الأحد 29 سبتمبر 2024

لي وحدى.. حياتي بعيدا عن الآخرين.. من كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية" لمحمد الباز

فن8-11-2020 | 15:39


تنشر بوابة "الهلال اليوم"، فصلا من كتاب "هيكل.. المذكرات المخفية"، للكاتب الصحفي محمد الباز، الذي جاء تحت عنوان "لى وحدى.. حياتى بعيدا عن الآخرين" ونقرأ فيه:

 

(1)

فى حياتى خسرت أشياء كثيرة، لكنى أعرف أننى عشت أيضا حياة رائعة. 

بهذه النظرة كانت فى حياتى ثلاث مستويات من الفرح، عام ومهنى وشخصى. 

على المستوى العام يأتى يوم الخميس 26 يوليو 1956 عندما اتخذ جمال عبد الناصر قرار تأميم قناة السويس تصحيحا لجريمة تاريخية وسعيا وراء ربح مصرى مشروع، وإذا الدنيا تقوم كلها على أطراف أصابعها، تحبس أنفاسها المبهورة وهو لم يفرغ بعد من قراءة باقى مواد القانون. 

ويأتى يوم 6 أكتوبر 1973 فى الساعة الثانية ظهرا، عندما اتخذ أنور السادات وحافظ الأسد قرار مصيريا بقبول التحدى، والقرار كان يعنى وقتها امتلاك الإرادة، وقيام الجيشين المصرى والسورى باجتياز حائط الخوف، عبر عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف، بينما القوات السورية تتخطى جميع تحصينات العدو فى الجولان، وتتقدم بسرعة نحو مدينة القنيطرة. 

كانت عاصفة برق ورعد، وكانت ملحمة شجاعة وتضحية، وكان الجندى العربى قد حقق بالعبور ما يشبه المعجزة، ودون تجاوز فقد تغيرت خرائط واهتزت عواصم وتلاشت صور وتصحح خلل الموازين، وتبدى تماسك الأمة العربية وتناسقها، بغض النظر عن الصور النهائية المتباينة مع البدايات. 

فى الساعات الثلاث بعد ظهر السادس من أكتوبر 1973، كانت مصر وسوريا والأمة العربية كلها، قد اجتازت حائط الخوف كاسرة فى كل ساعة أسطورة. 

فى الساعة الأولى انكسرت أسطورة العجز العربى عن اتخاذ قرار الحرب، وفى الساعة الثانية انكسرت أسطورة الخوف من العدو، وفى الساعة الثالثة انكسرت أسطورة قوة الردع الإسرائيلية التى لا تقهر. 

وعلى المستوى المهنى فرحت أول مرة عندما طالعت اسمى مطبوعا فى مطبوعة آخر ساعة.

 وعندما انطلقت مع المقادير والتاريخ لتغطية الحرب والأحداث ( 1947 – 1952).

 وعندما عينت رئيس تحرير.

 كنت أصغر رئيس تحرير (29 سنة) فى مصر يوم السبت 14 يونيو 1952 رئيسا لتحرير آخر ساعة. 

وعلى المستوى الشخصى أسعد لحظاتى تكون فى وجود أبنائى الثلاث حولى، بالرغم من أن أحدهم يناقشنى والثانى يحاسبنى والثالث يجادلنى، لكننى أشعر بفرح غامر معهم ومع أحفادى. 

(2) 

لعلى لا أبكى، لكن فى بعض الأحيان النادرة جدا بكيت لأسباب عامة. 

كانت المرة الأولى يوم الأربعاء 20 أكتوبر سنة 1948 وأنا أرى الجيش المصرى يستعد للإنسحاب من مدينة المجدل، وقفت على سفح الهضبة العالية التى تقبع فوقها غزة، ولم أشعر إلا وأنا أغطى عينى بيدى باكيا أنهنه وأذروف الدموع كأنها جمرات نار. 

المرة الثانية كانت يوم السبت 2 يناير 1952، يوم أحرقت القاهرة، كنت فى مكتبى فى جريدة أخبار اليوم، وخرجت فور سماعى خبر اشتعال القاهرة بالنار، إلى شارع فؤاد وإلى شارع سليمان باشا وإلى شارع قصر النيل وإلى شارع إبراهيم باشا، كانت ألسنة اللهب فى كل مكان، وكانت الفوضى هى التى تحكم وتملك. 

كانت الشوارع مغطاة بالرماد وبقطع الخشب التى ما زالت تشتعل والنار تسرى فيها بعد أن أحالتها إلى فحم، وعاد إلى نفس الشعور الذى أحسست به فى غزة. 

المرة الثالة كانت يوم الجمعة 9 يونيو 1967. 

كان يوما طويلا مع الرئيس جمال عبد الناصر، بدأ من السابعة صباحا حتى السادسة مساء، وكان الهدف الأساسى من المقابلة هو مشروع خطاب التنحى الذى سيقدمه للأمة بعد الأحداث المروعة التى غطت وجه منطقة الشرق الأوسط كلها بالنار والدم من 5 يونيو ولأيام عصيبة تالية. 

فى الدقيقة الأخيرة من اليوم كان سؤال ناصر الأخير عن علاقتى بزكريا محيى الدين.

قلت له إننى لا أنوى تكرار ما قمت به معه، ولكنى قابلا تكليفه لى لمعرفتى بدقة الظروف حتى يتمكن زكريا من تسلم مسئولياته. 

نهصنا نحن الاثنان وتصافحنا.

 لمحت دمعة فى عينيه لأول مرة فى حياتى، واستدرت خارجا من غرفة مكتبه، فلم أكن أريده أن يرى دمعة أخرى فى عينى. 

لقد كنت متماسكا على عكس الجميع. 

الرئيس ناصر وزوجتى هدايت كانا فى حالة استغراب من تماسكى وصلابتى، أنا وقتها كان فى ذهنى فيلم شاهدته ربما سنة 1956 بعنوان" سوف أبكى غدا"، وقصة الفيلم ليس لها علاقة بالحرب أو الصراع لكن العنوان جذبنى. 

فى هذه الحرب كان لى موقف معلن، وقد استشهد به وزير خارجية إسرائيل وقتها آبا إبيان فى مجلس الأمن، وهو أننى قلت إن قرار قفل خليج العقبة يعنى الحرب، وقتها أيضا الاتحاد الإشتراكى قلب الدنيا واتهمنى كالعادة بأننى أثبط الروح المعنوية. 

ومع ذلك فإننى كنت كالباقى أصبت بحالة إكتئاب، لكن وأنت تحتل منصب رئيس تحرير صحيفة، وأنت مسئول عن ركن الفكرة فيما تمثله ثورة 23 يوليو، وتنشر جريدة صباح كل يوم، وتكتب مقالا أسبوعيا. 

