"أحد أطرف المقالات النقدية التي كتبها المازني مقالة نشرها سنة 1925 ينكر فيها وجود الدكتور طه حسين، ويعتبره من مخلوقات الخيال ليس إلا! وكان طه حسين بسبب طريقته في الشك المنهجي، والتي استعملها بقسوة في أوائل حياته العلمية، قد أنكر وجود "مجنون ليلى" في أحد مقالات "حديث الأربعاء".
وكأن الأمر فاق احتمال المازني، لأن طه حسين سبق وأنكر الشعر الجاهلي وانكر بعض الشخصيات التاريخية القديمة، والآن ينتقل لإنكار وجود مجنون ليلى أيضاً، ويقول أنه ليس شخصا حقيقيا ولكنه طائفة من القصص التي ابتكرها الرواة، ودليل ذلك أن الرواه تضاربوا فى شأن هذا المجنون مما دل على كذبهم! فأراد المازني أن يستخدم المنهج نفسه بل وأسلوب طه حسين في الكتابة لينكر وجود طه حسين نفسه ويقدم الاثباتات على ذلك بطريقة طه حسين!
وفي البداية يقول المازني أن طه حسين ليس أضخم شأناً من هوميروس الذى يذهب الكثيرون من جلة العلماء المحققين إلى أنه اسم خرافى، ولا من شكسبير الذى يزعم بعضهم أنه اسم انتحله واستتر وراءه خلافه؟ ويتخيل المازني أن مؤرخا فى القرن الثالث والعشرين تناول حياة طه حسين بطريقة طه حسين ثم تخيل أن النتيجة ستكون كما يلى:
"يزعمون أن رجلاً اسمه "الدكتور طه حسين" عاش بمصر فى أوليات القرن العشرين وأنه صاحب هذه الكتب المختلفة التى نسبوها إليه ونحلوه إياها، ولكن كل ما أطلعت عليه مما يعزى له يحملنى على التردد بين رأيين: أحدهما أن يكون هناك أناس كثيرون يتسمون "طه حسين"، وثانيهما أن يكون هذا اسما أستعاره فرد أو عدة أفراد لما كتبوه ونشروه. ذلك أنه على ما روى أزهرى النشأة، والأزهر هذا جامعة إسلامية كبرى يلبس طلابها الجبة والقفطان والعمامة أو ما ماثل ذلك من ثياب العامة فى ذلك الوقت مما تجد نماذج منه فى المتاحف. فهو على هذا "شيخ" ويقولون أنه كان فى صدر أيامه هذه يكتب فى صحيفة يومية أسمها "الجريدة" ولكنى رجعت مجموعة هذه "الجريدة" فى دار الكتب فألفيت أحد أدباء ذاك العصر واسمه "عبدالرحمن شكرى" يسميه "طه أفندى حسين" فى مقال له.
وهو ما لا سبيل إلى حمله على أنه خطأ أو زلة قلم لأن الفرق بين الأفندى والشيخ كان من الوضوح والاختلاف فى التعليم وفى النشأة والوسط والزى كان من الشدة بحيث لا يعقل أن يقع الخلط بينهما. فهل "طه أفندى حسين" هو عين "الشيخ طه حسين"؟ ويعزى إلى "طه حسين" ولا أدرى أيهما؟ مقال بل عدة مقالات فى الجريدة يدعو فيها إلى تغيير الهجاء ورسم الكلمات. فهل كان الداعى إلى هذا والملح فيه الشيخ أو طه أفندى؟ أما الشيخ طه فكان على ما يقولون مكفوف البصر وكان فى ذلك الوقت لا يزال طالبا بالأزهر ومن المعلوم أن طلبة الأزهر كانوا من "المحافظين"، ومن أشد طبقات المتعلمين استنكارا للبدع ونفورا من أصحابها وكثيرا ما كانوا يتجاوزون الاستهجان بالقلب أو باللفظ ويتضاربون بما كانوا يتفكهون بأن يسموه "السلاح الأحمر" يعنون به النعال!
ولم يرو أن الشيخ طه كان من أبطال هذه المعارك الحمراء ولا من ضحاياها وأخلق به ألا يكون وقد كان - كما يزعمون - ضريرا. فلو أنه صاحب هذه البدعة والمنادى بها لأصابه رشاش من قذائفها. زد على ذلك أنه ضرير. وما اهتمام الضرير برسم الكلمات؟! ما له ولهذا وهو لا يعانيه ولا يكابد صعوباته؟! إن الاهتمام لذلك والتحمس له أحق بأن يكون من رجل يكابد الكتابة بنفسه لا من كفيف ما عليه إلا أن يُملى. وهو على كل حال خاطر أولى به أن يجرى ببال مبصر لا ضرير.
فالأرجح فى الاحتمال والأقرب إلى المعقول أن يكون هناك شخصان اسم كل منهما "طه حسين" وأحدهما أفندى مبصر يقول الشعر ويدعو إلى تغيير الهجاء والثانى شيخ ضرير يكتب فى الأدب. والآن من هو "الدكتور طه حسين" صاحب "حديث الأربعاء" أهو الشيخ أم الأفندى أم هو لا هذا ولا ذاك، بل شخص ثالث؟؟ أما إنه أحدهما فإنى أقطع بنفيه. وحسبك الفرق بين أسلوب هذين وأسلوب ثالثهما.
ويظهر أن هناك أكثر من "دكتور طه حسين" واحد. ففى بعض المقالات المعزوة إلى هذا المتسمى "الدكتور طه حسين" تنويه بأن كاتبها كفيف وفى البعض الآخر ما يفيد أنه مبصر؛ فهو يقول "قرأت ورأيت وشهدت" وما إلى ذلك من الألفاظ الدالة على الرؤية ويصف لك بعض المشاهد لا تخيلا بل كما هى كائنة.
مثال ذلك بعض رسائل بعث بها من فرنسا وفيها يصف مناظر البلدان، ومقالات عن روايات شهد تمثيلها ولم يقتصر فى كلامه عنها على تناول القصة، بل جاوز هذا إلى التمثيل والأداء. ومما يؤكد هذا التعدد أيضا أن لأحد هؤلاء الدكاترة – فإنهم على ما يبدو لى كُثر - أبناء يسميهم أسماء أفرنجية، وإن الصحف المحفوظة فى دار الكتب مختلفة فبعضها يقول "الشيخ طه حسين" والبعض يذكر "الدكتور طه" وواحدة تزعمه أستاذا فى الجامعة وأخرى صحفيا، ومعروف أن قوانين ذلك العصر لا تجيز أن يكون المرء موظفا فى جامعة أميرية وصحفيا فى الوقت عينه.
وأحد هؤلاء الدكاترة كان مولعا باللاتينية واليونانية وكان يلح على وزارة المعارف أن تدرسهما فى المدارس الثانوية ولا يكاد يتفق ذلك مع الصبغة الأزهرية الأولى.
أضف إلى ذلك أن "الشيخ طه حسين" كان ذا لحية وأن دكتور الجامعة أو الصحفى كان أفنديا حليقا؛ فالأمر كما ترى لا يعدو إحدى إثنتين: أن يكون هناك أشخاص عديدون لهذا الاسم وهو غير محتمل أو أن يكون هذا الاسم مستعارا وهو الأرجح".