السبت 29 يونيو 2024

التصميم الواعى بيئياً واجتماعياً وحضارياً

فن3-11-2020 | 20:21

الفهم الشائع للتصميم أنه نشاط يجرى فى إطار علاقة بين فردين/طرفين: أحدهما المستهلك –أو بالتعبير الدارج- الزبون، الذى يحتاج- أو يتصور أنه يحتاج -إلى سلعة ما سواء كانت منتجاً أو منشأً، والآخر هو المصمم –أو مكتب التصميم- الذى يُفترض أنه قادر على تلبية هذه الحاجة. هذه العلاقة يبدو فى-الفهم الشائع- أنها معزولة عن السياق الاجتماعى الحضارى البيئى، ولا تحكمها –فيما يبدو- إلا معايير الوظيفة –وظيفة السلعة/المنتج- والمظهر/الجماليات والسعر، وهى أيضاً علاقة قصيرة الأمد جداً تنتهى فى لحظة تسليم –أو بيع- السلعة/المنتج، هل تتماشى هذه العلاقة مع المستقبل؟

المسئولية البيئية للتصميم

التصميم –وفقاً للنظرة المستقبلية ومبادئ التنمية المستدامة- أخطر من أن يترك للمصممين وحدهم، إننى أتكلم عن نشاط التصميم بدءًا من مستوى الفكرة Concept وصولاً للتصميم النهائى للسلعة/المنتج والرسومات التجميعية لها Assembly drawings والرسومات التفصيلية Working drawings للمكونات. أعنى مما سبق أن المصمم يجب ألا يعمل وحده، لكن بصحبة - وعلى علاقات تشابكية مع- أخصائى البيئة وعالِم المواد والمتخصص فى المجال الاجتماعى، الخ أى أن المصمم يعمل فى إطار نسق System يؤثر ويتأثر بالمشاركين معه دون أن ينسى – أو يضحى بـ الوظيفة/الوظائف التى يتوجب أن تؤديها السلعة أو المنتج، لماذا؟

لأن التصميم يتضمن اختيار المواد Materials: هل تُستخدم فى مكونات السلعة/المنتج مواد غير متجددة كالألومنيوم أو مواد متجددة كالخشب؟ وكل اختبار له تكلفته البيئية: فعلى سبيل المثال الطاقة الصافية اللازمة للتصنيع Net energy requirement للألومنيوم 198.4 GJ/ton وللخشب 3.1 GJ/ton.

كذلك يخفى التصميم وراءه اختيار عملية Process التصنيع وما تتطلبه من طاقة وما ينتج عنها من عوادم ونفايات وأشكال للتلوث البيئى، كما يخفى أيضاً التكلفة البيئية المتمثلة فى الطاقة المطلوبة لتشغيل واستعمال السلعة/المنتج، والأمثلة كثيرة: الثلاجة والسخان والحاسب الآلى والطابعة وسائر الأجهزة المنزلية وأجهزة المكاتب Offices كذلك تتضمن المسئولية البيئية للتصميم التعامل مع السلعة/المنتج بعد نهاية فترة الاستخدام أو العمر الافتراضى لها: هل التخلص منهاDisposal لتجد طريقها إلى مقلب القمامة أو الاستعادةRecovery ؟

يعنى ما سبق أن مسئولية التصميم تمتد عبر المراحل المختلفة لحياة السلعة/المنتج Life cycle: من المهد الى اللحد From cradle to grave.

هكذا يحل مصطلح التصميم البيئىEcologically conscious design(Ecodesign) محل مصطلح التصميم Design، ويعنى التصميم البيئى وفقاً لأحد التعريفات الشائعة[1]: "ذلك النشاط الذى يؤدى إلى تضمين الاعتبارات البيئية فى أساليب تصميم المنتج والعمليات الصناعية اللازمة لإنتاجه، ويستهدف التصميم البيئى تطوير منتجات وعمليات صناعية متوافقة مع البيئة مع عدم الإخلال باعتبارات أداء وظيفة المنتج والسعر والجودة".

