الأحد 28 ابريل 2024

عماد غزالي يكتب: تلقي الشعر بيوميا

فن5-11-2020 | 17:43

(1)

تخيل لو أن الممثل القدير: (بيومي فؤاد) يحضر أمسية شعرية، ويخرج بعدها ليصرح أو ليكتب على حسابه مجموعة من الإدانات لشعراء تلك الأمسية تمس أخلاقهم ومعتقدهم الشخصي وتتهم إبداعهم الشعري بالتدني لغويا وفنيا؟ لا أشك مطلقا أن مثل تلك التصريحات ستقابل بالاستهجان الشديد، على الأقل من كل المهتمين بالشعر -شعراء ونقادا وباحثين- لعدة أسباب أهمها عدم الإلمام المتوقع للرجل -الممثل- بمسارات تطور الشعر ولغته وأساليبه البلاغية، وأيضا لخلطه الفاضح بين الشخصي والموضوعي في أحكامه تلك، فقد يعبر الشاعر عن صوت أو فكرة أو يقدم صورة تجسد جدلا محتدما للمعاني بداخله، لا يستنتج منها بالضرورة اعتناق هذا الشاعر لهذا الرأي أو تلك الفكرة، وأخيرا لأنه وهو الممثل القدير لا يجوز له على الإطلاق الوقوع في تلك المزالق وهو أول من يعلم أن الدور الذي يؤديه أمام الكاميرا مهما استخدم من قدراته وملكاته في تجسيده لا يطابق قط شخصه في الواقع..

عندما قال أمير الشعراء: (رمضان ولى هاتها يا ساقي.. مشتاقة تسعى إلى مشتاق) هل اتهمه شيوخ عصره بازدراء شهر رمضان الكريم، وبمعاقبته على شرب الخمر باعتبار ذلك كبيرة لها عقوبة منصوص عليها؟ أم أن صوغ شوقي لكلماته في القالب العروضي الخليلي يغفر له الزلات؟


(2)

فما رأيكم يا أصدقائي أن يكون مثل ذلك الانتقاد اللاذع لقصائد شاعر شاب (إسلام نوار) وشاعرة مجتهدة وفاعلة (أمينة عبد الله) من المشاركين في الأمسية الختامية لمهرجان طنطا الدولي للشعر (الدورة السادسة) صادرا عن شاعر يقدره الكثيرون -وأنا منهم- وسبق أن استضافه المهرجان في دورة سابقة، وهو من أهل مدينة طنطا الجميلة؟


(3)

لم يكتف الشاعر المهذب بالإدانة وتحقير المنتج الإبداعي، بل حرص بشدة على توجيه إهانات شخصية للشعراء (شجاعة قذرة وجبانة، نفسية مأزومة، النصح بتعلم العربية من كتاب للأطفال) ثم ينتقل إلى اعتبار هذا الشعر تدنيسا لبلدة السيد البدوي قطب آل البيت الأشهر، طنطا العامرة بأنوار الولاية التي هي طاهرة طاهرة.

ويستمر في بوست آخر عنوانه (تأملات في مسألة الطهر والبذاءة) في التعبير عن وجهة نظره من زوايا أخرى مثل شجاعة الإعلان عن القبح في مواجهة الإعلان عن الطهر والجمال. وفي بوست أخير ليلة الأمس يوجه إنذارا لمن يعرفون أنفسهم بتقديم اعتذار في بيان رسمي خلال ٢٤ ساعة.


(4)

أذكر هنا أنني كنت من الشعراء المشاركين في تلك الدورة، والتقيت صاحب البوستات المنتقدة في أمسية سابقة بقرية مجول بالمحلة، كانت امسية رائعة على مستوى النصوص المقدمة والحضور الحافل والجميل. لكنني غادرت طنطا قبيل أمسية الختام، وعندما قرأت البوست اللاذع الأول طلبت من الشاعر الشاب: إسلام نوار، قصيدته التي ألقاها في تلك الأمسية لأقرأها قبل أن أبدي رأيا، كذلك طالعت ديوان: بنات للألم.. الذي توقعت ان الشاعرة أمينة عبد الله، قد قرأت نصا منه، باعتباره حديث الصدور.


