السبت 29 يونيو 2024

الشباب المصري.. و"الفوضى الخلاقة"

فن2-11-2020 | 18:58

في خريف العام 2015، أعلن مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه أن "الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة، وأن دولاً مثل العراق وسوريا لن تستعيد أبداً حدودها السابقة".

 

كان باجوليه يتحدث في مؤتمر بشأن الاستخبارات، في جامعة جورج واشنطن الأمريكية، بحضور عدد من رجال الأمن وكبار الاستراتيجيين، حيث لم يعارضه أحد، بل على العكس تماماً، فقد أقر نظيره الأمريكي، مدير الـ "سي آي إيه" آنذاك جون بيرنان، ما ذهب إليه.

 

أكد بيرنان بدوره، خلال هذا المؤتمر، أنه ينظر إلى الدمار في سوريا وليبيا والعراق واليمن، فيزداد يقيناً أنه من الصعب جداً وجود حكومة مركزية في أي من هذه البلدان يمكنها أن تفرض سيطرتها أو تحمي الحدود التي رسمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

 

يبدو بالفعل أن تغيرات فارقة وقعت في المنطقة العربية، وأن دولاً وطنية وأممًا كبيرة تتفتت، وقد يتسع هذا الخرق فيشمل دولاً أخرى تبدو متماسكة وبعيدة عن المخاطر حتى هذه اللحظة.

 

إن الدول التي تتعرض لخطر التفتت وفقدان السيادة الإقليمية كانت تحت أنظمة دكتاتورية حكمتها بالقمع والفساد، لكن إصلاح تلك الدول شيء، وانهيارها وتحولها إلى ساحة للحرب الأهلية شيء آخر.

 

لا يمكن أن نفهم تلك الحالة التي باتت فيها منطقة الشرق الأوسط من دون الرجوع إلى ما أعلنته كوندليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، في العام 2005، عن تبني مفهوم "الفوضى الخلاقة"، ووفق ما أعلنته رايس آنذاك، فإن الإدارة الأمريكية مدعوة إلى تبني استراتيجية إحداث الفوضى في المناطق التي تعيش تحت الحكم الاستبدادي، وصولاً إلى ترتيب أوضاع تلك البلدان وتحقيق الانتقال الديمقراطي فيها.

لا يجب أن نتجاهل أن شيئاً من "الفوضى الخلاقة" قد حدث في كل من العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، ومصر، وتونس، وأن الفارق بين مسارات تلك الدول يتعلق فقط بحجم الفوضى التي ضربت كل دولة، وقدرة شعبها ومؤسساتها على مواجهة ذلك التدبير.

والشاهد، أن الفوضى الخلاقة لم تتحقق في أي دولة عربية من دون إسلام سياسي ما، سواء اتخذ شكل "داعش" أو "إخوان" أو "حوثيين" أو "احتراب سني- شيعي".

 

لا يمكن لمصر أن تشعر بأنها بمأمن من الانزلاق إلى سيناريو "الفوضى الخلاقة" من دون سياسات ناجعة للإصلاح الذي يحقق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والنمو الاقتصادي والتماسك السياسي، ولن يمكن لخطط التفتيت و"الفوضى الخلاقة" أن تنجح إلا من خلال استغلال الشباب الذي يمثل أكثر من 60% من السكان والقوى الحيوية في بلد مثل مصر، ومن دون سياسات تستهدف تعزيز وعي الشباب المصري، وإدماجه في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية، ستتراجع قدرته على حماية مستقبله ومستقبل المجتمع والدولة.

 

حقيقة ساطعة

بات مصطلح "الحرب الهجينة" Hybrid warfare حقيقة ساطعة، وقاسماً مشتركاً، في الجهود البحثية التي تجريها معاهد دراسة الحرب والأمن القومي من جهة، وأحاديث الساسة وقادة الجيوش والمنظمات الدفاعية الدولية من جهة أخرى.

