الجمعة 29 نوفمبر 2024

فن

ليس بالفقه وحده تتوقف فوضى الفتاوى

  • 3-11-2020 | 17:52

طباعة

 حالت ضغوط العمل، دون أن ألبى دعوة فضيلة المفتى د. شوقى علام لحضور "المؤتمر العالمى للإفتاء" الذى عقد الأسبوع الماضى، ولكن أتيح لى مطالعة بعض الأوراق التى قدمت ونوقشت بالمؤتمر .

ولابد لأى مصرى وطنى، أن يشعر بالسعادة والفخر لانعقاد هذا المؤتمر على أرض مصر، هو مؤتمر عظيم بالقرارات والتوصيات التى صدرت عنه وبالمناقشات الخصبة، التى جرت خلاله وقدمتها لنا معظم الصحف والفضائيات، وهو مؤتمر عظيم بقيمة وقامة المشاركين فيه، حيث جاء إلينا خمسون مفتيا من مختلف بلدان العالم، فضلا عن مشاركة المجامع الفقهية المختلفة وكبار المتخصصين فى الفقه وأصوله، ثم مشاركة فضيلة الإمام الأكبر د.أحمد الطيب، الذى ألقى كلمة بالجلسة الافتتاحية وحضور أعضاء مجمع البحوث الإسلامية، ولأهمية المؤتمر فإنه أقيم تحت رعاية السيد رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسى، وتحدث فيه، أمام العلماء الأجلاء، رئيس مجلس الوزراء مهندس إبراهيم محلب، والمعنى، هنا، أن المؤتمر نظمته ودعت إليه دار الإفتاء المصرية والمؤسسة الدينية الرسمية، ولكن الدولة المصرية عند قمتها، كانت هناك تساند وتدعم.

انعقاد المؤتمر، على هذا النحو، يؤكد أن مصر تستعيد قوتها الناعمة، التى استمرت قرونا، وتهددت فى السنوات الأخيرة، وحين نتحدث عن القوة الناعمة ينصرف ذهن البعض للوهلة الأولي إلي المجالين الفني والأدبي فقط، غير أن القوة الناعمة تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، خاصة المجال الدينى، وفى المقدمة دار الإفتاء المصرية.

واقع الحال أن التراث الدينى المصرى، يعد من أبرز جوانب قوتها الناعمة، المدرسة المصرية فى تلاوة القرآن الكريم وتجويده لها مذاق عالمى، وكذلك الابتهالات الدينية وصوت الشيخ محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد ومحمود صديق المنشاوى وغيرهم وغيرهم، وابتهالات الشيخ على محمود والنقشبندى ونصر الدين طوبار وغيرهم، مسموعة عالميا، وتيار التطرف والتشدد الذى راح يهون من المدرسة المصرية ويحاربها، فعل ذلك ليحارب نموذج" الإسلام المصرى "لصالح إسلام المتشددين والإرهابيين، وحارب المتشددون كذلك مدرسة الإفتاء المصرية، ممثلة فى دار الإفتاء، التى جلس على قمتها شيوخ ومفتون عظام، من أبرزهم الأستاذ الإمام محمد عبده، الذى كانت له مكانته الفقهية فى العالم الإسلامى كله، فكان المسلمون فى الهند وفى إفريقيا، وكذلك فى أوربا يستفتونه وكان مجتهدا بحق وعالما فذا.

وتاريخ دار الإفتاء المصرية، قبل الشيخ محمد عبده وبعده، تاريخ مشرف، وكان لها مواقف حاسمة فى اللحظات والمواقف الصعبة، فى العقد الثانى من القرن العشرين، وحين احتدمت الحرب العالمية الأولى، واهتز عرش الإمبراطورية العثمانية وحاصرها التفكك وراحت تنفذ سنة 1915، ما بات يعرف فى التاريخ باسم" مذابح الأرمن " واستندت الدولة العثمانية فى ذلك على فتوى أصدرها مفتي السلطنة العثمانية، والمفترض أنه أعلى سلطة إفتاء فى العالم الإسلامى كله، لأنه يمثل دولة الخلافة الإسلامية، ومع ذلك فإن مسلمي أضنة بتركيا لجأوا إلى دار الافتاء المصرية لتفتيهم فيما يتعرضون له وكان أن رفضت تلك المذابح وأدانتها، وكانت فتوي مدوية ولا تزال إلي يومنا هذا، ومن المهم القول إن الأرمن الذين كانوا يذبحون لم يكونوا جميعاً مسلمين كان فيهم المسيحيون ولم يكونوا أقلية بين الأرمن، ومع ذلك فإن دار الإفتاء انحازت إلى الإنسان، عموم الإنسان، بغض النظر عن ديانته، وإلى اليوم يذكر الأرمن، المسيحيون منهم قبل المسلمين، لمصر ولدار الإفتاء المصرية هذا الموقف النبيل؛ الذى يمر عليه هذا العام قرن بالتمام والكمال.

