الجمعة 17 مايو 2024

الأبنودي يقرر الرحيل

فن2-11-2020 | 19:49

جاءني صوته متهدجا ضعيفا تسبقه ضحكته ذات النكهة الصعيدية قائلا:”لا تخافي لن أموت إلا عندما أقرر أن أموت..” تلك كانت المرة الأخيرة التي أسمع فيها صوته وبعدها بأيام قرر عبد الرحمن الأبنودي الرحيل،رحل الى جبل مريم لتطل روحه على شط القنال التي طالما رحل اليها كلما اشتدت به وبمصر الأزمات،قرر أن يظل هناك،موطن البطولات ومنبع الحكايات،من قبل رحل اليهم بعد نكسة 1967 ليخوض معهم تجربة مليئة بالمشاعر المتدفقة و الأشعار، عاش معهم حرب الاستنزاف يوم بيوم، ذاقوا سويا مرارتها، وحلاوة النضال والمقاومة الباسلة،كان لا يكف الحديث عن عم محمد عبد المولى” الذي جلس على التل المقابل للقنال يتنبأ بالنصر، و”أم على” التي كانت تخبز للجنود في الخنادق، حتى الكلاب التي أبت أن تهجر السويس ورابطت مع الجنود على الجبهة،عن روح عم “حراجي” عندما جاءته تحت شجرة التفاح بيت عم إبراهيم أبو العيون ساعة صبحية و ضرب القنابل و المدافع  شغال في السويس، وعلى الطبلية التي أحضرتها له سيدة جلس يحاور روح عم حراجي لازمه ثلاث أيام بلياليهم، سامره في الليل تحت ضوء لمبة جاز نمرة عشرة، لم يتركه إلا بعدما أفاض له بحكايات عمال و فلاحين شقيانين،فيخرج ديوان شعر من رسائل معطرة برائحة الحب، حب فاطنة أحمد عبد الغفار زوجته، وحب وطن عاش على مياه فيضان النيل،”حجاوي” كثيرة باح بها عبر حوارت لم تنقطع يوما بيننا، اخترت بعضا منها ونقلتها  على لسانه كما باحها  لي اول مرة،

 

 

·      مالك يا خال ؟إيه اللي تعبك؟

 

صدري لم يعد يحتمل، و عظامي أصبحت هشة، وجلدي أصابه المرض، و عيوني تأثرت و أصبحت بلون الدم الأحمر، لأقضي على الأسطورة الحمقاء التي يؤمن بها الصعايدة و فحواها أنهم يورثون أشياء لا تبلى أهلي يقولون أنني أخذت الدواء لذا مرضت، لأنهم كانوا يطببون بزيت الكافور أو الخس أو الجزر أو دهان الطين .. و كان والدي الشيخ الأبنودي يستخدم الكمون لعلاج كل ألم أو مرض،وكنت و إخوتي نضحك  قائلين أنه سيضع الكمون على البطيخ.تجربة المرض لم أكرهها، عشتها، كانت تدفعني نحو النهاية، لذا كان لازم أواجهها، دون عصبية، لم أحزن، و لم تفارقني الضحكة،لم تغير رؤيتي  للحياة، لكنها فرصة رائعة لمراجعة النفس،و التفتيش في الرحلة،للإبقاء على  الجوهري الذي سيعيش بعدك واستبعاد كل الأشياء التي لا قيمة لها، و التي كان يجب أن يكنسها الزمن أول بأول..للأسف لا نعلم أساسيات الحياة و نحن أصحاء و أغنياء،

 

·      من هم صحبتك هنا ؟ من جيرتك التي تأنس بها؟

 

عم عبد الناصر و عم محمد أبو علي مزارعين مستأجرين الأرض، على باب الله، كل واحد بيته على رأس غيطه، نعيش هنا في سلام و بلا ضوضاء، لا نسمع سوى صوت العصافير، و نصحو على صوت حمار عم أبو محمود”،عندما جئت كنت أتحدث أكثر منهم، عن الناس و الحياة،و كان عم عبد الناصر يسكت، بحذر الفلاح  المعتاد، لكنني اليوم أصبحت أسمع فقط له، يحكي عن واقع الحياة،  و مشاكلها التي تعصرهم، عن أشياء تخجل أمامها قصائدنا، حقائق بسيطة لكنها عميقة جدا.. أما أبو محمود” فينام في الغيط خوفا من أن بتوع بنك الائتمان الزراعي يستولوا عليها، فهو اقترض 4 آلاف جنيه و مع الوقت أصبح مديون ب 80 ألف جنيه،و كأننا في أيام المماليك..