 نعم فوجئت بما جرى وحجمه، ولكن هل تنكمش وتقع وتنهار؟ بينما ترى الناس تخرج وتتحدى وترقص وترفض نتيجة الصراع لحظتها، فلابد حينها أن تقف معها وتبشر بأمل جديد، خصوصا بأن هناك أسباب حقيقية لهذا الأمل الجديد. 

ربما أننى كنت من الداخل ممزقا، ما يثير حيرتى كان كمية الجلد للذات وللضمير المصرى والقوة المصرية والإرادة المصرية لا لزوم له، فكل أمة من الأمم واجهت كارثة ومحنة من فرنسا إلى اليابان، لكن فى وقت الأزمات تتحدد فيها مصائر أمم وشعوب لا تملك أن تترك نفسك للإنفعالات، نعم كنت متماسكا لأن هناك مقادير. 

وكانت المرة الرابعة فى أثناء اللحظة الرهيبة التى وقفت فيها بجوار فراش جمال عبد الناصر وهو يجود بالنفس الأخير. 

لم أبكه لحظتها، بل بكيته يوم تشييعه.

 يوم الخميس 1 أكتوبر 1970، لأنه كان رفيقا حميما، وكان ظنى به دائما أنه ليس فقط إنسانا عظيما وإنما تاريخا عظيما أيضا، وأتممت أياما بعد الرحيل لا أقدر على التصديق، وأياما أخرى أعقبتها لم أتمكن من التخيل، فقد كانت هذه هى سفرته الأولى التى يذهب فيها ولا أكون رفقته. 

ثلاثة أيام انقضوا بين لحظة الرحيل حتى هجع فى مثواه الأخير، كفنا أبيضا طاهرا فوق فرشة من الرمال فى قبر أقيم على عجل خلف مسجد بناه بنفسه. 

بدأت الجنازة من مجلس قيادة الثورة القديم على النيل، وما إن طالعت النعش ولاحت لى حقيقة أن جمال عبد الناصر فى جوف هذا الصندوق لم أتمكن من مغالبة نفسى، وأجهشت بالبكاء نأيا بنفسى خارج الصفوف رغم أنى كنت المرافق الرسمى لرئيس وزراء الإتحاد السوفيتى أليكسى كوسيجين. 

المرة الخامسة كانت يوم السبت 19 نوفمبر 1977، يوم وصول الرئيس أنور السادات إلى القدس مساء، كنت قد غادرت القاهرة إلى الأسكندرية، لأبتعد عن مركز الحوادث منتهزا فرصة إجازة عيد الأضحى، لكن ما كان يجرى له تأثير المغناطيس فى قوة جذبه مهما حاولت الابتعاد، وهكذ وجدتنى على شاطئ ستانلى فى الأسكندرية وأمامى طوال الوقت جهاز راديو أنتقل بمؤشره بين إذاعات العالم. 

وأعترف على استحياء أننى لم أتمالك نفسى حين سمعت إذاعة القاهرة تتحدث عن ترتيبات، وتقول أول ما تقول إن سربا من مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلى سوف يخرج للقاء طائرة الرئيس السادات. 

لم أتمالك نفسى ولا أعرف لماذا لحظتها، فإذا أنا أغطى عينى بكفى وأجهش فى بكاء، ولم أستطع ضبط مشاعرى إلا عندما أحسست بيد تمس كتفى فى رفق والتفت لأجد طفلى الصغير حسن يرقبنى بعينين تملؤها الدموع والدهشة شاعرا أن شيئا ألم بى، ولكن مداركه لا تسعفه بتفسير لهذا الذى لم يعهده فى من قبل. 

أنبته والدته ملتمسة منه أن يعود إلى الكابينة. 

المرة السادسة كانت يوم الاثنين 28 سبتمبر 1981 كنت فى سجن طره.

 جميعنا تقريبا عزم على أن نحيى ذكرى ارتحال الرئيس جمال عبد الناصر كنوع من التصدى لكل ما كان جاريا، كان الرئيس السادات أيامها فى بداية النهاية، فى الصباح سرت إشاعة بأنهم يجهزون معتقل جبل الطور فى صحراء سيناء لترحيلنا إليه قبل المغيب. 

فى المساء تزاحم الخطباء يرثون الرئيس ناصر من خلال قضبان سجن السادات.

 كنت منذ بداية اليوم أشعر أن هناك دمعة مترددة تغشى باب العين، لكنى لم أذرفها، ربما لأننا كنا نحيى الذكرى كنوع من التصدى لا من الألم، فى لحظة من لحظات هذا اليوم تذكرت تفاصيل اليوم الأخير من حياة ناصر، وتذكرت آخر كلماته فى آخر مكالمة تليفونية سمعت فيها صوته: أنا بحاجة إلى استراحة طويلة، وآخر لمحة ألقيتها على جثمانه، هى كلها تفاصيل لم تكن تفارق الذاكرة ولا القلب لا فى أيام الراحة ولا فى أيام الأسى. 

كانت المرة السابعة يوم الثلاثاء 6 أكتوبر 1981، ساعة أن أبلغنى العقيد محمود غنام مأمور سجن طره والعقيد صلاح شلبى ضابط المباحث نبأ إغتيال الرئيس أنور السادات. 

تأكدت من الخبر، وعندها لم أستطع أن أذكر إلا أنه كان صديقا، وإذا بالدموع فى عينى تجرى.

 لقد عشت معه عشرين عاما كأصدقاء، وكنت أعرف كيف كان ضعف السادات تجاه أصغر أبنائى حسن. 

المرة الثامنة كانت بعد نشر مقالى " الاستئذان فى الانصراف" يوم الثلاثاء 30 سبتمبر والأربعاء 1 أكتوبر 2003.

 حاولت جاهدا أن أحبس دموعى طيلة الأيام التى تلت النشر، حيث فوجئت بتدفق المقالات فى الأعمدة والزوايا الصحفية داخل مصر وخارجها من أصدقاء وزملاء مهنة وغيرهم، ممن أعرفهم وممن لم أتشرف بلقائهم ومعرفتهم، كالسيل المنهمر من فيضان المشاعر تطالبنى بالعدول عن قرار الإنصراف، وسأظل وفيا لجميلهم ما بقيت. 

المرة الأخيرة وربما الأكثر وجعا، عندما وجدت ابنى أحمد يصارحنى بإصابته بورم خبيث من النوع العدوانى، فقد فاضت الأحاسيس الإنسانية والحنان الأبوى وتحررت جميعا من كل عقل، وإذا بعينى فى حالة انهيار كهبوب العواصف، ودموعى تنافس الأمطار فى انسكابها. 

(3)

 من بين كل الطيور أحب النسر. 

النسر له سبع مزايا. 

 رؤية ثاقبة ومركزة قادرة على قيادة الآخرين.

 لا يعترف بالخوف بل يواجه الخطر وجها لوجه.

