الديمقراطية آتية لا ريب فى ذلك حتى وإن تأخرت لبعض الوقت لأنها
حقائق المستقبل شئنا أم أبينا... كانت هذه بعض كلمات د. حسين كامل بهاء الدين الذى
رحل عنا يوم الجمعة الماضى وكان كثيراً ما يرددها لي فى مناسبات كثيرة وحوارات
«بعضها صحفى وبعضها إنسانى وهو الأكثر» بينى وبينه حتى إننى أقيمت في آخر لقاء منذ عام
تقريباً يعني عقد منذ أكثر من عام وقلت له يعنى الديمقراطية هى الحل.
أول مرة التقيت بالدكتور حسين كانت قبل أن يتولى
منصب وزارة التعليم عندما ذهبت إليه فى مستشفى أبو الريش للأطفال أطلب معاونته فى
رعاية طفل ابن أحد المعارف وبالفعل قام بكل شىء وتم عمل العملية «المكلفة» للطفل
فى المستشفى الحكومى المجانى بعدها بقليل حدث تغيير وزارى وكان اسم د. حسين كامل
الطبيب ضمن المعينين لتولى منصب وزارة التعليم وبحكم التخصص والتردد على وزارة
التعليم، تعرفت عليه أكثر ولكن كالمعتاد معى لم تكن الخطوط مفتوحة معه لأنى دائماً
أطرح التساؤلات «المشاغبة» على حد تسميته وجرت مياه كثيرة وصدر قانون إلغاء
انتخابات العمادة من المناصب الجامعية وكنت ضد القرار اقتناعاً بمقولة أهل مكة
أدرى بشعابها، وعدم رفض منه أيضاً ولكن أشهد أننى استمريت فى تغطية أخبار الوزارة
بدعم من الأستاذ مكرم محمد أحمد إلى أن جاءت الحملة عليه وتوزيع الكتب ضده من
الإخوان وأشقائهم من التنظيمات الإرهابية ووجدتنى تلقائياً أقف فى الجانب معه
وبدأت حدقة عينى تنفتح أكثر على جوانب أخرى من شخصيته، وأشهد أنه في هذه المرحلة
كانت هناك حيوية ورغبة كبيرة لتطوير التعليم حضرت مؤتمرات كبيرة لتطوير التعليم
الابتدائى واستمعت إلى الكبار وعلى رأسهم اليساري الكبير د. إسماعيل صبرى عبدالله
الذى كان يرأس عمل أحد هذه المؤتمرات.
ثم كان قراره الأهم فى تاريخ التعليم المصرى
الحديث بعد قرارات د. طه حسين بالمجانية وتطوير التعليم وأقصد قراره بتغيير
امتحانات الثانوية العامة لتصبح على عامين بدلاً من عام واحد وفتح عدد مرات دخول
الامتحان تماماً مثل شهادة I.G. «آى جى» الإنجليزية وكان
دفاعه عن ذلك أنه طالما متاح للأغنياء الالتحاق بهذه الشهادة وتعدد فرص دخول
الامتحان فلماذا لا يتيح ذلك أيضاً للأغلبية العظمى من أبناء مصر لاسيما فقراؤم
والطبقة المتوسطة لأنه كان يرى أن الفقر وسوء التغذية مسئول عن تدنى المستوى
الدراسى والتحصيلي للطلاب وأنه بفتح عدد الفرص لدخول الامتحان أمام الطلاب، أولاً
سوف تقضى على رهبة امتحان الثانوية العامة وثانياً سوف يعوض الطالب الذى لم يحصل
على دروس «خصوصية» حقوق التحصيل لأن التكرار يتضمن تحسين الأداء.
لقد لمس د. حسين كامل بهاء الدين الوتر الحساس
عندى ألا وهو معيار تكافؤ الفرص فى التعليم وليس هناك مانع من استمرار الأغنياء فى
مدارسهم وشهاداتهم الأجنبية ولكن علينا أن نتيح ذلك للجميع فانتصرت لرؤيته له
تماماً.
وبدأ هنا يتعرف على الجانب الآخر من من الصحافة
وهو أن المعارضة ليست من أجل المعارضة وحب الاعتراض وإنما كان من أجل الدفاع عن حق
المصريين جميعاً فى تعليم متكافئ وبدأت الجسور معه تفتح بالكامل ويسمح لى بالحضور
فى أغلب النقاشات حتى منها ما لم يحضره زملائى لأنه كان يقول إنها تريد أن «تتعلم
أصول التعليم وأفكاره» ليس من أجل السبق الصحفى «وكان متاحاً أمامى» ولكن من أجل
العلم والمعرفة ولذلك احترمت أن للمجالس أمانات تحترم حتى لو كنت مختلفة مع بعض ما
يقال وكان كثيرا.