·      كيف ترى القاهرة والناس وأنت بعيد عنها؟

 

عندما جئت هنا، وجدتني أنظر على الحكاية كلها، عبد الرحمن و الأصدقاء و القاهرة، رأيتهم و كأنهم محبوسين في دائرة محكمة، ينتهون من حيث بدءوا، لا يتقدمون خطوة إلى الأمام،قد يحققوا التقدم على مستوى الفرد الواحد... أنظر للعالم من خلف لوح زجاجي، فأقول  لنفسي كويس إنني هنا..لا أريد أن أقول كلام موجع، لكن كثير من أهل الثقافة احترفوا ما هم فيه،ولم تعد الثقافة بالنسبة لهم وعي و رؤية، بل تحولت إلى شيء لزوم الكتابة،وجدوا أنفسهم كتاب، فلا يملكوا سوى الكتابة، على سبيل المثال كاتب العمود لا يملك إلا أن يكتب عموده اليومي، سواء أراد أو لم يرد، مثل الموظفين إذا انقطعوا عن العمل 15 يوم يتم فصلهم من الوظائفهم، و هكذا حال  الكاتب أو رئيس تحرير الجريدة أو المجلة، حتى رئيس الحزب يظل قابع على قلب الحزب حتى يأتي أجله..فلا أرى إنهم قادرين على الخروج من الدائرة المفرغة و المحكمة جدا .. من مكاني هنا أرى قصيدة الدايرة، فالمثقفون محاصرون، و بصراحة لم يحاصرهم أحد، كالفراخ التي اعتادت أن تدخل آخر الليل تنام في القفص ..في حاجة مش مظبوطة .. منهم شباب نابه جدا و يكتبون حاجات جميلة، لكن في الصورة العامة مش تمام..

 

·      هل هرب منك الشعر يوما أو خذلك؟

 

قد يهرب مني الشعر لكنه لا يخذلني أبدا، أذكر أنني ظللت لمدة 3 سنوات دون أن أكتب قصيدة واحدة،وقتها مررت بظروف قاسية جدا، كنت أعيش مرحلة احتجت فيها لأتطابق مع نفسي،عشت فترة ضياع، و صراع داخلي حول من أنا،واجهت نفسي، و كان لازم أثور ضد حياتي، و ضد نفسي أولا،لأصل إليها، لم أكن أعلم من أنا، هذا أم ذلك، فلم أكتب كلمة، لأنني لم أكن أعلم لم سأكتب، فالشعر لا يصدر إلا عن تطابق، فالناس يهجرها الشعر نظرا لعدم تطابقهم مع أنفسهم، من الممكن أن يخدع الإنسان دنيا و الناس ولكن الشعر مثل الرجل الصعيدي إذا خنته مرة خانك للأبد،مثال ذلك الشاعر أمل دنقل كانت الناس تستعجب من سلوكه و من النقاء في شعره، و كان يقول دائما أن لذة الحياة، ذاتي،  مفصولة عن الشعر، لكنني  عكسه تماما، إذا ارتبكت ارتبك الشعر معي الأمر الذي احتاج مني خمس سنوات لأتطابق مع نفسي،وأرى أن قيمة الشاعر في قصيدته الجديدة، حتى لا يكون كالمطرب الذي يغني غنوته القديمة،والشاعر بلا قصيدة كالرجل الذي يقف نصف عاري..

 

·      ما الذي أثر فيك وخلق وقفات مختلفة  في شعرك؟

 

كل دواويني مختلفة من الأرض و العيال “،حتى  الأحزان العادية “،بل نكتشف أن كل ديوان كتبه شاعر مختلف، كل ديوان له لغته الخاصة به،جوابات حراج القط، الموت على الأسفلت،صمت الجرس، الديوان تجربة متكاملة أكتبها عندما تنضج، و كأنها شجرة أقطف منها ثمارها، و أكون من قبل أنا الذي زرعتها و سمدتها ورويتها و كبرتها،فالشعر كالشجر ..

·      ما التجربة التي لم تكتمل عندك ؟

 

لا أعلمها، و لا أعلم ماذا سأكتب، عندما كنت مريض و في غيبوبة، كتبت قصيدة الاسم المشطوب مرثية عن عبد العاطي صائد الدبابات،على ورق تواليت،كنت وقتها زعلان، فالرجل الذي قاوم الزحف الإسرائيلي ودمر 16 دبابة يموت بفيروس سي و لا يجد العلاج ،ذهب للموت بشجاعة و الموت رفضه،و منحه حياة عظيمة،يموت بمثل تلك الطريقة،  قد يكون مرضي ذكرني بمرضه ..كنت على فراش الموت و أبحث عن مدد من نموذج مثل عبد العاطي..لكن ذلك قلب علي مواجع مصر كلها..حتى أصبحت غير قادرا على تخطي حالة الحزن داخلي، فأخذت أكمل ديوان المراثي، رثيت فيه رموز الفكر في مصر الذين خاضوا معارك نضالية،مثل محمد عودة، محمود أمين العالم،عبد العظيم أنيس، أرثي من خلالهم مصر كلها، التي أصبح التاريخ يتساقط منها،و البدائل الباقية هشة،فأنا أشعر أن مصر ستظل على معدلها النازل حتى يحدث شيء كبير، سيد درويش قال علشان ما نعلى و نعلى و نعلى، لازم نطاطي نطاطي نطاطي..  

