الأربعاء 26 يونيو 2024

"في البدء كانت.. النهاية" قصة من مجموعة جئتك بالحب لـ"تيسير النجار"

فن3-11-2020 | 14:53

أشرقت الشمس من الشرق؛ ذلك يعني أنه يوم طبيعي من أيام العالم، لم تقم القيامة بعد؛ مازالت الحياة بالرغم من كل هذا الخراب، البيوت متهدمة وبقايا ضئيلة تدل أن كان هنا بشرًا، الدم قد تشربته الأتربة العطشى ولم تمحِ حمرته القانية، بالأمس مروا ولم يتركوا سوى جثثهم المحترقة وآثارهم التي كادت لا تذكر، ثمة صوت .. صوت مضغ؛ إنسان موجود بين الأطلال؛ يمضغ ببطء ترى ما الذي يؤكل هنا؟ نحيل .. هزيل .. لم يفقد نظارته عجبًا؛ بليت ملابسه ونظارته سليمة، يجلس في غرفة متشققة فاقدة جدارها الرابع، تشعر أنها على وشك السقوط، لكنه مطمئن، آمن، يمزق من الكتاب الذي أمامه، يغمسه في الماء المتسخ، يمضغه بهدوء ويبلع، بجواره الكثير من الكتب والأغلفة التي خلت من أوراقها؛ كانت طعامه في الأيام السابقة، اعتاد الصمت؛ لا يوجد أحد في المنطقة ما بين قاتل وقتيل الجميع رحل، لا يشارك صوت أنفاسه وصراخه أحيانًا إلا صوت الرياح، لكن اليوم يصله صوت ثغاء خروف أو نعجة ودبيب خطوات إنسان متعثر أو خائف، دق قلبه وسأل نفسه هل عجزت يد الموت عن روح أحدهم؟ سيجد من يتحدث إليه ! فرح بشدة، لولا أن ينظر إلى الكتب لنسى الكلمات، خرج من غرفته؛ بعد أن حمل الباب الذي وضعه خلف جدارها المحطم، تأمل القادم أنها فتاة تقود نعجة؛ ارتعدت عند رؤيته؛ ارتعشت شفتاها ولم تنطق إلا زفيرًا متعبًا، دخل إلى غرفته؛ عاد بكوب الماء الذي أنكسر مقبضه؛ قدمه إليها، شربت ونظرت إلى نعجتها ثم شكرته بامتنان، دعاها لتشاركه الغرفة والطعام، اندهشت هل يوجد وسط هذا الخراب طعام؟ تبعته وعرفت أن الورق طعامه؛ ضحكت بصوت عالٍ ثم خجلت عندما رأته منزعجًا، أوضحت :

كنت أطعم نعجتي الأوراق النقدية حتى تدر اللبن وأشربه، بعد أن ذبحت الحمل الصغير وتناولته؛ لم أفكر في تناول الأوراق مطلقًا.

إذن نعجتكِ أفضل مني، أنا أكل أوراق الفلسفة وعلم النفس، كنت دكتورًا جامعيًا.

فعلاً ..! ولماذا لم تهاجر؟

أبيت أن أترك الوطن؛ لكنه رضى أن يتركني، وأنتِ لماذا بقيتِ؟

أبي يحب وطننا مثلك حتى سقطت القذيفة ومزقته، كنت في الحظيرة لا أعرف لحسن الحظ أم سوءه؛ بقيت مع الماشية.

أين وجدت المال الذي صار طعامًا لنعجتكِ؟

أبي كان حريصًا ولا يحب البنوك؛ يحفظ المال في الحظيرة؛ تعب في جمعه؛ تبرزته النعجة بيسر؛ مات هو ومضغت أيامه في فم الماشية.

مزق لها بعض الأوراق ووضعها في الماء، وقدم كتابًا للنعجة التي تتلفت ناحية اليمين واليسار في قلق.

سألته عن مصدر الماء فقال أنه من بئر قديم، بدا على وجهه السعادة والأنس بوجودها، ابتسمت وقالت : 

بإمكاننا الزراعة لدي بعض الحبوب في الحظيرة من فضلات الماشية ولديك الماء والأرض أمامنا.

ما هي إلا أيام ويبدأ الاستعمار في عمله.

حتى لو يوم واحد متبقي لنا سنعيشه، لن أحتمل تناول الأوراق كثيرًا.

ضحكت حتى لمعت عيناها وشعر أن الوطن لم يسقط طالما هذه الفتاة لم تمت.