لا يمكن النظر إلى الحرب بوصفها مفهوماً "استاتيكي" ثابتاً مستقراً، وإنما حالة متغيرة بتغير الأزمنة والأدوات والتحديات التي تفرضها أوضاع التنافس والنزال.

 

مع بروز مصطلح "الحرب الهجينة" ومعاينة أثره في واقع الحروب، لم يعد مفهوم الحرب مقتصراً على العمليات الحربية في جبهات القتال؛ إذ اختفت الحدود الفاصلة بين حالة الحرب واللاحرب، وبين المقاتل والمدني، وبين الأدوات والوسائل الاجتماعية وآليات القتال.

 

لقد تغيرت طبيعة التسليح بموازاة ترسخ حالة "الحرب الهجينة"، وبينما تظل البندقية والطائرة والصاروخ والعبوة الناسفة أدوات مهمة في تلك الحرب، فإن أدوات جديدة تنضم إلى قوائم التسلح؛ وبينها أجهزة كمبيوتر، وأمصال، و"بوستات" على وسائط التواصل الاجتماعي، ولجان لصنع الشائعات وترويجها.

 

وبموازاة ذلك تغيرت طبيعة المحارب الفرد والقوة المحاربة، فلم يعد المقاتل ذلك الجندي النظامي، أو رجل "الميليشيا" المدرب على أعمال القتال البدنية والذهنية فقط، ولكنه بات أيضاً طبيبا، أو مهندس تقنية معلومات، أو عالماً في مختبر، أو مدونًا على "الإنترنت".

 

وفي غضون ذلك، فإن جبهة القتال اتسعت، بحيث يمكن تعريف حدودها بآلا حدود لها، كما تغيرت طبيعة الفئات المستهدفة بالقتال، لتشمل الأسر في البيوت، وطلاب المدارس، وجمهور الفرق الرياضية، والعقل الجمعي للأمة المستهدفة، والذاكرة الوطنية، والحالة المعنوية، وماء الشرب، والأكسجين في الهواء، والمعاملات المصرفية، والعملة المستخدمة، ومخزون الحنطة، والوقود، وغيره من السلع الحيوية.

 

مواجهة صعبة

تعطينا تنظيمات الإسلام السياسي سواء كانت "القاعدة" أو "داعش" أو "الإخوان" مثلاً ملهماً في إطار استخدام تلك الـ "تكنيكات" للحرب الهجينة ضد المجتمعات، ففي مصر تخوض جماعة "الإخوان" وبعض حلفائها حرباً لا هوادة فيها، وتستخدم منصات في دول معادية مثل تركيا وقطر لاستهداف الشباب المصري، وتحريضه على العنف، وارتكاب الأعمال الإرهابية.

 

يخوض "داعش"، ومعه جماعات إرهابية أخرى، حرباً "هجينة" في ليبيا في مواجهة الجيش الوطني الليبي، لا تزال بقايا هذا التنظيم تحاول استعادة المناطق التي سلبت منها في العراق وسوريا، بموازاة الحرب الدائرة في اليمن ضد الشرعية والتحالف الإسلامي، وهنا يبرز مصطلح "الأمن الديمقراطي"، الذي يمكن من خلال اتباع آليات تحقيقه صد هذا العدوان النوعي وغير المسبوق.

 

مصطلح "الأمن الديمقراطي" مصطلح جديد على معاهد البحث ومستودعات الأفكار الاستراتيجية؛ ومع ذلك فإن ملامحه يمكن أن تُجمل في حزمة من السياسات التي يجب أن تتخذها الدولة في إطار محاولتها للتصدي، وبتحليل تلك السياسات وجد الباحثون المختصون أنها تركزت في ثلاثة عناصر رئيسية، أولها المواجهة الحاذقة الحاسمة للاستهدافات العسكرية والأمنية ضمن "الحرب التقليدية" أو "الهجوم اللامتماثل"، بحيث لا تكون هناك فرصة لأي اختراق مؤثر للحالة الأمنية، أو إشاعة الفوضى، أو زعزعة هيبة الدولة، مهما كانت التكلفة ومهما كانت التداعيات.