 

 

·      من يعجبك شعره وتشعر انه قريب منك ؟

 

طول عمري كنت أحلم أن أصل بشعري إلى براءة أمي، صفاء إمرأة أمية لا تعرف القراءة و الكتابة، إحساسها بكل شيء حولها،بالكون و ربنا و الوجود و الأرض، إحساس لا نملكه، نعمله عمايل،هي كطرح النهر، نقية، تعيش الحياة بطقوس  لا تحيد عنها، فلا تخيط رقعة جلابية بعد المغرب لأن ذلك يغزغز لحم الميتين، لا تدق بالهون  حتى لا تكسر رؤوس الملائكة،لا ترمي المياه السخنة علشان الناس اللي تحت..تعيشها على أنها حقائق لا أساطير ... الديمقراطية الوحيدة التي تتمتع بها المرأة في الصعيد هي في الغناء، تغني عن الجنس الفاضح دون أن يلومها أحد، و جدتي ست أبوها تتغنى و تحكي لنا في الشتاء، كنا نقول لها حاجي لنا يا ستي أي احكي، الحكايات هي الحجاوي  في الصعيد.. كون خيالنا ..

 

 

 

·      متى قررت الر حيل الي السويس ؟

 

 

قبل الهزيمة كنت للتو خارجا من المعتقل،ذهبت إلى أبنود بلدتي في بداية رحلتي لجمع السيرة الهلالية،و إذ بتليفون يأتيني من أحمد سعيد ووجدي الحكيم و عبد الحليم حافظ،يطالبوني بالمجيء إلى القاهرة على وجه السرعة،لأن الحرب على الأبواب، قلت لهم أن البلد الذي يسجن عبد الرحمن الأبنودي بلد لا يقدر على خوض حرب ضد إسرائيل،كيف يسجنون شاعر وطني في الوقت الذين يريدون محاربة العدو باسم الوطنية،كانت الرؤى بها ازدواجية،

أذكر أن عبد الحليم طلب مني أن أحضر وأكتب أشعاري بالقطار القادم إلى القاهرة، و بالفعل كتبت أغنية اضرب التي لحنها محمد الموجي ومجموعة من الأغنية،ولدى وصولي إلى العمارة التي أسكن بها وكانت بمنطقة باب اللوق وجدت كمال الطويل في انتظاري، يجلس بجوار أم صلاح بائعة الخضار، خضت بعدها مع عبد الحليم و الطويل رحلة طويلة من الأغنيات الوطنية منها أحلف بسماها وترابهاو ابنك يقول لك يا بطل هات لي نهاروبركان الغضب وبالدم وغيرها إلى أن وقعت الهزيمة،عشتها و شاهدت آثارها داخل مبنى التليفزيون،وعندما  قرر عبد الناصر التنحي كانت عواطفي محايدة جدا،قبل تلك اللحظة لم يكن أحد من الشعب المصري يصدق أن مصر انهزمت،لكن قرار التنحي جعلنا نشعر بها،الناس خرجت نتيجة إحساس الذل الموجود في خطاب التنحي،زعيمهم كان يحمل نظرة انكسار،وعندما ذهبت إلى أحد مقاهي المثقفين وجدتهم يضعون أيديهم على خدودهم، مرددين أنهم مسئولين عن الهزيمة،ومقولات و نظريات لا صلة لها بالحقائق، فكان لا مناص أمامي إلا الهروب من ذلك الجو،و قررت الرحيل إلى السويس،

 

·      هل كنت تعتقد أن الرحيل سيجدد الأمل داخلك؟

 

