في أحد الأيام كان الأديب يوسف القعيد حاضرا إلى دار الهلال
في الحادية عشرة والنصف صباحا، بينما كانت الكاتبة الكبيرة أمينة السعيد منصرفة، فقد
كان من عاداتها الثابتة أن تأتي مبكرة. وتنصرف قبل الظهر وتنجز كل أعمالها خلال ساعات
ثلاث تقضيها في دار الهلال. وكان القعيد يتعجب من تبكيرها. يقول: "فوجهها كان
غابة من التجاعيد. وكانت تمشي بخطوات قصيرة جدا.. أكثر قصرا من خطوات الأطفال. وكانت
تتكيء على عمي محرز سائقها الخاص.. والذي أصبح في سنوات عمرها الأخيرة بمثابة سكرتير
خاص لها. وكانت تملي عليه ردودها في بابها "اسألوني".
كان المرض قد هجم عليها بصورة لا تخطئها العين. وكانت آثاره
شديدة الوضوح في وجهها بالذات.. ومع هذا لم تدخل المستشفى ولم تسكن سرير بيتها بحجة
المرض. وقاومته بشدة. واجهت المرض بالعمل كعلاج.. كانت حريصة على الحضور إلى دار الهلال
في موعدها. والانصراف في نفس الموعد. كان التحصن وراء المواعيد نوعا من التشبث بالحياة.
أو على الأقل نوعا من الإعلان عن ذلك".
يصفها الذين عملوا معها في الدار، بأنها تميزت بالنظرة النافذة والرأي
الثاقب، وكان لها من وعيها بالمجتمع وهمومه ما ليس للكثيرين، فدراستها للحياة الاجتماعية
وخبراتها العميقة بالمجتمع وأحواله كانت عظيمة وعميقة. وكانت لا تعجبها آراء وأقوال
وأفكار متسرعة من بنات جنسها.
ذات يوم اقترحت إحداهن إحالة المرأة العاملة إلى المعاش المبكر
وهي في سن الأربعين؛ فوقفت السعيد في وجه تلك الدعوة ووصفتها بأنها تلتقي دون أن تدري
مع الدعوة المنادية بعودة المرأة إلى البيت. واعتبرت تلك الدعوة مجرد تأجير العودة إلى البيت
بعد مدة محدودة من العمل.
كان صوت السعيد عاليا ضد المتطرفين والمتعصبين، الذين
رأت أنهم يعملون على تقسيم المصريين إلى رجال ونساء بدعوى التقوى المزعومة وينصبون
أنفسهم لتحديد الحلال من الحرام، ويزعمون أنهم قوامون على الدين والدين الصحيح منهم
براء، وكانت تتساءل: هل لابد من تكفين البنات بالملابس وهن على قيد الحياة؟!
لمدة 40 عامًا ظل بابها الشهير "اسألوني" الذي
تكتبه بأسلوب قصصي؛ يتلقى أسئلة القراء ويجيب عليها، وكان من أحب الأعمال إليها، فقد
أكسبها خبرة كبيرة ومكنها من رصد متغيرات المجتمع المصري. ومن خلاله طالبت بحرية المرأة
ومنحها جميع حقوقها السياسية، وتعديل قوانين الأحوال الشخصية، وتقنين الطلاق ومنع تعدد
الزوجات ومساواة المرأة بالرجل في الميراث، لذلك تعرضت إلى الهجوم العنيف من
المتشددين الذي وصل إلى حد تهديدها بالقتل وبخطف أولادها، لكنها ازدادت إصرارا على
مقاومة الأفكار التي عفى عليها الزمن.
العمل الدائم أساس الحياة
كانت أمينة السعيد ترى أن "العمل الدائم هو أساس الحياة"، هذا
الدأب الذي رفعته شعارا قادها لتكون رائدة في العديد من المجالات، رغم كونها
الصعيدية الآتية من محافظة أسيوط حيث ولدت في 20 مايو 1914 ، لطبيب مشهور يدعى
أحمد السعيد، شارك في ثورة 1919، فألقى الاحتلال البريطاني القبض عليه وأبعده ثلاثة
أشهر عن أسيوط.
كان والدها يؤمن بأهمية تعليم الفتيات، فغرس في نفوس بناته
حب التعليم والتمسك بحقهن في إتمامه، وارسل اثنتين منهما للدراسة في إنجلترا،
بينما أدخل أمينة وأختا لها مدارس في القاهرة، ورحلت أربع أخوات أخريات وهن صغيرات.
كان والدها تقدميا
جدا في أفكاره، يؤمن بالمرأة ويتمنى رؤيتها مثل الرجال، فأعطى بناته القوة
والتشجيع العظيم، وزرع داخلهن الثقة والطموح والحرص على العمل. وعلى فراش المرض، جمعهن
وطلب منهن القسم على ألا يتزوجن إلا بعد انتهاء الدراسة الجامعية، فعاهدنه على
ذلك.
