة التركية كلغة رسمية للبلاد.
تفريغ البلاد العربية من نخبتها
فور دخول العثمانيون مصر على سبيل المثال جمعوا ما يقرب من ألفين من قاطنيها من كبار المباشرين، وكبار التجار، والقضاة الأربعة ونوابهم، والأعيان والأمراء، ومن رجال الحرف والصناعات كالبنائين والنجارين والحدادين وصناع الشراب والفلاحين وأعيان اليهود والمسيحيين، وحتى فناني «خيال الظل» بالإضافة إلى الخليفة العباسى الأخير “المتوكل على الله محمد” وأقاربه وأرسلوهم لعاصمتهم كما يوضح لنا ابن إياس في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» حين يفصل تلك الواقعة التي حرم بها العثمانيون مصر من نخبتها في مختلف القطاعات.
باستقرار الحكم العثماني في مصر كما الحال في بقية بلاد العرب تعرضت أحوالها لموجة من التدهور على معظم المستويات، حيث تردت الأوضاع الاقتصادية وزادت الضرائب وتراجعت الزراعة والتصنيع والحرف اليدوية، غابت معظم الخدمات المرتبطة بالصحة والتعليم. واكتفى العثمانيون من المصريين بدفع الجزية وضرائب المال فقط، ولم تكن توجد وظيفة للمصرى في الجهاز الإداري الذي يحكم بلده سوى وظيفة جامع الضرائب من شيوخ الطوائف. وهو نظام عمقه العثمانيون بالاستناد عليه فى حكم مصر وهو نظام كان يضم أبناء كل طائفة (دينية أو مذهبية أو مهنية أو حرفية أو عرقية) تحت رئاسة شيخ يقوم بهمزة الوصل بينهم وبين الوالى كما يوضح لنا المؤرخ الدكتور عاصم الدسوقى في شهادته على فترة الحكم العثماني لمصر. من ناحية أخرى اهتم العثمانيون أكثر بالمدن الساحلية والطرق الخاصة بتسهيل التجارة، وتركوا معظم المدن كما هي دون تطوير أو رعاية، وعينوا رؤساء القبائل لإدارة شؤون المناطق والأفراد دون نظام إداري واضح ومحدد.
ووضع العثمانيون نظام يستهدف في المقام الأول ضمان بقاء تبعية مصر لهم بتوزيع السلطة على ثلاثة قوى يكون بينها من التشاحن والتنافس ما يضمن ضعفها والتجاءها الدائم إلى الباب العالى، وهى الوالى والجيش والمماليك. كما كان العثمانيون لا يتركون الولاة لمدد معقولة تسمح لهم برعاية مصالح البلاد والناس، وكانت المهمة الرئيسية للولاة جمع المال بكل وسيلة لإرسالها للباب العالي كطريقة وحيدة للبقاء في الولاية لأطول فترة ممكنة.
هذا ولا تزال تعاني الدول العربية من تبعات هذا الحصار حتى الآن، فمن نتائج ذلك الحصار الحضاري التي ضربه العثمانيون على العرب أيضا أن منهم من يعتقد إلى الأن وعلى رأسهم الإسلاميون بأن محمد علي مؤسس مصر الحديثة والذي كسر هذا الحصار الحضاري المفروض على العرب كان مجرد "مخلبا وخنجرا استعمله أعداء الإسلام لتنفيذ مخططاتهم ولذلك وقفوا معه في نهضته العلمية، والاقتصادية والعسكرية بعد أن أيقنوا بضعف الجانب العقدي والإسلامي لديه ولدى أعوانه وجنوده". بل ويحملونه بالكامل مسؤولية سقوط السلطنة العثمانية "لأنه بمحاربته العثمانيين وهزيمته لهم قد نبه الدول الأوروبية إلى مدى الضعف الذي أصبحت عليه الدولة العثمانية مما أدى إلى تكالبهم عليها وتقسيم أراضيها".
أخيرا يمكننا القول بأن عزلة سيد قطب الشعورية كانت من نتائج العزلة الحضارية التي فرضها العثمانيون على العرب لقرون واستكملها هو وجماعات ما يسمى بالإسلام السياسي ولكن تلك المرة للتنظير لاعتزال الناس حتى مجتمعاتهم العربية بدعوى أنها تعيش في جاهلية كاملة، كتلك التي كان يحيا فيها المشركون قبل ظهور الإسلام. وما يجري اليوم في المنطقة العربية من صراعات وحروب تتسبب فيها تركيا أردوغان وجماعة الإخوان وما يقدمانه عبر منصاتهما الإعلامية من رؤى وتحليلات تحاول أن تخلط الوقائع وتقلب الحقائق سعيا لعودة الاستعمار العثماني في ثوبه الجديد محمولا على أكتاف جماعة الإخوان ما هو إلا أخطر تجليات الحصار التي فرضه العثمانيون على العرب جغرافيا وحضاريا لقرون واستكملته جماعة الإخوان ذهنيا ونفسيا منذ إنشائها عام 1928 إلى الآن.