 يمتاز بالعناد الإيجابى لا السلبى، فهو على سبيل المثال لا يحنى رأسه للعاصفة، بل يرتفع ويرتقى فوقها.

 مغامر فعلى سبيل التقريب له طموح الملوك لا دسائس القصر، كما الحمام على سبيل المثال، بعكس ما هو شائع فهو لا يأكل اللحوم الميتة  ( جثث خامدة جامدة)  بل النيئة والطازجة ( متعة الخروج للبحث عنها ورصدها) بمعنى قضاء وقت مع المتحررين فكريا والمالكين لحيوية الحياة لا الموت.

 رغم حيويته ولكنه فى سن الثلاثين تقريبا يعيد صياغة نفسه " ليجدد ويعيد إنتاج نفسه" بمعنى تقييم الماضى. 

على أى أرضية يقف وقفة مع النفس إذا جاز التعبير.

 المشهور عنه شراسته، لكن ليس مع صغار النسور وشبابها، بل معروف برعايتهم وتوجيههم. 

ظللت طوال حياتى أتذكر نصيحة وجهها الزعيم البريطانى ونستون تشرشل لصديقه أنتونى ناتنج، وهى النصيحة التى رواها لى ناتنج بنفسه، وكنت أستدعيها كثيرا إلى مسرح حياتى فى مواجهة حملات الحقد والكراهية. 

قال تشرشل لأناتنج: استغل كل طاقتك وإرادتك حتى تقوى جناحك ليحملك إلى الفضاء العالى، حيث تحلق النسور - هناك الحرية وهناك الخطر- إذا لم تستطع فلا تسمح لنفسك تحت أى ظرف بطلب الأمان فى قفص ببغاء تنطق برطانة يدربونك عليها فى الحزب، ثم يكون دورك أن تكررها وتعيدها كلما مروا عليك، وطلبوا منك أن ترقص وتغنى حتى يراك السيد زعيم الحزب ورفاقه، وربما أبناؤه أيضا، وقد يصفقون لك ويضحكون ثم يتركونك حيث أنت ويذهبون ومعهم بسمة من تسل وتله. 

ثم نظر تشرشل إلى عينى ناتنج بعد أن أنهى درسه، ثم صاح فيه: نسر إذا استطعت...  ببغاء أبدا مهما تحملت. 

(5) 

أنا شربت القهوة لأنى وجدت الأستاذ التابعى يشرب قهوة.

 فى البداية فكرت أنها من ضرورات المهنة، وبعد ذلك تعودت على الحالة التى يخلقها فنجان القهوة أمامى لكن عمرى ما شربت فنجان كامل. 

(6)

لا شئ أبدا يدلل على أى حضارة أكثر من مطبخها، فالمطبخ هو المكان النهائى الذى تنتقل إليه رقة وأناقة ورقى الحياة. 

لقد وجدت نفسى وسط مطابخ العالم بتنويعاتها. 

فى المطبخ الصينى يتحرك الفرد الصينى بمنطق حب الحياة، قيمة الأكل الصينى أنه يمزج المتناقضات، قائم على التباين، وقائم على التماسك بين متناقضات وقائم على نظام مكتف بذاته، عندما تتناول الطعام الصينى لا تستطيع أن تمزج معه طعام من مطبخ آخر. 

نحن هنا يمكن أن نمزج شرقى بأوربى، فطبق ورق عنب محشى وهو طبق شرقى تستطيع أن تتناول بعده طبق إسكالوب، وهو طبق أوربى " فرنسى"، لكن فى المطبخ الصينى لا أستطيع إلا أن تبدأ وتنتهى به، فهو بداية ونهاية وإحساس باللذة متكاملة ومكتف بذاته. 

وعندما دعانى " وولين شى" المسئول عن تحرير جريدة " الشعب" وهى كبرى الصحف الصينية إلى عشاء ذات ليلة من شهر يناير 1973 فى مطعم بط بكين الشهير، كان العشاء سبعة أطباق من بطة واحدة. 

كان الطبق مكون من خمس قطع مختارة باردة من البطة فى أول طبق، كبد البطة فى طبق ثان، أضلاع البطة بالصلصة فى طبق ثالث، قلب البطة فى قطع صغيرة محمرة فى طبق رابع، لسان البطة وأمعاؤها والبنكرياس مطبوخة مع الخضروات فى طبق خامس، جسم البطة نفسه أخيرا، وهو الطبق الرئيسى، مشويا فى طبق سادس، عظام البطة مسلوقة فى طبق حساء فى النهاية، وهو الطبق السابع، فالمطبخ لا يوجد به شئ أسمه ضائع. 

فى المطبخ الفرنسى كنت أميل إلى حساء " البويابيس" وهو حساء السمك الشهير فى مرسيليا. 

وفى المطبخ الأسبانى لم أكن أقاوم وجبة " paella" وهى من الأرز والزعفران والمأكولات البحرية المتنوعة. 

وكنت أتوقف فى المبطخ اليونانى عند سلطاته المميزة عبر إضافة زيتون كالاماتا وجبنة فيتا والتوابل وفلفل فلورينا المشوى والخرشوف ( أرضى شوكى) بزيت الزيتون وغيرها. 

فى مارس 1951 فى بيت شقيقة الشاه محمد رضا بهلوى " التوأم للأميرة أشرف" وقعت فى مأزق شخصى على مائدة الطعام، فقد كان طبق الكافيار هو فاتحة الغداء، ولم أكن قد ذقته من قبل، لكنى جاريت الباقين وأخذت فى طبقى بعضا منه، وفعلت مثلما فعلوا وتناولت معلقة صغيرة منه على قطعة من الخبز المجفف وضعتها فى فمى، ثم لم أستطع أن أمضغ أو أبلع، فقد فوجئت بزفارة بحرية مركزة وأحسست أنى أختنق، وكان الشاه هو الذى أحس على الفور بما جرى لى واقترح برقة أن أذهب إلى الحمام، وأتخلص مما هو غير قابل للمضغ أو البلع فى فمى، وأسرعت وعدت، وكان هو الذى قال بأدب: إن كل الذين يجربون الكافيار لأول مرة يحدث لهم ما حدث لك. 

وفى يناير 1961 كنت برفقة الرئيس ناصر لحضور مؤتمر الدول الإفريقية المنعقد فى مدينة الدار البيضاء، وقد دعيت على طبق وطنى من غينيا، الطبق اسمه " فونيا" وهو مصنوع من الموز والأناناس والفول السودانى والدجاج وفوق ذلك كله صلصلة من الشطة الحمراء. 

كان السياسى الفلسطينى المقيم فى لندن الأستاذ باسل أمين عقل والسيدة قرينته مها القدومى، وجها الدعوة لى ولمجموعة من المثقفين والصحافيين، وكان طبق المقلوبة متقدما المعروض من الطعام، أقبلت على الطبق أتناوله بنهم ورائحة الهال تفوح منه. 