(5)

يجب أيضا أن أذكر أن الدورة السادسة من المهرجان كانت حافلة بالأمسيات والأصبوحات الشعرية في كليات مثل التربية والآداب ومدارس ثانوية مثل مدرسة الرافعي للغات ومدرسة الأمريكان ومراكز مهمة مثل مركز الإبداع في دمنهور. وقد حرص الشعراء المشاركون ومنهم إسلام نوار وأمينة عبد الله، على تقديم نصوص تتناسب مع تلك الأماكن وطبيعة الجمهور المستمع،  حتى أن إسلام أجرى حوارا مع طلبة مدرسة الرافعي حفزهم فيه على التعبير عن آرائهم وتقديم إبداعاتهم. وهذا التنوع يؤكد على ثراء المهرجان وقدرة الشعراء على تقديم نصوص متنوعة تماما، ولم يصدر عن أي من المتلقين لهذه النصوص ولو انتقاد واحد من نوع ما صدر عن الشاعر الطنطاوي المذكور.


(6)

مثل تلك المحاكمة العصبية المحتقنة لنصوص الشاعرين إنما تعبر عن طريقة تلق لا تفتأ تواجه الشعراء والمبدعين بين حين وآخر. إنها طريقة الاتهام الأخلاقي والطعن في العقيدة، والتهوين من قيمة النصوص باعتبارها غير مكتوبة على المقاييس المعلومة من الشعر بالضرورة. والأخير هو السبب الأساسي والخفي الذي يتفجر بسببه كل اتهام آخر،  فكل ما هو ليس على شاكلة التراث الشعري العربي هو محاولة لهدم التراث ومن ثم فهو خارج عن الأخلاق وأيضا العقيدة.


(7)

إن مقاييس الجمال الشعري قد تغيرت تماما، ولم تعد البلاغة العربية التقليدية بأدواتها المعروفة من تشبيه ومجاز وكناية هي ذاتها أدوات الشعراء الجدد، ولم تعد موسيقى الخليل بشقيها العمودي والتفعيلي هي الأدوات الحصرية التي تنتج موسيقى النص. ابتكر الشعراء الجدد أدوات بلاغية وموسيقية جديدة وطور بعضهم الأدوات التقليدية وزاوج بعضهم بين هذا وذاك. أصبح كل شاعر يجتهد ليبدع عالمه الخاص لغة وتشكيلا وموسيقى ليحقق تفرده في هذا العالم المتغير والمتسارع في إيقاعه وتغيره. ولم يعد الشعراء والشاعرات يقبلون النسج على منوال القدماء ولا على منوال الأجيال السابقة عموما.


(8)

ليس باستطاعتي أن أعطي دروسا في آليات تلقي الشعر، لكنه كأي منتج إبداعي، ليس صورة للواقع ولا محاولة للتطابق معه، وليس صورة حرفية لحياة الشاعر وسلوكه، فالشعراء منطلقون أحرار كذابون بجمال (يقولون ما لا يفعلون)، ولا أحد باستطاعته أن يسلبهم حرية الإبداع مثلما يسلبهم العالم حرية الحياة.


(9)

إسلام نوار صوت شعري شاب عارم، يعبر عن وعي مختلف وثقافة متعددة الروافد والمشارب. ومسألة صورة عانة المرأة الواردة في قصيدته لم تكن سوى صورة وصفية للوحة تشكيلية، هي لوحة "أصل العالم" التي رسمها الفنان غوستاف كوربيه، في إشارة خافتة وبديعة إلى بديهية خروج البشر جميعا وهم أجنة من ذلك المكان، ذلك الخروج الذي يجب أن يجعل فرج المرأة مبجلا لا مدنسا. وأيضا مفردة الكعبة، فقد كانت تعبر عن مجرد ماكيت للكعبة. وغني عن البيان أن مفردة "كعبة" تشير إلى قبلة الشخص او توجهه، ولا تعني بالضرورة كعبة البيت الحرام. يمكن أن يقول واحد مثلا: "الدم كعبة القتلة".. فهل أساء القائل بذلك إلى رمز من رموز الدين؟


(10)