الأمل كان موجود داخلي طول الوقت، لكن هول الإحباط كنت أخاف من التعبير عنه، و عندما عشت مع أهل القنال فوجئت بقصص عن بشر أمثال عم إبراهيم أبو زعزوع،أم علي، الحاج محمد عبد المولى وأولاده، عبد الرحمن وغيرهم، كانوا يستقبلون جنودنا القادمين من سيناء، السائرين على الأقدام، يضمدون جراحهم، يغسلون أرجلهم المنتفخة،يخبزون الفايش الصعيدي لهم،وعم إبراهيم عمل لهم باكرة شاي كبيرة مثل التي كانوا يصنعونها في قطار الصعيد، ليسقيهم، يظللون عليهم بأشجار الجناين، لكن الجنود كانوا يقمون مفزوعين من هول ما رأووه خلال الحرب، كانت الهزيمة مضاعفة،رأيت الهزيمة الحقيقية بعدما رأيتها على وجه عبد الناصر وعايشت تفاصيلها،كنا نجلس ليحكوا لي عن الحرب، الحرب العالمية الأولى و الثانية،وحرب 48، وأذكر أن الحاج إبراهيم أبو العيون كان له تعليق عن الحرب العالمية الثانية،فكان يقول ضاقت عليهم السماء ليحاربوا في سمائناكان التاريخ عندهم له معنى، لذا عشت معهم  طوال سنوات الحرب، حتى أن عبد الحليم كان يطلب مني أن أكتب أغاني من هناك ويقول لي قول حاجة للناس”، لكنني كنت أرد قائلا له أننا عملنا أغاني للناس، وخرجوا ليقولوا أن الأغاني كانت من أحد أسباب النكسة، وكأننا أحد أسبابها، فقلت لعبد الحليم الآن نحن انهزمنا، وإذا لم نقل للناس أن مصر انهزمت،و إلا ضربونا بالمراكيب، فيرد علينا ويقول أنت رجل بتقول أنك مناضل،وعندما أحتاج إليك وقت النضال لا أجدك، لقد حان وقت النضال،فلتكتب وبعدها نناضل،و بالفعل كتبت أغنية “عدى النهار”،

 

 

 

·      كيف كانت الحياة هناك خلال حرب الاستنزاف؟

 

 العيش هناك كان صعب، كنا نغرف القتلى ونحملهم على العربة الكارو،وأحياء مدينة السويس كانت مليئة، البيوت كانت تنزل فوق رؤوس ساكنيها، لذا كان لابد من تهجيرهم لتحويل مدن القنال إلى جبهة حرب حقيقية،ليتركوا المكان للجنود وللدبابات،على سبيل المثال كان عم إبراهيم أبو العيون يملك شجرة مشمش،في الأيام العادية من يقطف منها كان عنده استعداد أن يضربه بالفأس، أما في الحرب، قام هو وأبنائه على وأحمد بخلعها من جذورها ليغطوا بها الدبابة، وتحول إلى جزء من العملية الحربية، يأخذ الأكل للجنود،كان في كل بيت من بيوت السويس كلب أو كلبين للحراسة، و عندما رحلوا،تركوا خلفهم الكلاب، فتحولوا إلى ملحمة، فلأول مرة أصبحت تعتمد على نفسها في البحث عن لقمتها،وغير مطلوب منها الحراسة، فوزعت الكلاب نفسها على الخنادق،لتحرسها، و لو العدو رصد الكلاب لعرف أماكن الجنود، و تأكل بعدما تهز النخل لتسقط البلح عنها، لتدخل الكلاب أيضا في الجيش، عشت أنا تلك الفترة في بيت عم إبراهيم أبو العيون،رجل ذو خبرة بالحروب، بنى خندقه الخاص،كنت أصحو كل يوم لأجد حوائط المنزل مليئة بفتحات الرصاص دون أن تصيبنا أيا منها،ووقتها انضممت إلى فرقة أولاد الأرض مع كابتن غزالي،وكنا نعمل الغنى و نذهب للمهجرين في أماكنهم نقول لهم الشعر ونغني لهم، و نزور مستشفى السويس، إلا أنها كانت من أمتع فترات حياتي، مثل ما عايشت فترة بناء السد العالي، و السجن،و عايشت أبنود ورحلة السيرة الهلالية، عايشت الحرب و أهلها، رغم أنني لم أذهب لكي اكتب لكنني رحلت اليها لأتخلص من يأس المثقفين في القاهرة،

 

 

·      هل تعتقد أن الحرب كتجربة قد تخرج أقوى ما في الإنسان؟

 