بعد أن عدت إلى مكان إقامتى اتصلت هاتفيا بالأستاذ عقل، سألته عن اسم الطبق الخرافى الذى يحوى لحما وأرزا وباذنجانا؟ 

قال لى: إنه طبق فلسطينى يدعى مقلوبة. 

فقلت له: دى مقلوبة وطعمها بالشكل ده...  أمال لو معدولة كانت هاتبقى إزاى؟ 

وفى 23 سبتمبر 1956 ( ذكرى ميلادى ال 33) سافرت مع الرئيس عبد الناصر إلى السعودية، بعد اقتراح الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود أن يكون الاجتماع فى مدينة الدمام. 

لم أحضر الجلسات الرسمية بين الرئيس والملك، وتصادف أننى تواجدت فى إحدى مآدب الغداء قبالة الأمير فيصل شقيق الملك وولى العهد، وكان هناك على طاولة الطعام بيننا جمل صغير " مفطح قعود" جاثما على أقدامه، وتطوع الأمير فيصل أن قدم لى قطعة لحم من الجمل، وأنا بدورى وضعتها فى طبقى ولكنى لم استطع أكلها لعدم استساغتى لها، ورغم أنى تناولت أطباق عجيبة وغريبة فى الدول العديدة التى زرتها، مثل قدم فيل فى الكونغو وثعابين فى تايلاند. 

فى المؤتمر الأخير لعبد الناصر فى سبتمبر 1970 - كان الرئيس ينزل فى الطابق الحادى عشر فى فندق النيل هيلتون، وفى ظهر أحد الأيام وكانت فترة هادئة نسبيا من فترات المؤتمر حيث كان غيرى فى عمان وليس هناك الكثير نفعله إلى حين عودته، أجلس معه نتبادل الحديث. 

قلت له إنه لجميل أن يقيم الإنسان فى الفندق بين الحين والحين كنوع من التغيير. 

فقال: أنا لا أجد ذلك جميلا... إنه كالقشلاق. 

ثم قال إنه جائع، وسأل: هيكل أتظن أن الطعام هنا فى الهيلتون مختلف عن الطعام الذى آكله فى البيت؟ 

قلت: المسألة تتوقف ما الذى ستطلبه. 

قال إنه يريد بعض السندويتشات، وأرسل فى استدعاء سفرجى عاد بنوع سندويتشات الجبن الأبيض نفسه الموجود دائما فى بيت عبد الناصر، وكان التفسير لذلك أن دواعى الأمن استدعت احلال طهاة فندق هيلتون بعمال مطبخه. 

قلت لعبد الناصر إن هذا ليس نوع الطلب الذى كان يحب أن يطلب فى فندق هيلتون. 

فقال: وماذا يطلب الناس فى الهليتون عادة؟ 

فقلت: عادة فى منتصف النهار لا يطلبون سندويتشات جبن، ربما طلبوا كانبيه بالسالمون المدخن. 

وأضفت ضاحكا ومداعبا: وربما بعض المارتينى. 

فقال: المارتينى..؟ ألا يخشون أن يكون ذلك سببا  فى دخولهم النار فى الآخرة؟ 

قلت: إنهم يعتقدون أن الله غفور رحيم... والمهم هو تصرفات الإنسان وسلوكه. 

سكت عبد الناصر لحظة ثم سأل فجأة سؤالا غريبا عدت إلى تذكره كثيرا فيما بعد: هل أنت مؤمن؟ 

فقلت: أجل... بالقطع أنا مؤمن.

فسأل: إذن قل لى... ماذا بعد الموت؟ 

فقلت: ذلك سؤال بالغ الصعوبة، وأعتقد أن الجنة والنار هما هنا فوق هذه الأرض، وربما كان القصد من ذكرهما هو الرمز للخير والشر، وفى امكاننا نحن أنفسنا أن نجعل من حياتنا جنة أو نارا، أما بعد الموت فربما كانت النهاية. 

فقال عبد الناصر: أتعنى أن من يفعل خيرا على هذه الأرض لا يدخل الجنة؟ 

قلت: لا أدرى... وإنما أظن أن الجنة والنار رموز. 

قال: هذا ليس مطمئنا. 

وبعد ثلاثة أيام كان عبد الناصر قد انتقل إلى رحاب الله. 

(7)

السيجار يخلق حالة دخان أتأملها، وتتصاعد ثم تختفى تشمها وتشوف أجواء تسرح معها، وممكن ينطفىء أولعه تانى وتالت، فهو حالة لزوم القعدة، وليس مثل السجائر أحتاج لشفطها باستمرار، فأنا لا أستنشق من دخانه شيئا، ويمكن الاستغناء عنه، وفى فترة السجن لم أكن أشعر بالرغبة فيه. 

بدأت حكاية السيجار معى مبكرا جدا. 

كان نجيب الهلالى باشا يدعو عددامن المقربين إليه مساء كل يوم جمعة على العشاء فى مطعم "سان جيمس" لكنه بعد حريق القاهرة جرى على ذلك المطعم ما جرى على غيره فى وسط العاصمة، وهكذا فإن دعوة العشاء تقدم موعدها لتصبح على الغداء، كما تغير مكانها فى بيته على الشارع الرئيسى لضاحية المعادى. 

كان نجيب الهلالى فى أغلب الأحيان يعرض لكل المدعوين على مأدبته سيجارا من النوع الجديد الذى يدخنه" ارتوروفونت"، وعنده أدركت طريقى إلى تدخين السيجار، وأصبح الهلالى يمنحنى بعد كل لقاء معه سبعة من سيجاره الخاص لأدخنه خلال الأسبوع. 

الأمر تكرر من فؤاد سراج الدين باشا، الذى كان يقدم لى ولغيرى من ضيوفه سيجار، وكنت أقبل الدعوة للتدخين من باب التجربة، إلى أن وقعت فى فخ العادة. 

وبعد ذلك عندما كان الرئيس الكوبى كاسترو يرسل للرئيس جمال عبد الناصر صناديق السيجار، كان بدوره يحوله لى، لأنه لم يدخن فى حياته إلا السجائر. 

وفى نوفمبر 1957 كنت على موعد مع زعيم الاتحاد السوفيتى نيكيتا خروشوف، لأجرى معه حوارا، وقبل بداية اللقاء طلبت الإذن بالتدخين، وسمح لى بذلك، فأخرجت السيجار وبدأت التدخين، وفجأة استدار خروشوف نحوى وسألنى: هل أنت رأسمالى؟ لماذا تدخن سيجار؟ 

قلت له: لأننى أحب السيجار. 

أخذ خروشوف منى السيجار وسحقه فى المطفأة، حاولت الإحتجاج، لكنه قال: السيجار سلعة رأسمالية، وأنت لست رأسماليا لأنك صديق ناصر، حسنا لنكمل حديثنا الآن. 