 

وثانيها يتعلق بدرجة الرشد والنجاعة في الإدارة الاقتصادية للموارد المتاحة، بالشكل الذي يحقق إنجازاً اقتصادياً ملموساً، يتم توزيع أثره بقدر من العدالة مناسب، بحيث يعالج الأبعاد الاجتماعية، ويبطل دعاوى المظلومية، بما يجرد هذا الاستهداف من القدرة على الاستثمار في ذرائع الاحتجاج والتمرد.

أما ثالث هذه العناصر، فليس سوى جملة من السياسات التي تنتهجها الحكومة، ليس لتحويل البلد بالضرورة إلى صورة من الديمقراطيات الغربية ذات الطبيعة الخاصة والسياقات الموضوعية المتعذر وجودها في مناطق أخرى من العالم، ولكن لإيجاد بيئة ضامنة لقدر مناسب من الحريات وحقوق الإنسان، بشكل يُبقى المجال العام طبيعياً، ويترك الفرصة للجماعات والقوى السياسية والاجتماعية للتعبير عن مواقفها ومصالحها، ويخلق حالة مجتمعية تضمن حواراً وطنياً بناء، ضمن إطار القانون، وتحت سقف الدستور.

 

وفي إطار تلك المواجهة تبرز أهمية الاهتمام بالتنشئة السياسية والثقافية للشباب المصري، والذي يجب أن يجد الفرص السانحة للانخراط في الحياة الثقافية والفنية والفكرية من جانب، وممارسة دوره السياسي من جانب آخر عبر المشاركة في الجمعيات والأحزاب، والانخراط في النقاش السياسي العمومي الدائر عبر منصات الإعلام بشقيها التقليدي والجديد.

 

مخاطر وحلول

ومع ذلك، فمن الضروري الإقرار بأن بيئة التواصل الاجتماعي الراهنة تنطوي على مخاطر عديدة؛ فقبل سنوات، حاول المفكر الفرنسي جان دوريار التعليق على الحالة المعلوماتية التي يتجه إليها العالم في ظل هذا التدافع المحموم على نشر الأخبار المفبركة بقوله: "في هذا العالم تزداد المعلومات أكثر فأكثر.. بينما يصبح المعنى الحقيقي أقل فأقل.. ستضحى التشبيهات في المجتمع المعولم أشدّ مصداقية من الواقع ذاته.. ستكون واقعاً فائقاً Hyper Reality؛ واستناداً إلى ذلك الواقع، الذي هو في حقيقته مفبرك ومصطنع، سيُشكّل الوعي والوجدان لقطاعات كبيرة من الجمهور".

 

يدق دوريار ناقوس الخطر إذن، إذ يعتقد أن العناصر المختلقة التي باتت تلعب الدور الأكبر في تشكيل وعي الجمهور ووجدانه، ستشكل ما يمكن اعتباره واقعاً موازياً، وهو واقع مختلق بالكامل من شأنه أن يأخذ الجمهور إلى تصورات منحرفة وقرارات خاطئة.

 

ثمة نتائج كارثية لمثل تلك التصورات المغلوطة وتداعيات خطيرة على حالة الديمقراطية والتفكير العقلاني، وهي نتائج يمكن أن تزعزع ثقة الشباب في الدولة ومؤسساتها، وأن تدفعه لتنفيذ أجندات "الفوضى الخلاقة"،

لقد تفاقمت تأثيرات الأخبار المغلوطة عبر الوسائط الجديدة بسبب ما تمتلكه من أدوات إقناع أمضى وقدرات انتشار أوسع، حتى إن دراسة مهمة صدرت عن جامعة نورث ويسترن العام الجاري، أفادت بأن معدلات ثقة الجمهور العربي في وسائل الإعلام تراجعت بنسب تراوحت ما بين ٣٩٪ إلي ٤٢٪. وأكدت الدراسة التي استهدفت عينة من سبعة آلاف مبحوث في سبع دول عربية أن أكثر من نصف المبحوثين يعتقدون أن الأخبار السياسية معظمها "ملفق".