من المهم أن تكون الحرب على صدق، ففي 67 لم تكن القيادة العسكرية على مستوى الأمور فانهزمت، وما يحدث في القيادة انعكس على الجنود، لكن بعد الهزيمة، الناس و الفلاحين و الغلابة اللي ماتت أولادهم في سبيل الوطن،قالوا لابد من النصر،وأذكر عم محمد عبد المولى،كان سنه 85، كان يقعد على التل طوال النهار، يشاهد الإسرائليات والعساكر وهم يسبحون عرايا في مياه القنال، يسخرون منه، فيرد عليهم قائلا : خدوا يومينكم يا ولاد الكلب”، كان يحفظ شعر المربعات، ويظل يرددها على التل، و عندما بدأ القتال حاول الجيش أن يبعده عن التل و شط القنال لكنه رفض تماما، و كان يقول لهم أعطوني فاكرس أي بندقية ليحارب بها و يعدي شط القنال، رغم أن بيته نصفه تهدم من القصف فكان يطل على شط القنال، لكنه لم يترك مكانه أبدا، عاش في السويس حتى انتهت الحرب،ليعود فلاح يزرع الأرض مرة أخرى،ولا أزال أذكر يوم ما اصطاد الصاروخ عم أحمد أبو الدقون على شجرة المشمش، فتت جسده على أفرعها، وعندما جاء أهله الصعايدة ليلملموا أشلائه، تجربة صعبة، وكنت دائما أقول :

 

الحرب مش كلمة سهلة تنطق و خلاص

الحرب أهول ودم وموت وخوف ورصاص

و إحنا لما عبرنا الموت بقواربنا

كنا إحنا و الموت بقينا اثنين شققا يا ناس

 

 

·      من هو حراجي القط؟وأين هي بجبلاية الفار؟

 

هو شخصية مصرية حقيقية، فاهم و مدرك كل شيء من حوله، لديه مشاعر و أمنيات حقيقية، معاناته و حياته حقيقية، لذا ظل هذا الديوان أكثر دواويني شهرة، و ذو شعبية، و أكثرهم تسجيلا ليوميات بناء السد العالي، مسمى على اسم أقوى أرض في الصعيد، فهي الأكثر خصوبة و إنتاجا للمحاصيل، و التي عندما تنسحب عنها مياه النيل بعد أن غمرها كانت تتشقق حتى يأتيها مرة أخرى، في بحري و الشرقية كانوا يطلقون عليها الشراقي أما في الصعيد عندنا فنطلق عليها اسم الحرجة لذا كانت الناس تطلق على الولد حراجي نسبة للحرجة لكي يطلع قوي و خصب و معطاء تيمنا بالأرض،، أما جبلاية الفار فلم تكن بلدنا أبنود “، بل قرية في السويس، فمن السويس حتى الجناين نمر على عدة جبلايات : جبلاية أبو هاشم، جبلاية الفار، جبلاية أبو عارف، و غيرها، المنطقة كانت تلال رملية صخرية، و كان الناس كسرتها و بنت و زرعت بها، لكن ظل اسمها الجبلاية،

 

·      ومن هي فاطنة أحمد عبد الغفار زوجة حراجي ؟

 

هي فاطنة أختي، تحمل مشاعر قوية جدا، استوحيت من مشاعرها الدافئة  اتجاه زوجها بنيت  شخصية فاطنة أحمد عبد الغفار عليها، هي نموذج لكل إمرأه صعيدية، الناس تعتقد أن الصعايدة بلا مشاعر، أو مشاعرهم متحجرة، لكن الحقيقة إن مشاعرهم عميقة جدا، تنتمي لزوجها انتماء مطلق، و من قبله لوالدها،النساء هن من يغنوا لنا على حجرهن حتى نكبر على تحذيراتهن، عيب و حرام، و هي حارسة الحضارة المصرية الحقيقية، قوية و أم العواطف في الوقت نفسه،لذا كان حراجي بالنسبة لفاطنة الدنيا و الآخرة،حاولت أن أقف عند تفاصيل العلاقة بين الرجل الصعيدي و زوجته، فهي ست الدار، يشاورها في كل شيء، لا يقول لها أحبك، لكن عمله يعني ذلك، لذا كتبت له : (  في الليل يا حراجي تهف عليا ما أدرك كيف، هففان القهوة على صاحب الكيف ، و ساعات لما أمد إديا في الضلمة ألقاك جنبي )  فيرد عليها  حراجي و يقول لها : ( عارفة يا مراتي الراجل في الغربة يشبه إيه، عود ذرة وحداني في غيط كمون)

 

 

·      متى كتبت حراجي القط كديوان ؟

 