فى اللحظات الحاسمة كانت دار الإفتاء المصرية قادرة على أن تميز الحق من الباطل، حتى لو ارتدى الباطل مسوح الورع والتبتل، وفى أوقات كثيرة  ذرف الإرهابيون وأنصارهم دموع التماسيح، وكانوا كلما اقتربت منهم الدولة بقانونها وسلطتها، رفعوا صوت المظلومين ، لكن كان علماء ورجال الافتاء قادرين على التمييز وكشف الزيف فى تلك الأصوات، وبهذا النقل التاريخى والفقهى وجدت دعوة دار الإفتاء المصرية آذانا صاغية فى كل قارات الدنيا، وقصدها الجميع، رغبة فى الوصول إلى حل ناجع لكارثة "فوضى الفتاوى" وفتاوى القتل والدم، التى أسس لها الإرهابى الأول حسن البناء ومن بعده سيد قطب المأزوم نفسا وعقلا، ومن سار على دربهما بالتكفير والإرهاب إلى يومنا هذا.

وفى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر قدم فضيلة المفتى د.شوقى علام رصدا دقيقا لحال الفتوى والإفتاء الآن، حيث تحدث عن "فتاوى أشباه العلماء" وأشار إلى الأمية الدينية لدى بعض من يتصدرون للفتوى، وقد أفاض العلماء الأجلاء فى الرصد والبحث والتحليل وتوصلوا إلى نتائج ومقررات عرض لها فى العدد السابق من "المصور" زميلنا النابه طه فرغلى.

عقد المؤتمر فى لحظة فارقة، استطاع فيها المتشددون والإرهابيون إغراق بلاد المنطقة فى بحور آسنة من الدماء، ويحاولون تمزيق الأوطان وتدمير المجتمعات، وأمامنا ما جرى ويجرى فى العراق وسوريا واليمن وليبيا، فضلا عن نيجيريا ومالى والصومال غير أن العلماء تناولوا المسألة فى جوانبها العلمية والفقهية، وهم يسعون بذلك إلى سد الثغرات التى ينفذ منها "أشباه العلماء" ؛ لكن للموضوع شقا قانونيا، يجب أن يلتفت إليه المشرع وأجهزة الدولة.

نحن فى بلد إذا تجرأ حلاق الصحة على أن يأخذ دور الطبيب ويمارس مهامه، ألقى القبض عليه وحوكم بتهمة "انتحال صفة"، ولا يمكن لأى مواطن أن يذهب إلى محل ويشتري بدلة ضابط شرطة ويفتتح قسم بوليس أو يمارس دور الضابط فى الشارع دون أن يحاكم، وهكذا فى سائر المهن والوظائف، لكن هذا لا يحدث فى حالة الفتوى والإفتاء . الباب مفتوح لأشباه العلماء والموتورين والمرضى النفسيين والمختلين عقلا، فضلا عن الراغبين فى جمع الأموال والفوز بالجاه أن يتصدوا للفتوى والإفتاء، وجدنا شابا حصل على "معهد الصيارفة" ، بدلاً من أن يعمل فى تخصصه، أطلق لحيته وأخنف صوته، وراح يفتى الناس وكان أن أفتى شاباً بعدم الاعتراف بابنته. على أن يكفر عن ذنب بذبح خمسين جملا وهكذا وهكذا، ولم يحاسب يوما أي من هؤلاء، على اقتراف تلك الجريمة، بعضهم حوسب فقط حين مارس الإرهاب فعلا، لكن لم يحاسب أي منهم حين دعا إلى الإرهاب.

لابد من تشريع يجرم "أشباه العلماء والموتورين" الذين أشار إليهم د.شوقى علام، ودون ذلك سوف يبقى هؤلاء يمرحون ويعيثون فسادا فى زواياهم والشقق الخاصة التى يجمعون فيها المريدين والمريدات، ويقومون خلالها بعمليات غسيل مخ ويمارسون حرب الفتاوى ضد المجتمع والدولة وضد الدين أيضا.

 

نقلا عن مجلة المصور 

    الاكثر قراءة