وعندما التقيت به فى يوليو من العام 1958، تركت علبة سيجارى فى الخارج، ولاحظ ذلك خروشوف، فسألنى: أين سيجارك؟... أريد أن أسحقه ثانية. 

لكن فى مايو من العام 1964 عندما كنت فى موسكو، وجدت خروشوف يهدينى علبة من السيجار الممتاز، فقلت له: سيادة الرئيس لقد أصبت بصدمة، ألا تذكر ما فعلته بسيجارى؟ لماذا تغيرت؟ 

أجابنى خروشوف: أنا لم أتغير، لكن السيجار هو الذى تغير، فمنذ ثورة كوبا أصبح هذا السيجار ماركسيا لينينا. 

وأتذكر أن جمال عبد الناصر عندما أعلن بيانا معلقا على غزو كوبا، وهى محاولة فاشلة، البيان تضايق منه كيندى، وتبادل الإثنان خطابات، وكان لابد من تصفية الموقف، وكنت أعرف جورج باندى مستشار الأمن القومى وسالينجر، فكان السفر سهلا ولقاء هذه المصادر لأوضح لهم ما لا يقال رسميا. 

كنت فى جنيف وتوجهت إلى أمريكا واشتريت سيجارا كوبيا، وعندما هبطت الطائرة ونزلت فى مطار نيويورك، وكان ينتظرنى مراسل الأهرام هناك، وقال لى من وراء الحاجز الجمركى: اوعى تكون جايب معاك سيجار، فقلت له: معايا، فانزعج، ولحسن الحظ فتحوا كل الحقائب ما عدا حقيبة السيجار. 

ذهبت إلى البيت الأبيض، وفى مكتب جورج باندى قدم لى سيجارا فليبينيا، فقدمت له سيجارا كوبيا، استهول أن يدخنه فى البيت الأبيض.

 قال لى: لا أحد معتاد على رائحته وبالتالى سأنكشف، ووقتها يمكن أن يقوم الكونجرس بعزلى. 

دخل علينا الرئيس كيندى، فوجدت باندى يقول له مازحا: سيدى الرئيس لابد أن تحقق معه كيف أدخل سيجار كوبيا إلى الولايات المتحدة ومن ثم إلى البيت الأبيض؟ 

دخلت المكتب البيضاوى عند الرئيس كيندى. 

بادرنى قائلا: أنا عارف إنك بتحب السيجار.

 أعطانى سيجار فلبينى، فاعتذرت عنه. 

سألنى: ما السيجار الذى تفضله؟

 فأخرجت واحدا وقلت له: ده.

 فقال كيندى عندما رآه: ده جريمة فى أمريكا وفى البيت الأبيض مشكلة أكبر.

 ثم كان رقيقا عندما قال: ومع ذلك لن أحرمك منه.

أشعلت السيجار وعندما وصلت رائحته لأنف كيندى، قال إنه جميل، وطلب واحدة وأضاف : أنا ممكن أطرد من منصبى بسبب هذا السيجار.

 فقلت له: سيدى الرئيس سأترك كل ما معى من سيجار. 

فى بدايات الثمانينات وبعد صدور كتاب " خريف الغضب" بدأت عمليات الترجمة إلى عشرات اللغات الأخرى ومن ضمنها بطبيعة الأحوال اللغة العربية، أوكلت دار النشر فى بيروت " شركة المطبوعات للنشر وصاحبها هو الأستاذ تحسين خياط" إلى أستاذ جامعى بترجمة الكتاب. 

 اطلعت على الترجمة للفصول الأولى والتى بذل فيها مجهودا يستحق التقدير، ولكن لحساسية الكتاب آثرت القيام بنفسى بترجمة الكتاب، متفرغا لمدة شهرين من العمل، ولم أتقاضى جزاء عملى هذا وحرصى وتدقيقى قرشا واحدا، ولكن الأستاذ تحسين خياط أهدانى ستة صناديق من السيجار، فقبلتها مع الشكر، ومعتبرا أن الأمر قد انتهى. 

فى لقائى مع الرئيس مبارك فى ديسمبر 1981 بعد خروجى من السجن مباشرة، سألنى: ألا تريد أن تدخن سيجارا... أنا أعرف أنك من مدخنى السيجار وأنا مثلك. 

أبديت الدهشة، فقال إنه لا يظهر فى الصور بالسيجار لكى يتجنب "القرشنة"، لكنه يدخن سيجارا واحدا كل يوم، ثم ضغط على جرس يطلب صندوق السيجار. 

جاء الصندوق مع أحد الضباط، وطلب مبارك تقديمه إلى بالإشارة، وأخذت منه سيجارا وأخد هو سيجارا. 

سألنى وهو يرانى أشعل عود كبريت: سيجار كويس؟ 

لم أقل شيئا ويظهر أنه أحس أننى لا أشاركه الرأى، وقلت: الحقيقة أنه مقبول. 

قال باستنكار: إيه؟ ... هذا روميو وجوليت. 

قلت: الشركة التى تنتج سيجار روميو وجوليت تنتج أكثر من 75 نوعا بعلامتها، وكل نوع منها مختلف عن الآخر. 

وسأل مبارك باهتمام: أمال إيه بقى السيجار الكويس؟ 

قلت: بإذنك فى سيارتى علبة صغيرة فيها سيجار، ولم أدخل بها لأنى لم أتصور أنك تدخن، وإذا وافقت نطلبه. 

وجاءت العلبة، وعرضت على الرئيس مبارك أن يتفضل، فأخذ واحدا منها أشعله، وكانت ملاحظته: والله أحسن فعلا... غريبة جدا. 

قال وهو يستعيد الذكريات: عندما كنا نتدرب فى الاتحاد السوفيتى كطيارين، كنا نشترى هذا السيجار الذى لم يعجبك، ونبعث به إلى قادة السلاح، وكانوا يعتبرون ذلك فخفخة. 

جذب نفسا من السيجار الذى قدمته له، وقال: فعلا لك حق هذا أحسن جدا، ولكن القادة الذين كنا نرسل لهم السيجار كانوا يعتقدون أن الاتحاد السوفيتى يأخذ سيجار كوبا مقابل السلاح. 

قلت: ذلك صحيح إلى حد ما ، لكن أفضل أنواع السيجار الذى تنتجه كوبا كان للتصدير بالعملة الصعبة إلى الغرب، وما تبقى من الدرجة الثالثة والرابعة يذهب إلى الاتحاد السوفيتى ويشتريه الزوار بحسن نية. 

مد الرئيس مباك يده إلى جرس، فدعى أحد الضباط ثم التفت وقال: محمد بيه ملى عليه كل أنواع السيجار الكويس. 

قلت ما مؤداه إن لكل نوع من السيجار مذاقا، وإن كل مذاق مسألة إختيار، ولذلك فإنه من الصعب على مدخن أن يوصى غيره بنوع معين. 

قال: معلش... مليه الأنواع الأبهة دى. 