فجأة ظهر حراجي أمامي، فهم دائما يظهرون دون مناسبة، فكتبته بالكامل، و للأسف في عام 1966 جاءت المباحث و قبضت علي، و أخذت معها كل الأوراق و المخطوطات من منزلي و كان من بينها أشعار ديوان حراجي و ليس لدي نسخ منه، أكتب بقلم رصاص بأستيكة فقط لأعدل فيه دون أن أغير النص الأصلي،  بعد أن خرجت من السجن، كلمني صديقي غالب هلسة و قال لي أن فلان الفلاني بالمباحث يريد رؤيتي، فرددت عليه أنني أريد استعادة أوراق حراجي القط”، و طبعا ضاع الورق و ما به من أشعار، فقررت أن أتركه لأنني لا أتذكر شيء من تلك الأشعار، قامت حرب 67، فرحلت إلى السويس، تماما كما رحلت الى السد، عشت على شاطئ القنال بالسويس، وسط الفلاحين الذين رفضوا الهجرة و الجنود، وسط صعايدة لا يختلفون حراجي و فاطنة، ووسط الضرب جاءني حراجي تاني، فكتبته هناك بدلا من أن أكتب عن المقاومة و الجنود،وقتها كنت أعيش في منزل أحد الفلاحين هناك، منحوني غرفة في بيتهم البسيط، عندما كنت أكتب كانوا يتركونني و لا يزعجونني، و عندما جاءني حراجي فجأة ،طلبت من سيدة بنت أم على وعم إبراهيم  أبو العيون أن تحضر  الطبلية لأكتب عليها، وضعتها تحت شجرة تفاح و جلبت إبريق شاي، أحضرت أقلام الرصاص، و حضر حراجي إلي تحت الشجرة  بشكل مختلف تماما عن حراجي القديم، جاءني بشعور انه يعرفني و أعرفه، و ظللت أكتب لمدة ثلاث ليالي متواصلة، أأكل لقمة و أكتب، في الصباح تحت الشجرة و الليل تحت ضوء لمبة جاز نمرة عشرة داخل غرفتي الصغيرة ببيت عم إبراهيم، لا أتكلم مع أحد و لا أحد يكلمني، و هكذا كتبته و أصبح من أشهر أعمالي .

 

 

·      في جوابات حراجي الأخيرة تكلم عن بالاغتراب،لماذا؟

 

تكلم حراجي عن اغترابه لأنه لم يعد يعرف الجزء الذي بناه في جسم  السد الكبير، فهو في القرية كان يبني حيطة بيت فلان، و عندما يمر بها يتباهى بأنه هو الذي بنى هذا الجدار، أو حفر قناة ماء،أو نصب ساقية، أو شواديف و طنابير، يعرف بالتحديد عمله و يفخر به، لكن في السد لم يعرف أحد ماذا بنى أو أي جزء يحمل اسمه، و كانت مشكلته أن لو أحد سأله ماذا بنيت يا حرجي فلا يستطيع أن يشاور على شيء، كما أن  تجارة الناس التي احترفها المقاولين قد أثرت فيه،و سرقة عرق العمال، كما أن بعد انتهاء البناء، طلبوا من العمال الرحيل، رفض حراجي الرحيل، فإلى أين يرحل و قال لزوجته أنه لن  يعود للبلد .و ناقش أمور تبدو بسيطة لكنها بالنسبة له أسئلة كونية ، خاصة أن العمال  الغلابة لم يشعروا أن لهم شيء في هذا السد،كان عنده إحساس أنه يملك السد، و ليس الغرباء الذين لم يساهموا في بنائه و استولوا عليه،و كان يرى أن الموظفين كانوا يلعبون البلياردو في النادي الخاص بهم، أما هو و إخوانهم هم الذين بنوا السد، لذا عندما طالبته زوجته العودة فرد أنه لا يستطيع العودة، و إلى أين يعود ؟ كان يرى أن مصر لم تعد بعد السد كما كانت قبل بنائه .

قتل السد العالي الفيضان، فقتل وحدة المصريين،توقف الفيضان و استمر الفيضان ليس في الأرض فقط إنما في الروح أيضا،كان الفيضان عامل أساسي في بناء الشخصية المصرية، لكننا حبسنا النيل خلف السد، فانتهينا و لم يعد لدينا شيء يوحدنا، المصيبة أننا نعاني من نفس حالة الاغتراب التي  عانى منها حراجي”، اغترب المصريين بالسفر إلى الخارج ، قبلوا الإهانة،رجعوا و معهم مراوح، رهن الفلاح أرضه، و هدم بيت أبوه المبني بالطين  منذ أيام الفراعنة، و بنى بالأسمنت الذي لم يعد يطيق الحر داخله،أول من سافر من كان لا يملك شيء يخاف عليه، و هم أول من ربح الفلوس، و هم أول من اشتروا الأراضي وسط البيوت، و لخبطوا القيم الاجتماعية،مما أثر في الأعمدة الأساسية المبنية عليها الشخصية المصرية .