قدمت أمينة أوراقها للالتحاق بكلية التجارة، فتم رفضها
لأنها فتاة، فنصحها والدها بالالتحاق بكلية الآداب، ثم تمت خطبتها لمدرس بكلية الزراعة،
كان عليه الانتظار أربع سنوات حتى تنتهي من دراستها الجامعية، وكان متحضرا وتقدميا
هو الآخر فكان ينقلها بسيارته إلى مبنى الإذاعة أو المجلة التي تعمل بها وإلى الجامعة.
في الجامعة كانت أول من شجع الطالبات لممارسة الرياضة، وبدأت
تمارس رياضة التنس وهي ترتدي" شورت طويل". وعندما شاركت في ندوة عن مسرحية
"مجنون ليلى" لأمير الشعراء أحمد شوقي، خرجت الأصوات تقول: "وداعا للحياء"
لأن فتاة جامعية شاركت في الحديث عن مجنون ليلى!
تروي السعيد أن الفتيات في الجامعة كن يٌقابلن بالترحيب من فريق، والاستنكار من فريق ثان،
والرقابة الشديدة من فريق ثالث، ومع وصولهن إلى العام الرابع كانوا جميعا زملاء
وإخوة حقيقيين.
تعرفت أثناء الجامعة إلى زميلها مصطفى أمين الذي أوصلها إلى
الصحفي الشهير محمد التابعي، فقدمت له بعض القصص الاجتماعية لنشرها. أما زميلها محمد
فتحي "كروان الإذاعة"، فقد ساعدها على العمل في الإذاعة وكانت تترجم بعض
القصص عن الإنجليزية وترويها بصوتها عبر الميكرفون.
شاء القدر أن تتعرف السعيد على هدى شعراوي مؤسسة الاتحاد
النسائي، وهو الأمر الذي كان له أثر كبير في تكوين شخصيتها، فتعلمت منها الإيمان بقضية
المرأة، والمحافظة على المكاسب التي حققتها ومواصلة النضال. وبالفعل كانت أول كاتبة بعد "باحثة البادية"
تهتم بالشئون الاجتماعية.
الفناء
من أجل قضية
عملت أمينة السعيد بالصحافة تحت اسم مستعار قبل تخرجها فى
الجامعة، حيث اضطرت أن تعمل
دون علم أهلها. ورأى مصطفى أمين في نشاطها، اتصالاتها الواسعة، قوة شخصيتها،
وذكائها، ما يؤهلها لأن تصبح أول فتاة مصرية تعمل بالصحافة، وكانت تلك الفترة مليئة
بالكاتبات أمثال: مي زيادة، وباحثـة البادية ملك حفني، ومنيرة ثابت صاحبة مجلة روز
اليوسف.
وبعد تخرجها عام 1935 عملت بدار الهلال، كأول صحفية تعمل
بأجر ثابت، وأصبح لها باب ثابت حتى رحيلها باسم "اسألوني"، وفي 1954 اختارها
أمين زيدان، لتكون أول رئيس تحرير امرأة للمجلة الوليدة حينذاك ''حواء''.
وبعد رحيل الكاتب فكري أباظة، تولت رئاسة تحرير
"المصور"، ثم أصبحت أول سيدة ترأس مجلس إدارة دار الهلال، وشهدت المطبوعات
ازدهارًا في عهدها، وكانت أول صحفية تزور أمريكا والاتحاد السوفييتي، وأصبحت أول وكيل
لمجلس نقابة الصحفيين وعضوًا بالمجلس الأعلى للصحافة وبعد بلوغها سن المعاش أصبحت مستشارًا
لدار الهلال وعضوًا بالمجالس القومية المتخصصة وعضوًا بمجلس الشورى لدورتين متتاليتين. كما تولت منصب ''سكرتير
عام الاتحاد النسائي'' الذي أنشأته هدى شعراوي.
كانت السعيد ترى أن أخطر المشاكل التي تواجه المرأة العربية
تتمثل في المرأة نفسها، وأن الزوجة بلا كرامة والمحرومة من السعادة هي إمرأة في إجازة
عن العطاء وعن المشاركة في بناء الوطن.
وقبل رحيلها بأربعة أيام كتبت في ''المصور'': ''أفنيت عمري
كله من أجل المرأة، أما الآن فقد هدني المرض، وتنازلت النساء عن كثير من حقوقهن، فالمرأة
المصرية صارت ضعيفة، فلا خلاص للمرأة إلا بالنضال والأمل".
وفي صباح الثالث عشر من أغسطس عام 1995 بدار الهلال،
أغمضت أمينة السعيد عينيها إلى الأبد وتوقف خفقان قلبها، لتشيع جنازتها من نفس الدار
التي كانت شاهدة على مشوارها الطويل ورحلة كفاحها.