"اشتدت قبضة الحياة على عنقي، رغبت في الصراخ والركض، هربت من أوامر الطبيب الذي أوصاني بعدم الانفعال أو التعرض إلى ضغوط، ذلك الجاهل لا يعلم أنني مثل الرقائق التي توضع بين الأواني الصينية، أظنني خُلقت ليسحقوني، هربت من خوف أمي وعصبية أبي عند رؤية دموعي، فررت من الشامتين في انكساري والذين يرونني لا أنكسر، مشيت وكان المشي الغاية والوسيلة، تخففت من ثيابي في كل خطوة، ألقي قطعة، داعبني نسيم البحر، خلعت جواربي، أحب ملمس الرمال لباطن قدميّ، رأيت كتلة بيضاء من غير سوء على حافة البحر، اقتربت أكثر .. وضح لي أنه رجل في جلباب أبيض، لم أصدر صوتًا لكنه شعر بوجودي، التفت نحوي وغض بصره سريعًا، كنت عارية إلا من قطعتين صغيرتين، نهض واقفًا وخلع جلبابه، كان يرتدي آخرَ أسفله، مد يده دون النظر إليّ، لبسته كان دافئًا وفضفاضًا شعرت كأنه لي، لدي حساسية من الروائح لكن رائحته لم تزعجني، تشبه رائحة ابني، فقدت طوق شعري فتطاير أمام عينيّ، استدار بكامل جسده وأخرج من جيبه "استيك نقود"، أخذته وعقدت شعري المتمرد.
همس:"لا تنشغلي بذاتكِ عن ذاتكِ"
تذكرته، "أنت ماجد، منشد "روحي الحائرة يعذبها الشوق إليك"، استكمل:"آلمها كل شيء وتريد الاحتماء بك"، أخبرته أنني عطشى.
الماء أمامكِ وتتحدثين عن العطش!!"
لكن البحر مالحٌ.
أمسك معصمي، مشيت خلفه، ضم كفيه وغرف الماء لامسه بشفتيه، أدناهما مني، شربت كان الماء عذبًا، شهقاتي المكتومة جعلت صدري يعلو ويهبط.
أخائفة مني؟
لأول مرة يعتقني الخوف.
لماذا تثقين بي؟
لا أعرف صوتك يعيد الأمان لي.
أنشد:" روحي الحائرة يعذبها الشوق إليك
آلمها كل شيء وتريد الاحتماء بك
يا خالقي أنت عالم موطن دائي
خلصني من كل ما يعوق شفائي
روحي الممزقة تبغي الاجتماع بك
طيبها يا إلهي ولا تتركها تضل بالبعد عنك
روحي الحائرة يعذبها الشوق إليك
آلمها كل شيء وتريد الاحتماء بك .."
كان يدور حول نفسه مثل راقصي التنورة، دُرت مثله بخفة وكأنني أحلق، صرت صوته الذي يتوحد مع الأمواج والنسمات وأشعة الشمس.
"أطفئ نار الوحشة بوجودك
الحيرة التي تأكلني لن يوقفها إلا حضورك
روحي الحائرة يعذبها الشوق إليك .."
بدأ صوته في الخفوت، أبطأت حركتي، جلسنا، لم أجد أثرًا لقدميه، نظرت نحو مكاني السابق وجدت دائرة واضحة من حركة قدميّ، ضحك:
لا تسألي.
لن أسأل لكنني أتعجب.
فيم العجب؟ نحن نولد فارغين ثم يثقلنا السؤال والمعرفة، حتى نغرق في المعرفة وبعدها نتحرر إلى الأبد.
خطا نحو البحر، خلع حذاءه، فتح ذراعيه مثلما يسبق حضن لعزيز، مشى فوق البحر، فركت عينيّ لم يكن وهمًا، الأمواج تتلاطم أسفل قدميه، تنفست بصعوبة وقفت عند الحافة، لامس الماء قدميّ وابتلت، أشار إليّ حتي أتبعه، بسملت ووضعت قدمي اليمنى كان البحر مثل سطح زجاجي، وضعت اليسرى، مشيت كمن يعبر الصراط.
اقتربي.
صوته يفيض بالحياة وابتسامته مثل من يرى العالم لأول مرة، اتجهت نحوه وأنا لا أفكر إلا فيه، كان يمشي بثبات وتأنٍّ، حاولت الركض ولم ألحق به، سألت نفسي "هل أنا جديرة لأصبح مثله؟ إلى أين سنصل والبحر بلا حدود والشاطئ يبتعد؟ ربما تبتلعني دوامة..؟"، تحطم السطح الزجاجي، صرخت مستغيثة وكاد الماء يبتلع رأسي، ضربت الماء بجنون، مد يده وهو يقول "السؤال يثقلنا" أمسكت به، رفعني، مازال البحر مضطربًا، حملني وعدنا إلى الشاطئ، وضعني وقال:
الحيرة تفتك بكِ.
كن يقيني.
عليكِ الإيمان بنفسكِ أولاً.
توهج بشدة، أغمضت عينيّ وعندما فتحتهما لم أجده".