الأحد 19 مايو 2024

"ما وراء الطبيعة".. أصلي وممتع رغم "كلاشيهاته"

فن8-11-2020 | 15:58

تتمثل أهمية مسلسل نتفليكس الجديد "ما وراء الطبيعة" في أنه يفتح باب جديد أمام التجارب المصرية للظهور عالميا وأخذها مأخذ الجد إنتاجيا من خلال تلك المنصة الهامة، وهي تستحق ذلك بجدارة، بل ويستحق العمل أن يكون الممثل الأول للإبداع المصري عليها. 

نعرف جميعا أن العمل الذي طرح موسمه الأول الخميس الماضي، مأخوذ عن سلسلة الروايات الشهيرة بنفس الاسم للكاتب المميز الراحل الدكتور أحمد خالد توفيق، وهي سلسلة لها إطار مصري أصيل من البطل الي قصته الى الشخصيات من حوله، وهو العنصر الأساسي المشترك ما بين المسلسل وسلسلة الروايات، ولذلك كان العنصر الأكثر قوة في المسلسل، ويبدوا ذلك في رسم الشخصيات بتفاصيلها النفسية وتاريخها الدقيق وخاصة "رفعة إسماعيل"، ولكن بعيدا عن السلسلة "التي لم أقرأها" وما حوته.

لابد أن يختلف التقييم كلية ما بين الإطار الروائي القصصي والإطار الدرامي التمثيلي صوتا وصورة.. تنساب المشاهد وأحداثها بشكل منطقي ومنضبط زمنيا فلا هو بطئ ولا هو سريع، حتى أن التتابع البصري ممتاز ومريح ويظهر فيه المجهود الكبير، ولم يكن لتكتمل تلك الإنسيابية بلا هذا الحوار الشيق الأخاذ، والذكاء في التمهيد للأفكار وطرح الأحداث المتماسك تماما فلا يترك للمشاهد ثغرة واحدة تسقطه من الحالة العامة للعمل بل نجحت ف جعله مستثار من اللحظة الأولى الى الأخيرة متلهفا لمعرف المزيد وماذا بعد؟، حتى أنك بعد الانتهاء من الحلقات الـ 6 تثق تماما في أنهم جميعا كتبوا معا وليس حلقة تلو حلقة كما يحدث في الكثير من الأعمال. 

هناك الكثير من العناصر القديمة والمستهلكة بالعمل، التي على الرغم من ذلك لم تزعجني، بل أعجبني الكثير منها، أعجبتني كثيرا تيمة لعبة "الغميضة" وهي ليست جديدة، كما أعجبتني تيمة الطفلة المغدور بها ظلما والمنزل المهجور الذي يلعب حوله الأطفال والفكرتين مستهلكتين تماما، كذلك إكتشاف البطل الدائم أن ظنونه التي بنيت مبررة على الأحداث لم تكن حقيقية وأنه ظلم الفتاة "الشبح" وهي بالطبع فكرة مكررة، حتى تجسيد شخصية "لوسيفر" الذي يرافق البطل كصديق "بني آدم" ليست بالجديدة ونذكر جميعا أخر تطبيق لتلك الفكرة في فيلم "الحارث"، بالإضافة لـ"البومة" التي تصاحب كل بداية حلقة وتبدأ بها أولى الحلقات على الشجرة كما تنتهي بها وهي شعار سلسلة الروايات وموجودة على كل الأغلفة لو نذكر، تلك العناصر التي على الرغم من تكرارها في مثل تلك الأعمال، لكنها تحسب لهذا الفريق الذي نجح أن يجنب المشاهد أي ملل أو شعور بالغربة. 

من أروع عناصر المسلسل المتعة البصرية، إذ نجح المخرج سواء عمرو سلامة أوماجد الأنصاري، في استخدام كل العناصر قدرما يستطيع، الإضاءة الخافتة والألوان الباهتة المثيرة للغموض، الذكاء الواضح في اختيار زوايا التصوير، تطويع المشاهد الواسعة "اللونج شوت" بشكل رائع وخاصة في الصحراء والقرية ومشاهد القمر العالي ومشاهد الارتفاع، كما برع في مشاهد الأحلام المرعبة التي أظنه يستحق عليها جائزة كما يستحق منفذها جائزة، بل أظنها أكثر تأثيرًا وواقعية من أحلام "الفيل الأزرق" رغم ما تحمله من عبقرية في التنفيذ، بينما كان أسوءهم مشاهد "العساس" ذلك الكائن الذي يشبه الغوريلا والذي جسدت جرافيكيا بشكل ساذج وغير احترافي وأقرب الى الكارتون. 