 

ثمة عدد من الخطوات الضرورية التي يمكن باتباعها تحجيم أثر الأخبار الزائفة ولجم الشائعات واحتواء مخاطرها لأقصى درجة ممكنة؛ وهي خطوات لا تتضمن سن قوانين عقابية، لكنها تحتاج إرادة وعملاً مدروساً مستديماً، لكي تظهر نتائجها على المديين المتوسط والبعيد.

 

أولى هذه الخطوات يتمثل في علاج الحالة المعلوماتية المصرية، وتحويلها إلى حالة معلوماتية أكثر كفاءة وشفافية، عبر صدور قانون الحق في تداول المعلومات، الذي ينص عليه الدستور في المادة 68، عندما تتوافر المعلومات الدقيقة، سيقل الميل إلى الاختلاق والتزوير، وستدحض الأخبار الصحيحة نظيرتها الزائفة وتبعدها عن مجال التأثير.

 

أما ثانية هذه الخطوات فتتصل بتوفير برامج تدريب جادة للعاملين في مهنة الصحافة والإعلام، وبفضل هذه البرامج، ستتم ترقية مهارات الصحفيين في ما يتعلق بالتعاطي مع الإفادات الواردة من وسائط التواصل الاجتماعي.

وثالثة هذه الخطوات تتعلق بضرورة إصدار أدلة مهنية لتنظيم التعامل مع المعطيات المتوافرة في "السوشيال ميديا"، وتوضيح طرق استخلاص الحقائق منها في حال كانت موجودة.

أما رابعة تلك الخطوات فتتعلق بضرورة تعزيز المجال الإعلامي الوطني التقليدي، ومنحه ما يستحقه من حرية وتعدد وتنوع، لأن كل تراجع في هذا المجال يشكل فرصة للأخبار المغلوطة ويعزز الميل إلى التضليل،

يجب أيضاً تشجيع مستخدمي وسائط التواصل الاجتماعي، خصوصا من الشباب، على تبني آليات التنظيم الذاتي لأدائهم على تلك الوسائط، ومن بين ما يمكن فعله في هذا الصدد، وضع آلية للإبلاغ عن الأخبار الزائفة والتعليقات المسيئة التي تدعو إلى الكراهية والعنف، واتخاذ إجراءات فورية ضد المستخدمين الذين اعتادوا نشر الشائعات والمحتوى الضار؛ مثل إبلاغ إدارة "فيسبوك" و"تويتر" بغلق حساباتهما، وأن يقوم مستخدمو "السوشيال ميديا" بإنشاء صفحات لتوعية المستخدمين بعدم نشر المضامين التي تروج أخباراً زائفة، وأن يقوموا بوضع أهم العبارات والمصطلحات التي يجب عليهم الحذر عند استعمالها.

 

تبرز أيضاً ضرورة الاهتمام ببرامج التربية الإعلامية، التي تستهدف ترقية مهارات الجمهور ومعارفه في ما يتصل بالتعاطي مع وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، بما يحد من الآثار الضارة للأخبار المغلوطة، وتتفاقم ظاهرة الأخبار المفبركة، وتهدد الأمن المجتمعي، وتقوض ثقة الجمهور في وسائط الإعلام، والأخطر من ذلك أنها تفقدنا مقومات الحكم العقلاني.

 

علينا أن نطور قدرات شبابنا ونساعده في بناء وعيه ووجدانه عبر أنماط الإنتاج الفني والدرامي والفكري من جانب، ومن خلال تطوير مشاركته وإدماجه في العمل الوطني بشقيه السياسي والاجتماعي من جانب آخر، وعبر تلك المشاركة وذلك الاهتمام يمكن أن نحصن شبابنا وأن نبني قدراته لمواجهة عالم يموج بالمخاطر.