 

·      ما الذي تذكره من صديق طفولتك أمل دنقل ؟

 

منذ طفولته كان شخصية متمرده شديدة الغرابة حتى بالنسبة لأقرب أقربائه، كنا من قريتين متجاورتين، جاءت حرب 1956 وكانت هي الحدث الفاصل في حياتنا أنا وأمل كشعراء،وضعتنا على طريق الشعر،وأننا نطقنا الشعر في يوم واحد،أذكر أنني عندما زرته وهو على فراش المرض، قلت له يا أمل أنت قلت لي وأنت صغير مقوله هل تذكرها فرد علي أعرفها”، لقد قلت لك أنني في الزمن المقبل ستكون أنت أكثر شهرة مني، ومرتاح ماليا عني، وأرجو في ذلك الوقت أن نكون سند بعضا للآخر، قالي لي ذلك وهو صغير في السن، عمره لم يتعدى ال14 عام، فكان يرى المستقبل بوضوح،إنه من أكثر الشعراء نبوءة، يقاس صفاء الشاعر ونقاءه بقدرته على التنبؤ،أذكرعندما كنت أذهب إليه يوميا إلى مركز الأورام،فيقول لي على استحياء كتبت قصيدة كده ويعني لا أعرف إذا كانت جيدة، فأقول له فلتقرأها لي يا أمل، فإذا به يتدفق شعرا،منها قصائد ديوان أوراق الغرفة 8 من أنقى قصائد الشعر المصري على الإطلاق، لم أرى أحدا يرى الموت بعينية ويقف على حافته  ويكتب بهذه الطمأنينة وهذا الصفاء العظيم الذي كتب به ، كتب وكأنه إنسان يولد وليس في طريقه إلى الرحيل،

·      كيف تنظر لفوزك بجائزة الدولة للفنون والعلوم والآداب ؟

 

الجائزة تعزيز و رد اعتبار للشعر بصفة عامة، في العام الماضي حصل عليها الأستاذ بهاء طاهر نيابة عن جموع الروائيين، و حصلت عليها هذا العام نيابة عن الشعراء، وأنا لا أحب التفرقة بين شعر العامية والفصحى،تجاوز وعينا هذا الأمر، فالشعر هو الشعر،ونحن الشعراء نسهم في هذا البناء العظيم واسمه الشعر المصري بعاميته وبفصحاه وشبابه وعواجيزه، نبني صرح واحد و كل منا يقدم إخلاصه وإنجازه.لكنني كنت أتمنى أن ينعم بالجائزة إخوتي فؤاد حداد و صلاح جاهين رحمة الله عليهم، المهم أننا أعطينا الفرصة لهذا القسم من الشعر لينعم بها فيما بعد أبنائنا من شعراء العامية في المستقبل،طبعا، لم أحصل على الجائزة بصفتي عبد الرحمن الأبنودي الشاعر فقط، ولكنني بصفتي الحالة التي اسمها عبد الرحمن الأبنودي، وهي حالة دوشة التي عملتها في كافة المجالات،

 

 

·      هل جاءت جائزة الدولة كنوع من المهادنة معك نتيجة لمواقفك المعارضة للنظام أو كما تصف نفسك من المثقفين المنحرفين سياسيا؟

 

لو كان من يعطيني الجائزة هي الدولة لكان هذا الكلام صحيحا، لكن من منحني الجائزة مثقفون لهم ضمائر و آرائهم الخاصة و نظرتهم المستقلة عن الدولة،صحيح أنها  تحمل اسم الدولة لكن من يمنحها هم أهلي من المثقفين والأدباء و أساتذة الجامعة و جميعهم اتفقوا على منحي إياها، ومهما كانت حكومية الجائزة فهي لم تصلني من خلال حكومة بل وصلتني من خلال بشر مثلي مثلهم،وهل معنى حصولي عليها معناه أن أغلق الصنبور، فإذا كانت الجائزة ستعطل منابع القصيدة داخل ضميري فملعون أبو جوائز العالم، الشاعر الذي بداخلي و الرجل المحب لهذا البلد لا يمكنني كبح جماحه أو إخراسه لأن ذلك ليست خيانة له بل للوطن الذي نعيش فيه، كما أنني عندما أعارض فأنا لا أقل أدبي بل أنظر بعين أكثر محبة لمصر تمنيا لها بأوضاع أفضل مما هي عليه،

 

 