كان الضابط قد أسرع وجاء بورقة وقلم مستعدا لكى أمليه، وعاد إلى تجربة السيجار الذى قدمته له، وقال: فعلا كويس جدا. 

ثم أضاف ضاحكا: يا أخى عايزين نتعلم العز. 

لفت تعبير العز نظرى،وقلت: إنها ليست مسألة عز، ولكنها ظروف. 

قال مبارك: إنه لاحظ أن كل الرؤوساء الأمريكان يدخون سيجارا ويمارسون لعبة الجولف وأنت أيضا تلعب الجولف. 

قلت بسرعة: صحيح ولكن بدون رئاسة. 

بادر معلقا: والله أحسن يا أخى...  الناس تتصور أن الرئاسة شئ عظيم، والحقيقة أنها بلوة. 

لسنوات طويلة كنت أعتبر مكتبى فى جريدة الأهرام من أجل العمل فقط، مقابلات حوارات استشارات، فهو ليس دوار عمدة لمضيعة الوقت وتمضية النهار فى النميمة والدسائس. 

لم يكن أحد يدخل على دون موعد مسبق، كان هناك استثناء واحد من نصيب السفير الكوبى، الذى كان نقيب صيادى الأسماك فى بلاده، قبل أن تسند له مهمة دبلوماسية ويتم ترفيعه لمنصب سفير كوبا فى القاهرة. 

كان لقائى معه من أقصر المقابلات. 

يدخل على، يسألنى عن حالتى وحال الأوضاع فى مصر؟ 

أرد عليه: نحن الاثنان بخير. 

يسلمنى علبة من السيجار الكوبى ويستأذن منصرفا... وكان هذا كل شئ. 

لم أفكر أبدا فى الإقلاع عن تدخين السيجار رغم مطاردة الأطباء لى. 

كنت أقول للجميع ما الذى يجعلنى أقلع عنه ما دمت معتدلا فى تدخينه، ميزته أنه يمكث طويلا فى يدى خاصة إذا ما انشغلت عنه. 

(8)

لعبة الطاولة تحتاج إلى براعة، ولكنها فى الأساس تعتمد على ضربة حظ يتمناها اللاعب وقد تقع له أو لا تقع، ولعبة الشطرنج مسألة أخرى تماما، أساسها قانون للعبة، وحساب، ثم حركة. 

فى تصرفاتنا باستمرار انتظار واعتماد على ذلك المجهول الغامض، ضربة الحظ التى تقع أو لا تقع، وبعدها نسعد أو نحزن، يتوقف الأمر على مهارة اللاعب أو خيبته، على يمن طالعه أو نحس ذلك الطالع.

(9)

عشت باعتقاد واضح أن جسم الإنسان هوالوعاء الذى يضم كل الحواس وكل الملكات، وإذا لم تكن تقوم بجزء من الجهد البدنى العضلى المتمثل فى الرياضة بالدرجة الأولى، فإنك ستفقد شيئا ضروريا للياقة الإنسان، ولهذ السبب كنت دائما أمارس الرياضة، وإن اختلفت وسائل ممارستى لها. 

فى وقت من الأوقات كنت أؤدى فقط تمرينات سويدى، وفى مرحلة أخرى كنت ألعب التنس، وفى مرحلة أخرى كنت أعوم بانتظام، حتى وصلت فى النهاية إلى أن أمارس الجولف. 

مراحل حياة الإنسان عادة لا تشكلها إرادتنا، لأن إرادتنا متفاعلة مع ظروف كثيرة مختلفة، ولا أتصور أن تخصص مرحلة معينة من حياتك للتنس، وتخطط مرحلة بعدها للجولف.

 لا... هذا لا يحدث، لأن الحياة تنساب انسيابا طبيعيا، وقد تشعر بأنك تريد المجهود البدنى، وتشعر بأن الرياضة تعطيك شيئا مختلفا، وأنا أعتقد أن كل رياضة تعطيك شيئين. 

الشئ الأول: المجهود البدنى المطلوب للياقة الجسم وتعلم التصارع أو المنافسة مع الأشياء بطريقة طبيعية. 

الشئ الثانى: إنها ودون أن تحس أو تخطط تعبر عن احتياجاتك فى مراحل مختلفة من عمرك. 

أنا فى مرحلة معينة كنت ألعب التنس، وهو يعلمك رد الفعل السريع، يعلمك التنبه وأنت ترى الكرة وهى قادمة إليك بسرعة، يعلمك سرعة اتخاذ القرار أين ستقف؟ وكيف سترد الضربة؟ 

الجولف فى اعتقادى فيه مزايا عديدة. 

من أولها أنك تبدأ يومك بين الخضرة وهى بداية صحية فى جو نقى، وأنا أمارس الجولف مبكرا، لأننى أبدا عملى فى تمام الثامنة والنصف صباحا، فطبيعة عملى تقتضى – وكان هذا صحيحا طول الوقت – أن أكون موجودا فى مكتبى أوإطار مكتبى لمدة ثمانى ساعات دون إنقطاع أو إزعاج، سواء كنت أكتب أو ألتقى مع بعض الناس، أوأى شئ آخر.

وهناك مسألة مهمة وهى أننى لا أريد للرياضة أن تتعارض مع مواعيد عملى، وقد حدث أن قال لى بعض الناس لماذا لا تذهب فى العاشرة صباحا بدلا من هذا الوقت المبكر؟

 وبالطبع لا أستطيع أن أفعل.

 أولا لأنك لو ذهبت إلى مكتبك مباشرة بعد الخروج من فراشك فسوف تكون نصف نائم.

 وثانيا لأن عدم البدء بالرياضة سوف يبددد ساعات اليوم وسأقطع عملى إذا تركت ممارستها فى وقت غير محدد، والكتابة تحتاج إلى أوقات محددة واستمرارية فى العمل. 

كثير من الناس فى السياسة يلعبون الجولف، لأن هناك علاقة قوية بين السياسة والجولف، وفى اعتقادى أن الجولف قائم على سيناريو معين، يبدأ من نقطة بداية، وينتهى فى نقطة نهاية، وهناك بداية محددة ونهاية محددة، وبين الاثنين فى الغالب مسافات متفاوتة.

أنت تقف فى مكان تمسك كرة وعصا، الكرة لها مساحة فى النهاية سوف تضعها فى حفرة – فيها وعاء معدنى أشبه بالكوب غائر فيها – تتسع بالكاد، وإذا حدث وبدأت فى التصويب على الحفرة من الضربة الأولى مباشرة فلن تصل أبدا، فأنت لديك عدد محدد من الضربات فى كل حفرة، وهذا يعطيك: 

 أولا: أن تتعلم كيف تصل من نقطة بداية إلى نقطة نهاية بعدد معين من الضربات، وعليك أن تحسب طاقتك وقدرتك. 

ثانيا: لابد أن تنتقى العصا المناسبة للمساحة التى تريد أن تقطعها. 

