فى
كتابه "مسافر على الرصيف" كتب الكاتب الصحفى الراحل محمود السعدنى عن
نفسه قائلا:
أخوكم
العبد لله محمود بن عثمان بن محمد بن على بن السعدنى الذى ينحدر من أصول يمنية،
راقت له الحياة فى مصر فأقام فى الشرقية عدة سنوات من القحط والجوع وانتقلت منها
إلى المنوفية والغربية والإسكندرية إلى أن رست قواعده فى الجيزة.
لا
أحد من قبيلتى داخ السبع دوخات مثلما داخ العبد لله، أنا وحدى الذى داخ فى البلاد
وجالس العباد وصادف حوادث وكوارث يشيب لهولها الغراب، قطعت رحلة طويلة بلاد تشيل
وبلاد تحط من طنجة إلى مأرب، وعلى بلاد الهند أنا مريت، وفى اليابان عشت تحت الشمس
المشرقة ولقيت بلاد الأمريكان وأحببتهم وتمنيت أن نمشى على دربهم وأن نحقق فى خمسة
قرون ما حققوه فى قرن واحد، ومسحت القارة المحظوظة أوربا من مجريط بالعربى إلى
مدريد باللاتينى إلى برلين بالألمانى ومن دبلنالى لاهاى وفى أفريقيا نمت فى
الغابات وسرحت فى البرارى وعشت فى الجبال وصليت فى جوامع مسلمين وخالطت جماعة أكلة
لحوم البشر.. ما أطيب الجميع وما أرق قلبهم.. لكنى أموت ناقص عمر لو ذهبت إلى قبرى
قبل أن تكتحل عيناى برؤية بلاد الحب والموسيقى والثورة فى أمريكا اللاتينية، وأموت
ناقص عمر لو انتهى بى الأجل قبل زيارة سويسرا وأستراليا لكن على طول ما لفيت وعديت
ونطيت فى بلاد الله أصارحكم أن أعظم رحلاتى فى الحياة كانت بلا سفر.. رحلة قطعتها
عبر سنوات طوال على مقعدى فى مقهى بلدى فى الجيزة هى قهوة عبد الله، وعبد الله رجل
بلا شأن لكنه دخل التاريخ من أوسع أبوابه، المقهى أنواره باهتة ومقاعده مهمشة لكن
شهرته أوسع من ميدان الجيزة نفسه. التقيت فى هذا المقهى بعشرات من الأدباء
والشعراء والفنانين معظمهم تتلمذت على يديه وبعضهم زاملته وبعضهم تأستذت عليه..
نماذج من البشر لن يجود الزمان بمثلهم، اجتمعوا طويلا ثم انفضوا جميعا، بعضهم
اختطفه الموت، والبعض هرسه الزمن الغادر وبعضهم طرده الجمود والنكران إلا أنهم
جميعا من زبدة مصر وسحرها وحفنةمن ترابها، إنهم مصر نفسها وبدونهم ربما لا تكون
مصر. أسماء لمعت وأسماء انطفأت وخطوط طقطقت وخطوط اندثرت، بهم نشبت معارك وبسببهم
تحقق الخلود لأيام وحكمة الله أن رواد المقهى من الأدباء سلكوا طرقا مختلفة لكن
الغاية كانت واحدة وجميعهم هاموا حبا بمصر لكن أحد منهم لم يفز بها.. نماذج لن
تتكرر وشخصيات كان يكفى أن تأتى واحدة منها فى كل عصر لتزينه وتبهجه وتنشر النور
فيه: أنور المعداوى، زكريا الحجاوى، عبد الرحمن الخميسى، عبد القادر القط، زهدى،
عبد الحميد قطامش، عباس الشيخ، نزار قبانى، محمود حسن إسماعيل، نعمان عاشور، محمد
كامل حسين، عدنان الراوى، هاشم السمان، هذا جيل.
وبعده
جاء جيل آخر: صلاح عبد الصبور، يوسف إدريس، أحمد حجازى، صلاح جاهين، حسن فؤاد،
أحمد عباس صالح، رجاء النقاش، يوسف الحطاب ومحمد عودة.
امتدت
سياحتى فى قهوة عبد الله التى هى أهم سياحة فى العمر.. عشر سنوات كاملة بخيرها
وشرها، كانت حياة حافلة وجامعات كبرى للفلسفة والتاريخ والمنطق والفلسفة والأدب
والشعر والموسيقى وفن النكتة وعلم الكلام.