ولكن أصحاب النفوذ والسلطة وعلى رأسهم د. الجنزورى
وكان معه مساعده المستشار طلعت حماد شن حملات شعواء على نظام الثانوية العامة
الجديد وكان أن أطلقوا عليه نظام التحسين الفاشل وللأسف هذه الشخصيات مازالت
مستمرة حتى يومنا هذا!! وكان يقلقها أن «يتعلم الجميع من الشعب المصرى» وأن يتساوى
أبناء الأغنياء مع بقية الشعب المصرى وبدأت المؤامرات والحملات الإعلامية «مثل ما
يحدث الآن تماماً» لتشويه هذا القرار تحت حجة ارتفاع المجاميع وأنها تجاوزت سقف
الـ100%...
رغم أن هذه الشهادة الإنجليزية ما زالت مستمرة حتى
الآن للأغنياء وسقف المجموع يتجاوز الـ100% ويلتحقون بالجامعات المصرية ولم يهاجم
هذا أحد!.
وذهبت إليه فى يوم كان عائداً من اجتماع فى
الرئاسة على ما أتذكر وعندما دخلت عليه وجدت وجهه مكفهراً، سألت عن الأخبار فقال
لى لا أريد أن أتحدث، غادرت مكتبه.
وبعدها علمت أن مراكز القوى فى السلطة وهى دائماً
موجودة انتصرت نسبياً وتم إلغاء مبدأ التحسين وتعدد فرص دخول الامتحان للجميع ولكن
بمهارته السياسية وهو أستاذ فيها «حيث عمل رئيساً لمنظمة الشباب التى تأسست على
يده» استطاع أن يفاوض للاستمرار فى نظام الامتحان على عامين وقال «أحسن من مفيش»
للحقيقة أن تطوير التعليم والثانوية العامة كان أحد أهم ملفاته ولكن للأسف لأننا
دائماً ما نقفز للأمام ومراكز القوى الاجتماعية كانت أقوى بل حتي من من أيام
الملكية وتم وأد مشروعات الإصلاح لأنها أولاً لم يصاحبها رأى عام قوى يدافع عنها
لاسيما من أصحاب المصلحة فى الحصول على حقهم فى التعليم «وما زالوا حتى الآن خارج
نطاق الخدمة».
بل إن مراكز القوى فى ذلك الوقت أصدرت أيضاً
القرارات مثل إلغاء تكليف خريجي كليات التربية للعمل كمدرسين بالوزارة ويضاف إليهم
بالسماح بإنشاء الجامعات الخاصة فى مصر لأول مرة وكانت هناك فقط الجامعة الأمريكية
حتى منتصف التسعينيات وفى نفس التوقيت أيضاً كانت الحملة على د. حسين كامل تتصاعد
من مراكز القوى فى السلطة ومن التيارات المتطرفة والإسلام السياسى خاصة بعد قراره
بمنع الحجاب فى المدارس الابتدائى نهائياً وبموافقة ولى الأمر كتابياً فى الثانوى وبالتالى
حظر النقاب تماماً بمؤسسات التعليم خاصة وإن صاحب ذلك إبعاد للمدرسين «المتطرفين»
وما أكثرهم فى مؤسسات التعليم عن العملية التعليمية إلى العمل الإدارى ورفعت
القضايا حتى وصلت إلى المحكمة الدستورية التى أنصفت فيها المحكمة برئاسة العلامة
د. عوض المر قرار د. حسين كامل بهاء الدين رغم كل الحملات الضارية من السلطة
والإعلام إلى آخره، وبعد هذه المعارك بدأ منحنى الفكر يتغير قليلاً فى الوزارة إلى
الاتجاه إلى العمل العميق بالتطوير الجذري للمناهج لاسيما للمرحلة الثانوية وهو ما
كان ينبغى أن يكون الخطوة الأولى فى معاركه وقد قلت له ذلك بعد حين كنت قد اقتربت
كثيراً من المطبخ فى التعليم وكان بدعم كامل منه مع احتفاظه بتسميتى «بالمشاغبة»
ورغم أننى كنت أنتقد أحياناً بعض السياسات أو التطبيق إلا أنه كان يستمع بصدر «رحب
جداً» بل ويطلب أن أقول رأيى وأطرح الأسئلة أمام كوادر التربية والتعليم التى
أحياناً «وما زالت» تقول لكل وزير ومسئول الدنيا ربيع وكله تمام إلى آخره. فقد كان
يري أن كسر حاجز الرهبة وفتح النقاش الحقيقي هو أولي خطوات التغيير.
وليس خروجاً عن السياق أذكر أنه فى أوائل الألفية
الحالية كان هناك مؤتمر بالصين للدول التسع الأكثر كثافة فى السكان تنظمه
«اليونسكو» وكنت أرغب فى السفر والمعرفة والاحتكاك لأن الإنسان وخاصة الصحفى بدون
الاضطلاع والاحتكاك بالتجارب الأخرى يصبح للأسف «خاوى» «التجربة والمعرفة» وهنا
أقول إن أغلب وزراء التربية والتعليم تحديداً أو هذه الوزارة تحديداً لم تكن تصطحب
فى رحلاتها للخارج صحفيين تحت حجج شتى، وبعد فترة أدركت السبب هو أن أغلب الوزراء
لا يريدون صحفيين يشاغبون أو يعرفون ما يحدث فى العالم لاسيما فى التعليم المهم
عبرت عن رغبتى.