ثالثا: أن تختار اتجاهك فى الضربة بما فيه تصور اتجاه الريح، وما يمكن أن تفعله فى العصا. 

كل هذا لا تستطيع أن تفعله واعيا، فأنت تختار العصا وتحدد اتجاه الريح وتأخذ زاوية الضربة بطريقة أوتوماتيكية تقريبا، وكما نعرف أن كل الأشياء التلقائية التى نقوم بها فى حياتنا هى وليدة اعتياد، والاعتياد ناشئ عن تدريب، والتدريب قائم على فكرة معينة.

 وعندما تبدأ فى الضرب فإنك تأخذ الاتجاه العام للهدف، محاولا الوصول إلى قدر ما تستطيع الوصول إلى أقرب نقطة له، وطوال الوقت الذى تفعل فيه ذلك هناك عملية شحن لملكاتك كلها، ملكات تحديد ومرحلة وصول إلى هدف، وكل هذا له علاقة وثيقة بالسياسة. 

من زاوية أوسع وطوال الوقت كنت ألاحظ شبها بين ممارسة السياسة وممارسة لعبة الجولف، ملخصه كلمة واحدة التكتيك، بمعنى أن من يحاول أن يستخدم عصا واحدة، ومن ضربة واحدة، ليدخل الكرة فى الحفرة، لن يقدر ولا يستطيع. 

هناك عدة ضربات محددة. 

 الوصول للهدف بحده الأعلى أو الأدنى من المطالب الشعبية مستندا على جهدك وحيوتيك. 

  تنبيه إلى مكان ومكانة وتاريخ وهوية وقدرة وهمة وعلى اختيار العصا المناسبة للضربة القادمة. 

 دفع الإمكانيات والإرادة واختيار اتجاه الضربة بما يتناسب مع حركة الرياح. 

  حشد وإدارة ما يملكه الشعب من موارد طبيعية وإنسانية وتاريخية واستراتجية واقتصادية وثقافية. 

لعبة الجولف تجعلك تمشى طول الوقت ولمسافات طويلة، والمشى أحسن وأرخص وأجمل رياضة فى الدنيا.

 ومن فوائد الجولف أيضا أنك تستطيع أن تلعبه بمفردك، لأنه من الممكن أن تلعبه بمقاييسك ضد الأرض، كما أنه يعطيك فرصة للتفكير والتأمل. 

بعد أن كنت ألعب التنس بدأت أشعر بأنه يتعبنى، وربما أن هذا الأمر له علاقة بالسن، وعندما كنت فى الأهرام كان التنس أفضل لى لأنه لا يتطلب وقتا أقل، وكان من الممكن أن تلعب التنس وتذهب إلى عملك مباشرة، إذ يكفى منه نصف ساعة أو 35 دقيقة.

 وبعد أن تركت الأهرام بدأت ألعب الجولف ربما لأننى شعرت بأن التنس أصبح لا يناسبنى، أو ربما أننى شعرت بأننى لا أحتاج السرعة أو سرعة رد الفعل، وربما أنه أصبح لدى وقت أطول، ولم أعد أسهر كثيرا فى حين أننى كنت أضطر للسهر وأنا فى الأهرام وكان مديرو التحرير لهم الحق فى إيقاظى فى أى وقت لأمر يرونه ضروريا. 

ولهذا كنت ألعب الرياضة دائما مبكرا، فأنا أشعر بأنه لا ينبغى أن يقتطع ما يخصنى شخصيا من وقت عملى. 

الرياضة ضرورة ولازمة للإنسان لزوم الأكل والنوم، وقد حاولت أن أجعلها خارج وقت التزامى العام لا تطغى عليه، ولا تأخذ منه، ولا تخصم وأذكر أننى فى كل مكان اشتغلت فيه كان الناس يضبطون ساعتهم على موعد دخولى فى الثامنة صباحا. 

الجولف ليس رياضة أثرياء كما يتصورها الناس، ورغم أننى أعرف أنها مصنفة هكذا فإنها ليست كذلك، ولا أرى أن تكاليفها فى النهاية كبيرة جدا، وأنا عندما أحسب مصروفاتى الشخصية ما هى؟ أجدها لا شئ سوى الجولف تقريبا. 

ويكاد يكون الجولف هو الشئ الوحيد الذى أفعله لنفسى، وقد أشترى قميص جولف، بلوفر، حذاء، ومع هذا فأنت فى أى رياضة أخرى تشترى نفس الأشياء، صحيح أن تجهيزات الجولف أغلى من الباقين لكن أرقامها ليست خيالية. 

لست ساذجا حتى أتصور أن أى رجل فى أى قرية مصرية يمكن أن يلعب الجولف، تماما مثل أن أى رجل فى أى قرية مصرية يمكن أن يقرأ كتابا.

هناك بالقطع تفاوتات بين الناس فى درجة الاستعداد، وفى درجة الكفاءة وليس التفاوت بالميلاد، أو بالملكية إطلاقا، وقد يكفى أن أقول إن أكبر أغنياء مصر لا يلعبون الجولف، بل لا يلعبون الرياضة ولا يقتربون منها، وهم مشغولون جدا بجمع المال، ولهذا ربط الرياضة بأثرياء وفقراء تصنيف غير صحيح. 

أفضل مكان لعبت فيه الجولف فى سويسرا، قرية كرانس مونتانا، وهى منتجع للتزلج فى قلب جبال الألب السويسرية، وهناك نادى فى كرانس سورسيير، وهو على هضبة مطلة على وادى الرون، وفى مواجهته مرتفعات مون بلان، وعادة ما كنت أقيم بفندق صغير هناك. 

وفى لقائى الممتد مع الرئيس مبارك الذى استمر ست ساعات، قلت له شيئا عن لعبة الجولف، وكيف أنها خير معلم للسياسة، وسألنى: كيف؟ 

شرحت على قدر ما أستطيع لعبة الجولف، وعلاقتها الوثيقة بالعلوم الاستراتجية، واستمع إلى باهتمام، ثم كان تعليقه: لكنها لعبة تأخذ وقتا، وأنا أفضل السرعة ولذلك ألعب الإسكواش، وهى لعبة موصوفة للطيارين لشحن قدرتهم على الاستجابة السريعة. 

(10) 

لم أنتم كرويا أبدا، كنت عضوا قديما فى النادى الأهلى، ومع ذلك فلم أكن أهلاويا ولا زملكاويا.

أولادى فقط لهم اهتمامات عميقة بالكرة وجمعيهم أهلاوية، وكان بعض أحفادى زملكاوية، ولم أكن أعرف أحدا من نجوم كرة القدم اللهم إلا صالح سليم لأنه صديقى، وتربطنى به صلة قرابة. 