بينما كانت الموسيقى التصويرية والمؤثرات السمعية لـ"خالد الكمار" رائعة وموحية وتدفعك للاندماج مع الأحداث دون مجهود، لولا أنك عندما تركز معها وتنصت لها تتكون في خيالك مشاهد أفلام الرعب التقليدية وخاصة مع إضافة "همهمات طفلة" لطالما أعتدناعليه، كما قد تتذكر في حينا أخر موسيقى سلسلة هاري بوتر الشهيرة، وخاصة في المقدمات وتتر النهاية، التي من الواضح تأثر المؤلف الموسيقي بها وارتباطها في ذهنه بأجواء الغموض والألغاز. 

أما بالنسبة لفلسفة العمل، فإنه يطرح تساؤلا حول الماورائيات ويجيب عليه في النهاية بصورة شمولية مطلقة، فهل وجود "لوسيفر" هو الدليل على وجود "الماورائيات"، أم أنه محدثها وممثلها الوحيد، هل هو من قتل "رضا" و"طلعت" وكاد يقتل "هويدا"؟، هل له مثل تلك القوى والتأثير؟ هل هو "الجاثوم"؟ كما نجح العمل في الربط بين الحقيقة الواقعة والخيال الذي نضفيه بعقولناعلى الأمور وتأثير هذا الخيال على الواقع أو العكس، وهي إشكالية جدلية واقعية وأزلية ما بين الانسان والكون، وكذلك الصراعات الثلاث الأساسية في الحياة كما أحب أن أقسمها شخصيا، صراع المرء مع ذاته وصراعه مع العالم من حوله وصراعة مع شيطانه. 

يحسب للطاقم اختيار موضوعات قريبة من المتفرج المصري وخرافاته كـ"النداهة" وهي ليست بالأفكار الجديدة بالطبع، خاصة إذا تذكرنا حلقات مسلسل "أبواب الخوف"، وإن كنت أعيب عليها شعوري الخاص بالغربة عن البطل الذي جسد دوره الفنان "عمرو واكد"، ولكن مسلسلنا الجديد بطله ذو خلفية ريفية وهواجس ومخاوف يعيشهات كل مصري تقريبا، بالإضافة للطابع الأسري المصري الحميمي رغم الشعور الدائم بالإغتراب عنها، كما يجدر الثناء على إضافة حوار ذاتي للبطل، يحدث به نفسه ونسمعه كمشاهدين، وهي الطريقة المفضلة لي لمعايشة وتجربة مشاعر البطل بنفسي وخاصة في المواقف الساخرة. أما عن طاقم التمثيل، فتحية كبيرة للعبقري أحمد أمين أو "رفعت إسماعيل" الذي أتوقع أن يلتصق به هذا الأسم لعقود قادمة، تلك الشخصية المصرية التي من حقنا أن نتباهى بها أمام عشاق شارلوك هولمز أو أجاثا كريستي، وأن كان لهؤلاء أصل من الواقع، فإنني أحب أن أرى رفعت إسماعيل كمسلسلات وأفلام وحلقات منفصلة ومن خلال أطر متعددة الشكل الإنتاجي. 

بالعودة لـ"أمين" فقد جسد "رفعت" بعبقرية، هيئة وملامح ومشاعر وإيمائات ونظرات وصمت وتعبيرات متنوعة ودقيقة وطبيعية ومن عمق أعماقه، حتى أنني بعد الانتهاء من الحلقات الست أشك في أنه لم يكن "يمثل" بل أنها شخصيته الحقيقية، ناهيك عن شخصية "رئيفة" التي عشقتها وأكن لتلك السيدة التي جسدتها وتدعى "سماء إبراهيم" إحتراما عميقا وكأنني اعرفها، انها تذكرني بأمي وسيدات عائلتي وجاراتي الطيبات، نموذج أصلي نقي وصادق وغير مفتعل أو باهت أو مقلد للأم المصرية، بملامحها و "تون" صوتها ونظراتها، فعلا أحببتها جدا. 

في المجمل أجد المسلسل ناجح ومسلي، وربما لا يمكنه وصفه بالمرعب، ولكن لازالت أفكار وهواجس "رفعت إسماعيل" تدور في متاهتي الخاصة بعد يومين من المشاهدة، وفي انتظار الموسم الثاني بفارغ الصبر.