ووصلنا إلى صيغة وسط هو أن تدفع لى المؤسسة تذكرة
الطيران وأنضم بعدها إلى وفد الوزارة وقد كان وتنازلت عن بدل السفر الخاص بى ليذهب
لشراء تذكرة ودعمنى أستاذ مكرم وبعد العودة من الرحلة التى تعرفت فيها على عالم
جديد تماماً بل وأصبحت هى القوى العظمى الآن اقتصادياً أقصد الصين.، وفى حواره فى
ندوة المصور قال بجدية
شديدة إننى كنت مهددة بالترحيل من الصين؟!! وأسقط فى يد الأستاذ مكرم
وزملائى ولكنه ضحك وقال لأننى كنت أفاصل بقوة شديدة والأهم أننى كنت أحصل فى
النهاية على السعر الذى أضعه ضحك الجميع بما فيهم كوادر وزارة التعليم لأنه كان
شديد السخاء على من يعملون معه وكان لا يرفض طلبا إنسانيا أبداً لأحد.
ولكن في أوائل الألفية الحالية جاءت مجموعة النظام
الجديد لتتولى فعلياً مقاليد الحكم فى مصر وأقصد جمال مبارك وشلته وبالتأكيد لم
يكن لأفكار وشخصية د. حسين كامل مكان بين هؤلاء سواء فى الدعوة للتوريث أو فى
اعتبار التعليم خدمة والالتفاف حول المجانية، والغريب أن هؤلاء جميعاً عادوا الآن
تحت أسماء مختلفة للصورة والمشهد من لافتة «المستشارين»!. ومن ثم خرج من الوزارة
عام 2004 بعد بقائه فى المنصب ما يقرب من 14 عاماً، ليعود إلى مكانه المحبب هو طب
الأطفال ولم يتوقف عطاؤه للحظة بل كان يذهب إلى الجمعية المصرية لطب الأطفال جمعية
الأطفال التى ظل رئيسها حتى وفاته وكان يذهب في موعد يومي لا يتغير فى موعده
اليومى الثامنة صباحاً وكثيراً ما ترددت عليه فى الجمعية نتحاور ونتناقش وأستزيد
علماً.
وبعد ثورة يناير 2011 كان سعيداً بها وبالشباب
تحديداً ولكن سرعان ما تغيرت الأمور وتولى الإخوان ثم انتصر الشعب وعزل الإخوان
وأشقاءهم عن حكم مصر وكانت الأمور تجرى للإعداد للدستور الجديد وكان وهو يقترب من
الثمانين من عمره يتصل ويضغط بل ويذهب بنفسه إلى لجنة الخمسين لإعداد الدستور وكل ذلك
لكى يضم الدستور الجديد مواد لرعاية الطفولة المبكرة لأن رأيه أن هذه أهم مراحل
تكوين الإنسان وأن كل دول العالم الآن أصبحت مرحلة الحضانة أول الطفولة المبكرة
أصبحت مرحلة أساسية فى التعليم وكان يرى أن مصر أولى بذلك واقترح أيضاً أن يمتد
الإلزام إلى المرحلة الثانوية وللحقيقة أثمرت جهوده على أن يتضمن الدستور الجديد هذه
المواد التى اقترحها د. حسين كامل التى أعتقد أنها كانت آخر أعماله فى مجال العمل
العام التعليمى.
ولكن فى هذا التوقيت وبعد إلحام الوقت اقتنع
بأنه آن الأوان أن يتحدث خاصة فى القضايا التعليمية والطفولة لأن ما يحدث على
الساحة التعليمية كان شيئاً من العبث وخارج نطاق العصر ويعود بنا إلى عصر الكتاتيب
واستجاب لضغوطى أخيراً وأجريناً حواراً مطولاً نشر فى المصور منذ عامين أو أكثر
واستمريت ألتقى به ونتحدث فى الشأن العام «همه الأكبر» لأنه عاشق لمصر ويريدها
متقدمة وحديثة وكان كثيراً ما يعطينى دفعة من التفاؤل للاستمرار فى الكتابة عن
قضايا التعليم خاصة أن اليأس تسرب إلى قلبى وعقلى فى الأعوام الأخيرة حتى إننى
أطلقت لقب المشروع القومى لتدمير مصر وكان عن أحد المشاريع التعليمية المقترحة من
الوزراء والمسئولين والمستشارين وما أكثرهم.
هكذا ورحل د. حسين كامل بعد رحلة قصيرة من المرض
كان آخر اتصال بيننا منذ أكثر من 3 أشهر وعندما اتصلت به فى رمضان لأسلم عليه لم
يرد فعرفت أن الأمر جلل وبالفعل رحل فى توقيت كنا نحتاج فيه إلى مشورته الفكرية
والعلمية بل والتنفيذية فى ظل حالة الانهيار الحالية للتعليم فى المؤسسات
الحكومية.