تقرير: محمد حبيب
يعد الدكتور عزيز صدقى، رئيس وزراء مصر الأسبق أحد ألمع نجوم كلية الهندسة جامعة القاهرة عبر تاريخها، فالرجل الذي ولد بالقاهرة عام ١٩٢٠، دخل كلية الهندسة جامعة القاهرة عام ١٩٣٩قسم عمارة، وتخرج فيها عام ١٩٤٤، وبعدها حصل على الدكتوراه في التخطيط الإقليمي والتصنيع من جامعة هارڤارد الأمريكية عام ١٩٥٠.
وفي عام ١٩٥١ عاد عزيز صدقى لكلية الهندسة، حيث تم تعيينه بوظيفة مدرس بالكلية، وفي عام ١٩٥٣ عين مستشارا فنيا لرئيس الوزراء ومديرا عاما لمشروع مديرية التحرير.
اختاره عبدالناصر وزيرًا للصناعة عام ١٩٥٦ ليصبح عزيز صدقى أول وزير صناعة مصري، وكان عمره وقتها ٣٦ عاما فقط، كان عزيز صدقى عائدا من أمريكا بعد حصوله على رسالة الدكتوراة، عن «حتمية التصنيع فى مصر» وكان صدقى يرى أن إمكانية التوسع الزراعى مرتبطة بأشياء ليس فى أيدينا منها توافر المياه اللازمة وهى لدينا محدودة بموارد النيل المحدد كمياتها، ومن ثم عند حد معين تتوقف عملية التوسع فى الزراعة، لذا لابد من الصناعة.. وهذا معنى رسالة الدكتوراة التى حصل عليها عزيز صدقى وطبقها في مصر فكان يذهب إلى أن التصنيع ليس شهوة.. هو فرض حتمي.. وعلينا أن نعرف أنه ليس أمامنا إلا التصنيع.
قرأ عبدالناصر رسالة الدكتورة الخاصة بعزيز صدقى وعهد إليه بملف الصناعة، حيث التقى ما فيها بتفكير ناصر حول حتمية التصنيع وأنه الطريق الوحيد لتقدمنا، وبالفعل وبدأ صدقى عمله من أرضية المجلس القومى للإنتاج، وبدأت عملية التصنيع, وكانت خطوته الأولى صدور برنامج التصنيع فى عام ١٩٥٧ وتم تخصيص مبلغ ١٢ مليون جنيه كأول ميزانية للتصنيع.. وبدأت المسيرة الصناعية، حيث أنشأ عزيز صدقى لجانا وضعت برنامج السنوات الخمس الأولى، وأنشأت تلك اللجان برنامج التنظيم الصناعى ورغم أن هذا البرنامج كان مقدرا له ٥ سنوات إلا أنه تم تنفيذه في ٣ سنوات واستطاع عزيز صدقى أن ينشئ أكثر من ألف مصنع.
الألف مصنع
يتذكر عزيز صدقى «الرقم الألف مصنع قصة.. كان فيه مؤتمر فى ميدان عابدين، وأثناء إلقاء جمال عبدالناصر لخطابه قال.. عزيز صدقى بيقول إنه اتبنى ألف مصنع، وأنا أطلب منه انه ينشر بيانا بالمصانع اللى اتعملت.. وبالفعل نفذنا ما قاله ونشرنا بيانا باسم كل مصنع وتاريخه ومكانه وتكاليفه، وأهدافه، واتضح أنهم أكثر من ألف مصنع.. طبعا أضيف بعد ذلك لهذا العدد الكثير.. جمال عبدالناصر فعل هذا كله فى السنوات القليلة التى حكم فيها مصر.. وعلينا أن نقيس ماذا فعل غيره وحدث بعده؟..
في ندوة عقدتها معه المصور عام ١٩٨٢ حكى الدكتور عزيز صدقى قصة لها ألف معنى وذلك عندما تم تعيينه وزيرا للصناعة في ١ يوليو ١٩٥٦ يقول «وخلال هذه الفترة حدثت معارك قناة السويس وبرغم العدوان الثلاثي بدأت وعملت اللجان التى وضعت برنامج السنوات الخمس الأولى وأنشأت اللجان التى عملت قانون التنظيم الصناعى، حدث العدوان ولكننا لم نتوقف وقال عبدالناصر تعليقا على ذلك - وهذا لم يذع من قبل- إنه برغم العدوان استمر العمل ولم يتأثر. الحرب تبدأ وتنتهى ولكن الصناعة هى الباقية»..
واستطاعت مصر من خلال الاهتمام بالصناعة تحقيق نسبة نمو من عام ١٩٥٧ – ١٩٦٧ بلغت ما يقرب من ٧٪ سنويا، ما يعنى أن مصر استطاعت فى عشر سنوات من عصر عبدالناصر أن تحقق تنمية تماثل أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه فى الأربعين سنة السابقة على عصر الزعيم، متفوقة على العديد من الدول الصناعية الكبرى، مثل إيطاليا التى حققت نسبة نمو تقدر بـ٤.٥٪ فقط فى نفس الفترة الزمنية.
رئيسا للوزراء
تولى عزيز صدقى منصب نائب رئيس الوزراء للصناعة والثروة المعدنية ١٩٦٤ ثم مستشارا لرئيس الجمهورية في شئون الإنتاج ١٩٦٦.
وفي مارس ١٩٧٢ عينه الرئيس أنور السادات رئيسا للوزراء ثم مساعدًا لرئيس الجمهورية ١٩٧٣ وكان له دور كبير في تحقيق النصر في حرب أكتوبر ١٩٧٣.