 (11) 

هناك أشياء أنا على المستوى الشخصى أخاف منها جدا، على سبيل المثال أخاف من الهزات الأرضية، فحيال الظواهر الطبيعية لا يمكنك أن تقوم بشئ، وهذا ما كان يثير خوفى دائما. 

هناك الخوف الذى أدركته فى تجربة الحرب، عندما عملت مراسلا من أرض الحروب فى بداية حياتى المهنية.  

لا تصدق من يتباهى بأنه لا يخاف، فعندما يواجه أول دفعة من الانفجارات فى أرض القتال، فمن الأكيد أنه سيخاف، لكن هناك فرقا بين الخوف والهلع، أسوأ ما يمكن أن ينال من الإنسان هو الهلع، الهلع معناه أن تتصرف بمسلك أحمق، قد يجعلك تضيع روحك. 

من الفطرة أن تخاف، ولكن من الهام أن تبقى هادئا.

هناك نوع من الخوف لا آلفه، بل أظنه ترفا بالنسبة لصاحب رأى، وهو الخوف الأخلاقى، أى لا تخاف معنويا، أو تخاف من هيلمان، إذا خفته فابتعد عنه، لا يليق أن تخاف من التزام طالما اقتنعت به، أو أن تخاف من سلطان طالما قبلت بمعارضته.

 الخوف الأدبى أعده عارا مهما كانت الأسباب، بل شاهدا على الخلل العقلى، لأن صاحبه لم يتيقن من قياس شجاعته وصرامة الآخرين، الخوف ترف وحيد ليس ممكنا أن أتجرأ به على نفسى، كما لا يقدر على ذلك أى صاحب رأى وإلا كان الأجدر به أن يغلق فمه ويصمت.

والحرية لا تكون حرية إلا فى زمانها وفى أوانها. 

 والشجاعة لا تكون بأثر رجعى أمام القبور وليس أمام القصور.

 ولكنى أؤكد أننى لم أشعر بخوف فى أية لحظة، يوم أن أتوا ليقبضوا على طلبت منهم بأدب فسحة من الوقت لتجهيز حقيبتى، حتى أستوضحهم عن المكان الذى سنقصده، لعل ما كان يؤرقنى عندها إذا كانوا سيبقون معى كتبا أم لا؟ 

(12) 

كان من سوء حظى أو من حسن حظى – لا أدرى – أننى زرت فى يوم من أيام يناير سنة 1953 مدينة هيروشيما التى كان من نصيبها أن تكون أول بقعة على الأرض تلتقى وجها لوجه بالقنبلة الذرية. 

وكانت القنبلة الذرية فى بداية عمرها ولم تكن قد وصلت إلى الذى وصلت إليه بعد ذلك، والذى يقدره العلماء بأنه أشد تدميرا مما كانت عليه أيام هيروشيما بألف مرة على الأقل، ولقد قتل فى هيروشيما 168000 شخص من تأثير هذه القنبلة التى كانت يومها فى بداية عمرها وأصبحت الآن أقوى مما كانت ألف مرة على الأقل. 

 تقدم إلى وأنا واقف أتفرج على بؤرة الانفجار فى هيروشيما، شاب يابانى يحمل مجموعة من تذكارات انفجار القنبلة الذرية يبيعها للزوار. 

وعرض على اليابانى أنواعا من التذكارات رأى أنها لم تثر حماستى فإذا هو يقدم لى زجاجة صغيرة فيها حفنة رماد، ثم يقول لى: هذه بقايا طفلة لم يبق منها إلا هذا الرماد، هل تحب أن تشتريها وتحتفظ بها فى بيتك وتقول أن لديك رمادا ذريا لطفلة من هيروشيما، إن الثمن رخيص.. ألف ين فقط. 

وتأملت الرماد الحزين، ثم هززت رأسى وقلت: شكرا إن ثمنه غال بالنسبة لى. 

لم يفهم بائع التذكارات اليابانى فى هيروشيما فعاد يقول: خذها بخمسمائة ين فقط، ها هى. 

ومرة ثانية هززت رأسى وقلت: شكرا ما زال الثمن غاليا، لست أقصد الثمن بالين اليابانى، حتى لو أعطيتنى الرماد من غير ين واحد، سأظل أرى أن الثمن غال، هل فهمتنى. 

ولم يبد عليه أنه فهم، ولكنه مضى إلى حال سبيله على أى حال. 

(13)

لابد أن تدرك أن الحياة كأى كائن فيها فترة نمو وفترة صبا وفترة شباب، ثم فترة نزول وانحدار فى كيانك كلحم ودم. 

عندما تجاوزت بعمرى إلى سنواتى السبعين كنت أعرف أننى فى سن متأهل جدا للمرض، وعندما جائتنى آلام الكلى لم أكن قلقا لأن هذا هو الطبيعى، فهذه سن الأمراض التى تتواعد معى.

 كنت سعيدا أن الأمراض تركتنى فترات طويلة أعمل، فإذا جاءت بعد ذلك فلعله موعد الاستحقاق الضرورى لزيارة الأمراض، ولما ذهبت لإجراء العملية لم يكن الطبيب يعلم عنى شيئا، وتدخل البعض للموعد الفورى واستجاب الطبيب دون أن يفهم سر الاهتمام بى. 

كل الذى كان يعرفه الطبيب أنى صحفى فقط.

 قال لى: إنه قبل إجراء الجراحة كانت هناك حالتان لرؤساء دول عربية. 

وقلت للطبيب الجراح: لا تقلق على، أنا أعتبر نفسى محظوظا لأنى عشت زمنا معقولا دون أمراض، والحمد لله أنك ستجرى العملية وتزيل كيس جوار الكلى، لابد أن أعترف أنه كان هناك وربما يكون هناك خطر على. 

إنى من الذين يعتقدون أن الموت جزء من الحياة. 

وحياتى هى استمرار فى أولادى وأحفادى.

 هناك أيضا فرق بين العمر والحياة، فنحن ربما لا نحب العمر ولكننا نحب الحياة أكثر، لقد كنت مستعدا للعملية ولم تكن صغيرة. 

بعد العملية أفقت من البنج ناولنى الجراح سماعة التليفون، لأن رئيس دولة عربية كان معه على التليفون ليتأكد أنى بخير، وقد قلت لنفسى: إن الأمراض رفيقة بى وجاءت متأخرة، وقد أمهلت بأكثر مما ينبغى. 

(14)

لم يكن فى الموت أبدا ما يخيفنى.

ولم يكن فى الفكرة نفسها ما يفزعنى. 

لقد كتبت ظرفا مقفولا إلى زوجتى، وفيه نعيى، ورسمت فيه جنازتى، هذا لا يخيفنى. 

 إن ما فعلته فى حياتى يجعلنى لا أنظر ورائى فى غضب، بل أشعر بالرضا، وأقول أننى نسبيا عملت الكثير فى حياتى، بقدر ما استطعت جريت، وبقدر ما جريت نجحت...  وربما لم أنجح.