·      عن الثورة كيف تبدى لك المشهد عندما كتبت قصيدة الميدان؟

عندما يتحدثون عن التنبؤ في الشعروكأنه يرى ما لايراها الآخرون،هي مقولة صحيحة إلا إنها تحتاج إلى تفسير فهذا الأمر ليس ميتافيزيقيا ولا غيبيا،إنما الشاعر الحقيقي المهتم بهموم الوطن ويشكل الوطن له موضوعا يرافقه كظله دائما يهتم بالتفاصيل الصغيرة التي تدل على المعاني الكبيرة،فقانون الفلسفة  ينطلق من الكلي إلى الجزئي في حين نرى قانون الشعر والفن ينطلق من الجزئي إلى الكلي،فيمتاز الشعر بأنه يملك دما ولحما ويصبح قانونه حقيقيا أكثر من كونه معادلة رياضية أو ذهنية،هكذا يكون الأمر دائما مع كل القصائد الشعرية حتى مع قصيدة الميدان التي كتبتها منذ بدايات الثورة قبل أن يتنحى مبارك،وإن كنت أشعر ان النظام ماسقطش وهي قصيدتي التي كتبتها بعد الثورة وتنبأت بما يحدث الآن،غيطان الحلم،ضحكة المساجين،كلها قصائد ترى للأمام،

·      تتحدث عن الشاعر وكأنه لا حول له ولا قوة أمام فيض الشعر،من أين يأتي الشعر إذا ؟

نحن الشعراء مخلوقات ضعيفو البنية أمام الشعر مهما حاولنا أن نثبت أننا أقوياء،يأتي الشعر عاتيا جبارا ونتحول نحن الشعراء إلى مجرد ظلال أو مستقبلين،أتحدث هنا عن تجربتي الخاصة، مستقبلين بما ينعم علينا به،نسمع طقطقة عظامنا تحت ثقل أرجله وخطواته، ليس لنا من فضل سوى أننا كشعراء نضبط التلقائية على استحياء و خوف لانه عندما تفتح نافذة الإبداع أمام الانسان يندهش أكثر مما يندهش الجمهور فيما بعد،أعظم لحظة في حياة المبدع هي اللحظة التي تفتح فيها النافذة المطلة على العوالم، يستقبلها المبدع ويتعجب أنها داخله ولم يتعرف عليها من قبل،في قصيدة الميدان  لم أكن أعلم أنني أكتب قصيدة،كنت أكتب شذارات وأشياء تمر بالخاطر والبال واتخلص منها بالكتابة واحده تلو الأخرى،لذا نجد أن الشعر فيها على خلاف شعري مكون من مربعات ثابتة،وكنت أكتب هنا مربع وهنا مربع ثم جمعتهم معا وسميت بالقصيدة،وما إن نزلت الى الشباب حتى صارت قصيدة الميدان وواجهته،وأصبحت قصيدة الثوار ولم تعد ملكا لي بل ملكهم،

 

·      أين دور الشاعر أما فيضان الشعر المتدفق الزاحف عليه؟

 

الشاعر مجرد بوسطجي،ساعي بريد ينقل الأشياء من الوطن إلى الناس،ينقل الأشياء من الحقيقة إلى أهلها،وبقدر أمانته بقدر ما يصدقه الناس،يقبلونه أو يرفضونه،هنا يأتي دور أصالة الالتصاق بالموقف من جانب ومن الجانب الآخر درجة الوعي بالقضية، وبقدر الصدق والمعاناة وان الانسان لا يبغي سوى وجه الشعر والحقيقة،يقترب من الناس ويكون بينهم،بقدر هذا تكون مكانة الشعر عند الناس ومكانة شاعرها،

عندما رأيت فيضان البشر في ميدان التحرير الذي لم أرى مثله منذ أيام فيضان النيل عندما كان يأتينا قبل السد العالي، لحظة صافية،كما كان فيضان النيل حقيقيا يحمل الخير معه لمصر، إن ما حدث وقتها يمثل السحر المصري الخاص لم يكن للشعر أن يهرب مني في هذا الوقت بل كان لابد أن يأتيني،الشعر يأتي ليعبر عن ماهو ألصق بمشاعري وقتها،وكان الفيضان الشاب هو الحقيقة الوحيدة في مصر وقتها،والحقيقة الوحيدة في الثورة كان الميدان فكان لابد لقصيدة الميدان أن تخرج إلى الميدان،

·      ماذا تقول لأهل الميدان؟

أهل الميدان ليسوا في حاجة لرسالة إنما بالعكس هم الذين يرسلون لنا برسائلهم يمنحونا الأمل ويشجعوننا،ليسوا في حاجة إلى كلماتنا بل بالعكس هم الذين يضعون الكلمات على ألسنتا، أقول لهم أنني أحلم بقصيدة لا قبلها ولا بعدها فلو سمحتم إلهموني هذه القصيدة،لدي إحساس أن كل ما كتبته مجرد بروفة لقصيدة مثلما كانت ثورة 25 يناير مجرد بروفة للثورة الحقيقية،فلو سمحتم أنا في انتظار أن أكتب تلك القصيدة الرائعة  العبقرية قبل أن أموت وهذا متعلق بك وبمسلككم معها.

 

نقلا عن مجلة المصور