يقول عزيز صدقى في حوار معه نشر عام ٢٠٠٤ «أذكر أنه قبل حرب ١٩٧٣ طلبنى الرئيس السادات لتجهيز الدولة لدخول الحرب.. وكنا نعيش فى ظل حصار اقتصادي، والوضع الاقتصادى بشكل عام كان سيئا، وفى ظل هذا كان مطلوبا منى إعداد الدولة اقتصاديا للحرب، وذلك بالتعامل على أنه فور بدء الحرب لن نستطيع شراء أى شيء من الخارج وقد يستمر ذلك شهرا أو اثنين أو ثلاثة، مما يعنى حتمية توفير احتياجات البلد كاملة من الداخل، وبالدراسة توصلنا إلى أن ننتج بما يجعلنا نستمر فى الاعتماد على أنفسنا لمدة ٤ أشهر دون استيراد حتى ولو شمعة من الخارج، والأهم أن كل هذا تم دون أن يشعر الشعب بأى شيء.. لم تكن هناك بطاقة..أو طابور.. كانت الخطة الموضوعة هى الاعتماد على طاقتنا المحلية فى توفير كل الاحتياجات وعمل مخزون استراتيجى للسلع بالشكل الذى أدخلنا الحرب وخرجنا منها دون حدوث أى أزمات داخلية..
ويضيف عزيز صدقى «حققنا بهذا الأمن الاقتصادى، ولو لم يكن لدينا هذه القدرة، كنا سنضطر إلى الاستيراد من الخارج لكى نحارب، وبالطبع كان من الممكن أن لا يحدث هذا، وبالتالى لا تكون هناك حرب».
ويؤكد «أبو الصناعة المصرية» على أن «القوة الاقتصادية يكملها معنى آخر، هو القوة السياسية اعتمادا على قدرتك الذاتية.. وفى كل هذه الأحوال، يبقى دور التصنيع هو الأساس.. إننا حاربنا في ١٩٧٣ معتمدين على إنتاجنا المحلى كاملا، ولم نستورد أى شيء، ورغم ذلك اجتزنا الحرب، ولم يشعر الشعب المصرى بأى أزمة داخلية، وهذا دليل نجاح على أهمية وجود القاعدة الصناعية التى لبت احتياجات الشعب.. هل كان يمكن أن نحارب دون ذلك؟ هل كان يمكن أن نفكر فى الاعتماد على أنفسنا دون وجود هذه القاعدة الصناعية؟ يجب ألا نغفل كل هذا ونحن نقيم هذه المرحلة، ونستخلص منها أن الاعتماد على الذات هو الذى يمنح القوة لأى بلد، وأى حاكم.. والدليل كما قلت من قبل أننا دخلنا حرب أكتوبر وانتصرنا فيها وخرجنا منها، معتمدين على إنتاجنا الذاتي، ولم نستورد شيئا.
ويؤكد عزيز صدقى في ذات الحوار المنشور قبل ١٥ عاما، «على أن الاعتماد على الذات.. أمر ليس صعبا ولا أن نقول إنه كان يمكن فى الخمسينيات والستينيات بينما الآن صعب الاعتماد على الذات، مشيرا إلى أن الاعتماد على الذات تفعله الدول فى كل مكان وزمان، وما وصلنا إليه الآن أسبابه كثيرة، فى مقدمتها الاعتماد على الخارج، ومن المساوئ التى نتجت عن هذا أن حصيلتنا من العملة الصعبة التى تأتى من التصدير وخلافه أقل من الوارد.. وعلاج هذه المشكلة لا يكون إلا بالاعتماد على الذات..لا يوجد حل آخر.. غير معقول هنفضل «نشحت» طول العمر.. الدول الكبرى اعتمدت أولا على الذات ثم انطلقت.. والاعتماد على الذات له أساليب متعددة منها..السياسية.. فطالما سنعتمد على الذات لابد من إجراءات تتخذ.. فعلى سبيال المثال إذا أردنا تكوين قدرة على الاستثمار، لا نبعثر الأموال فى استيراد بيض نعام، وسيارات مرسيدس.. وسلع ترفيهية أخرى كثيرة، تستنزف العملة الصعبة التى نحن فى احتياج إليها..
وردا على قلة جودة الصناعة خلال تلك الفترة رد عزيز صدقى قائلا «هذا الكلام غير حقيقي، فمنتجاتنا كانت متميزة ونحن فتحنا أسواقا للتصدير فى أمريكا وآسيا والدول العربية».
أكثر ما كان يؤلم الدكتور عزيز صدقى هو بيع شركات القطاع العام التى أنشأها، وكان يصرخ من سياسات الخصخصة التى تم تطبيقها في عهد المخلوع مبارك، والذي شهد بيع شركات القطاع العام «بتراب الفلوس»، وأتذكر في إحدى الندوات التى حضرتها أكد عزيز صدقى أن هناك شركات قطاع عام تم تخسيرها حتى يسهل بيعها في عهد المخلوع مبارك»
توفي عزيز صدقى يوم ٢٥ يناير ٢٠٠٨ في مستشفى بومبيدو بباريس عن عمر يناهز ٨٨ عاما.
رحل بعد أن أعطى الكثير، ولم يأخذ شيئا، بل كان يبيع ممتلكاته من الأراضى، وظل موضع احترام واسع من كل القوى السياسية، ومن ملايين العمال الذين توظفوا فى مئات مصانع القطاع العام التى قام بتشييدها، واستحق لقب الأب الحقيقى للصناعة المصرية فى عصرنا الحديث، فمعه بدأت مصر فى تشييد قلاع صناعية شامخة، للأسف تم بيع معظمها بفضل سياسة الخصخصة.