البعد الاجتماعى

رأيى أن هناك تحيزاً اجتماعياً –فى الوعى أو اللاوعى- وراء تصميم أى سلعة/منتج: هل يخاطب المنتج احتياجات المترفين القادرين على التعبير عن أنفسهم بوضوح كطلب سوقى  Market demandوالقادرين على الضغط اقتصادياً وإعلامياً بهذا الطلب، أو احتياجات غير القادرين؟ هناك احتياجات عديدة خفية للفقراء لا تستطيع أن تعبِّر عن نفسها من خلال قوى السوق، كما أن هناك طلبا سوقيا للفقراء من سلع ومنتجات يختلف جذرياً عن الطلب الخاص بالأغنياء والمترفين، فما هو اتجاه أو توجه التصميم فى هذا الصدد؟

هناك كذلك تحيز اجتماعى آخر يتعلق بموقع النشاط الإنتاجى وطابع العمالة القائمة على تصنيع/إنتاج المنتج: هل ينحصر الإنتاج فى الحضر، أم أن الإنتاج يتوزع بين الحضر والريف، بين المدينة والقرية؟ وعلى المستوى الماكرو: هل يختار التصميم استيراد المكونات –مكونات المنتج- أم التصنيع المحلى لهذه المكونات؟

البعد الحضارى.

هل تنحصر وظيفة المنتج فى الوظيفة الاستعمالية المباشرة له أم أن وظيفته تتسع لتشمل أبعاداً حضارية؟ هل المنتج خالى التعبير حضارياً أم أن له قدرة على التعبير حضارياً، وهو ما أسميه التعبيرية الحضارية Cultural expressiveness: هل يعبِّر التصميم عن قيم حضارية تنتقل بالنظر والاستعمال بوعى أو بلا وعى للمستهلك؟

المثال المعبِّر هنا هو "صحن الدار"، Inner court، البناء أو الفراغ الداخلى دون سقف فى المعمار الاسلامى، والذى يعبِّر عن نوع من الاعتذار عن الانغلاق عن الطبيعة/الكون والرغبة فى الارتباط بهما والذى كان نموذجه الأول المسجد الذى بناه الرسول (صلى الله عليه وسلم) فى المدينة المنورة.[2]

وعودة إلى مصطلح التصميم البيئى Ecodesign (شكل (1)) يقتضى التركيز على الإبداع أن نتجاوز مستويات الإصلاح والتحسينات الجزئية إلى إعادة التصميم والتفكير، مما ينقل قضية التصميم البيئى من البعد التكنولوجى إلى البعد الحضارى.

تجربتنا مع التصميم الواعى بيئياً واجتماعياً وحضارياً: نموذج مشروع القايات

عندما اخترنا العمل فى قرية القايات – وهى واحدة من أفقر 11 قرية فى محافظة المنيا- والمتميزة بتوافر النخيل اتجه مشروعنا إلى تصنيع الأثاث العصرى من جريد النخيل بديلاً للأخشاب المستوردة التى يتم الحصول عليها من خلال قطع الأشجار فى الغابات ثم تصنيعها فى صورة ألواح Lumber، ثم نقلها لآلاف الكيلومترات لمصر مما يُمثل تكلفة بيئية باهظة بالمقارنة بجريد النخيل الذى يجرى الحصول عليه من خلال تقليم –خدمة- النخيل: أى أن المسافة التى يقطعها جريد النخيل من النخلة حتى تصنيعه لا تتجاوز عدة كيلومترات.

ومن منظور دورة الحياة Life cycle، فإننا نرى أن استخدام جريد النخيل فى تصنيع الأثاث يمثل إحدى مراحل –أو حيوات- التعامل مع جريد النخيل: من مرحلة الوظيفة الأيكولوجية وهو على النخلة إلى مرحلة استخدامه فى تسليح البوليمرات أو العلف أو السماد كما يوضح شكل (2).

دور المصممين

يوضح شكل (3) النسقSystem الذى جرى فى إطاره التفاعل مع مجموعة من المصممين الذين راهنوا على تفرد Uniqueness جريد النخيل وجمالياته كمورد نَحوذُه نحن، ويقع بالتالى على عاتقنا أن نكتشف إمكاناته الذاتية فى التصنيع وأن نطوِّع هذه الإمكانات لإنتاج قطع أثاث عصرية، ولقد أدى هذا التفاعل إلى تغيير جَذْرِى فى تعاملنا –نحن فريق العمل التقنى- حيث اتجهنا إلى استخدام ألواح سدائب جريد النخيل مباشرة لتصنيع قطع أثاث وليس كطبقة حشو Core layer داخل ألواح الكونتر Blockboards كما كنا نعمل من قبل. ويوضح شكل (4) نموذجاً لمنضدة من جريد النخيل والتى يحمل تصميمها طابعاً مصرياً متميزاً، تلك المنضدة جرى تجميعها وتشطيبها فى أحد مصانع الأثاث فى القاهرة من ألواح سدائب جريد النخيل قام أبناء قرية القايات بتصنيعها فى قريتهم بمعدات تم تصميمها وتصنيعها محلياً.

 نقلا عن مجلة المصور

    الاكثر قراءة