أما الشاعرة أمينة عبد الله، فلها تجربة طويلة مع شعر العامية المصرية، وتشهد لها المحافل الأدبية والمختصون بهذا اللون بتقديم نصوص جيدة ذات تفرد في ذلك اللون  الإبداعي: قصيدة نثر العامية. وقد اتجهت مؤخرا لكتابة قصيدة النثر بالفصحى، ويمكن اعتبار أعمالها تلك ديوانا أول في ذلك المجال، وعلى الرغم من ذلك فهي تقدم نصوصا متنوعة تثير الجدل في منطقة التشكيل الجمالي لواقع الأنثى ومعاناتها في مجتمعاتنا. إنني من الذين يفضلون عدم استخدام لفظ الجلالة في التشكيل الشعري لحساسية الأمر وإزعاجه لمشاعر البعض، ولأن الشعراء يجب ان يكونوا غير منفصلين او متعالين على الناس. لكن أمينة فعلت ذلك واستخدمت المفردة بموازاة الأنثى المحبة. ربما لا يعجبني ذلك ولا استسيغه، لكنه لا يمكن ان يحملني على إدانة الشاعرة أو الطعن في عقيدتها. ففي كل فرد في هذا العالم روح هي نفخة من الله. وقد تقصد الشاعرة أن الإنسان في الحضارات القديمة قد عبد إلهات إناثا كما هو ثابت تاريخيا (والمعنى في وعي او لا وعي الشاعر).


(11)

أما عن اللغة، فاللغة أداة رئيسية من ادوات الشاعر، بل هي أداته الأولى قبل الخيال،  فهو لن يعبر عن خياله وجموح صوره الا باللغة. لذا فضعف اللغة أو عدم التمكن الكافي منها يقلل من فرص الشاعر في تقديم نصوص مقنعة تطير بقارئها في الفضاء الذي اختاره له الشاعر في نصه. فالقارئ إذا شعر بتأتأة الشاعر لن يطمئن أبدا إلى إحكامه في صوغ نصوصه.

لكن يجب أيضا التذكير بأننا أمام شاعر في اواسط العشرينات من العمر- إسلام نوار- وإحكامه للغته الشعرية هي رحلة يستهلها بالفعل، أما أمينة عبد الله فتستهل رحلة جديدة في إبداعها بعد مغادرتها للأرض التي حفظت ملامحها -شعر العامية- فلا يمكن أبدا أن نطالب الشاعر أن يبلغ في كل نصوصه وفي كل مراحله غاية الإحكام والدقة اللغوية.

وشخصيا كنت أظن عبر مراحل طويلة انه لا يمكن ان يكون هناك إبداع جيد متميز في لغة بها هنات ومشكلات، ولكن عبر تجارب القراءة وفحص النصوص للنشر والتحكيم وغيره، تبين لي عدم دقة ذلك الحكم. وطالعت بالفعل إبداعات مذهلة مصوغة بلغة بها هنات قليلة أو كثيرة. نعم تلك الهنات تقلل من قيمة الإبداع لكنها بالتأكيد لا تلغيه ولا تطمسه.


(12)

أما عن الجمال والقبح، فقد قال الشاعر قديما: (ضدان لما استجمعا حسنا.. والضد يظهر حسنه الضد).

ويا صديقي الشاعر: طنطا مدينة على الأرض وليست في السماء. مدينة جميلة غاصة بالبشر الأنقياء والملوثين وحافلة بكل التناقضات. كما أن السيد البدوي -ولاسمه كل الاحترام- شخصية تاريخية غامضة وإشكالية لا تستوجب كل هذا الانفعال دفعا للمساس بتقديسها المظنون للمكان. لو كان في حياته وليا صالحا فصلاحه لنفسه وهو الآن لا يستطيع لنا شيئا، إلا أن ضريحه في مسجد ونحن نحترم المساجد.

صديقي دع فقه الحسبة وانزعه من رأسك إذا أردت أن تكون شاعرا حقيقيا. وإذا كنت تظن أنك تنافح عن القيم الإنسانية النبيلة والجمال فنحن حريصون عليهما معك، ولكل شيخ طريقته. أما إذا كنت تريد أن تكسب ثوابا تدخل به الجنة على جثة شعراء مساكين لم يعثروا على الحرية في غير الكلمات، فافعل كما شئت لكن ثق انك ستكون قد غادرت أيضا عالم الشعراء، ولن تقبل بك قصيدة حقيقية واحدة.

    Dr.Randa
    Dr.Radwa